العلم ثلاثة أشبار، إذا بلغ الإنسان الشبر الأول تكبر واغتر، وإذا بلغ الشبر الثاني تواضع، وإذا بلغ الشبر الثالث علم أنه لم يعلم، هذه القاعدة العلمية الأصيلة يسقيها كل عالم أصيل لطلابه السائرين في بداية درب العلم الشرعي، لذا لا تجد من بين العلماء الحقيقيين متكبرا مغرورا، بينما تمتلئ الساحة الدينية بهذا الشبر الواحد المغتر بالقليل من المعلومات التي حصل عليها.
تجده دعيا للعلم متعاليا مستغنيا عن أي نصح، إذا سكت يريد من الجميع سماع سكوته، وإذا تحدث فعلى الجميع تلقف ما يقول بسعادة وسرور، فهو صوت الحق، والحق هو، وهو في حقيقة الأمر أقرب للتشبيه القرآني “كمثل الحمار يحمل أسفارا”، هم الواقع المرير الذي لابد من ثورة عليه، فهؤلاء الأشبار هم بيت داء المجتمع، بنشرهم عللهم بين الناس على أنها دين الله الحقيقي، يقول الشيخ محمد الغزالي: “أفسد شيء للأديان غرور أصحابها، يحسب أحدهم أن انتماءه المجرد لدين ما قد ملَّكه مفاتيح السماء، وجعله الوارث الأوحد للجنة! لماذا؟، هل كبح أهواءه؟، هل أمات جشعه؟، هل جنَّد ملكاته للتسبيح بحمد الله والاهتمام بآلام الناس؟، لم يفعل شيئا من ذلك، كل ما يملأ أقطار نفسه أن له بالله علاقة مزعومة، لا يعرف لها وزن..، إن صاحب هذا التدين يتوسل إلى أغراضه بما يتاح له من أسباب، بغض النظر عن قيمتها الأخلاقية، وقد كان بنو إسرائيل قديما مهرة فى ارتياد هذه المسالك المعوجة..، وقد حذر القرآن الكريم أهل الكتاب جميعا، المسلمين والنصارى واليهود من تجاهل فحوى الدين والتعلق بمراسمه، فهل يعي ذلك مسلمون تائهون عموا عن رسالتهم، فلم ينصفوها في فقه ولا في خلق؟، وهل ننتظر حتى يتحول اليهودي التائه إلى العربي التائه؟”.
لقد حذر العلماء قديما وحديثا الأمة من مثل هذا العالم والداعية والواعظ الشبر، وذكروه بالوصف الدقيق، وأسهبوا في ذكر أضداده من العلماء العاملين الأنقياء المؤمنين، وذلك حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة، فأفرد لهم ”أبو حامد الغزالي”، أبوابا في كتابه ”أصناف المغرورين” منها فصل “في غرور أهل العلم” يقول فيه: “ومنهم من علموا هذه الأخلاق الباطنة وعلموا آفاتها وكيفياتها، إلا أنهم للعجب بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عن الأخلاق المذمومة، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بها وإنما يبتلي بها العوام، ثم إذا ظهر على أحدهم مخائل الكبر والرئاسة وطلب العلو والشرف قال: ما هذا كبر، وإنما هذا طلب عز الدين، وإظهار شرف العلم، ونصرة دين الله، وإرغام أنف المخالفين، ومهما انطلق اللسان بالحسد في أقرانه، وفي من رد عليه شيئا من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسدا، ولكن قال: إنما هذا غضب للحق ورد على المبطل في عداوته وظلمه، ومنهم من اشتغل بالوعظ، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص والصدق ونظائرها، ويظن بنفسه أنه إذا تكلم بهذه الصفات ودعا الخلق إليها صار موصوفا بها، وهو منفك عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين، والأكياس يمتحنون أنفسهم في هذه الصفات ويطالبونها بالحقيقة، ولا يقنعون منها بالتزويق، ومنهم من استغرق أوقاته في علم الحديث وسماعه وطلب الأسانيد الغريبة العالية، وغفل عن التدبر في دقائق معانيه”.
إنهم سدنة الجهل والتخلف في هذه الأمة، وآن الأوان لينزاح عنا هؤلاء الأشبار الذين أثقلوا كاهل أمتنا قديما وحديثا، فلا همّ لهم سوى تغرير الناس وإضاعة جهدهم في قضايا هامشية تافهة، وجذبهم إلى صراعات وفتن لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وما ذلك إلا لسقم وعي في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم.
إن مراجعة الحيثية العلمية والنفسية للدعاة والمتصدرين لتعليم الناس لم تعد ترفا وإنما سببا من أسباب التقدم والارتقاء والتجديد المنشود.