د.نوال السعداوي تكتب عن الحسين(ع) في جريدة الأهرام المصرية
د.نوال السعداوى
إنه السبت 24 أكتوبر 2015 الساعة الرابعة مساء، وأنا أسير تحت المطر فى شارع ادجوير فى لندن، فى طريقى لألقى كلمتى فى مؤتمر نظمته الحركة النسائية الإنجليزية الشبابية الجديدة، لاستعادة حركة الأمهات الثوريات، التى ازدهرت فى ستينات ادجوير، الذى أصبح شارع العرب والمسلمين، يكتظ بالمطاعم والمقاهى العربية والإيرانية والتركية والباكستانية وغيرها، تتصاعد روائح الشيش كباب ..، تلتقط أذناى اللهجات الفارسية والتركية والإندونيسية والنيجيرية.
وبالطبع اللهجات العربية، من مصر والسودان واليمن الى سوريا ولبنان والعراق والمغرب والجزائر وتونس وليبيا، أصبحت أمة العرب جماعات مشتتة من المهاجرين فى جميع بقاع العالم، طبقا لفكرة «فرق تسد» للاستعمار البريطانى القديم «الأب الشرعي» للاستعمار الأمريكى الجديد ودولة اسرائيل والسوق الرأسمالية الحرة فى نهب الأموال.
أكاد أنسى أننى فى لندن لولا ملامح وملابس رجال البوليس الانجليزى الذين ظهروا فجأة فى الشارع الذى امتلأ بآلاف الآلاف لمظاهرة ضخمة للشيعة بملابسهم المميزة وأعلامهم الحمراء تحمل اسم الحسين بن علي(عليه السلام)، يسيرون فى صفوف لا نهائية، رافعين اللافتات، نقش عليها بحروف عربية وفارسية ولاتينية، النداء لإحياء ذكرى الحسين بن علي، العاشر من شهر محرم (يوافق 24 أكتوبر) ولافتات تحمل «تسقط داعش» والهتافات ودقات الطبول تتصاعد للسماء بأصوات الرجال والنساء والأطفال داخل عرباتهم الصغيرة تجرها الأمهات، وآلاف النساء بملابسهن السوداء من الرأس للقدمين، لكن الوجه مكشوف، لا يغطيه النقاب كما يفعل السلفيون بنسائهم.
أقبل نحوى شباب وشابات يتكلمون العربية، هاجروا بسبب الحروب المشتعلة فى بلادهم، يدرسون بالجامعات الإنجليزية أو يشتغلون بمختلف المهن، من أساتذة بالجامعات الى ماسحى الأحذية، تتألق عيونهم بالأمل رغم كل الصعاب، قرأوا كتبى بالعربية أو الإنجليزية، أخذوا يلتقطون الصور معي، لكل منهم محمول بحجم كف اليد، يقوم بالاتصالات والتواصل العالمى والمحلي، والتصوير والتويتر والايميل والفيسبوك وغيرها.. سألت أحدهم عن اسمه، قال أنا «علاء الخطيب» من قرائك يا دكتورة الذين يتابعون كتبك ومقالاتك، أعمل هنا فى لندن فى مجال الصحافة والإعلام.. وما هذه المظاهرة يا علاء؟
إنها مظاهرة لإعلان التضامن مع الإمام الحسين بن على(ع) ابن عم الرسول محمد(ص)، وقد تبنى هذه الأهداف: نعم للثورة من أجل الحرية والعدل، لا للاستبداد، لا للعبودية، لا للظلم، لا للفساد، لا لحكم بنى أمية، لا للتوريث. هذه الكلمات نطق بها الحسين وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ونحن نرفع أيضا شعار «تسقط داعش» التى تقطع الرؤوس، تقليدا لبنى أمية الذين بدأوا قطع الرؤوس فى تاريخ الاسلام، فقطعوا رأس الإمام الحسين، بعد أن رفض بيعة يزيد بن معاوية الذى أخذ الخلافة بالوراثة.
فى هذا اليوم ذاته كانت مظاهرة أخرى فى لندن، تنظمها حركة الحدود المفتوحة، مجموعة من الشباب الراديكالى الرافضين للحدود المغلقة أمام المهاجرين من البلاد الأخري، رافعين شعار: لا للقهر بسبب الجنسية أو الهوية. وفى هذا اليوم ذاته أغلقت شوارع نيويورك مظاهرة ضخمة لمدة ثلاثة أيام، رافعة شعار: انهض فى أكتوبر، ضد العنصرية وإرهاب البوليس الأمريكى الذى يقتل السود وذوى البشرة البنية الداكنة، يقود المظاهرة مجموعة من الثوريين الأمريكيين، منهم نوم تشومسكى وكورنيل ويست وكارل ديكس وجينا بلا فونت وايف انسلر، وجمال جوزيف وارتورو اوفاريل وستيفن فيلبس وغيرهم ممن شاركوا فى مظاهرات نيويورك ضد الرأسمالية الشرسة، فى حركة «احتلوا وول ستريت» عام 2011، وشعارهم 99% لا يملكون شيئا بينما 1% يملكون كل شيء.
أطباء نيويورك بقيادة الطبيب «برنارد لون» يشاركون فى انتفاضة أكتوبر 2015، أعلنوا أن الاطباء فى مواجهة سرطان العنصرية، يرددون كلمات «لوثر كينج» الذى اغتاله البوليس الأمريكى فى ستينيات القرن الماضي: الصمت خيانة وجريمة، منذ نشوء بلدنا وهذا السرطان الخبيث يأكل حريتنا وديمقراطيتنا الزائفة، العنصرية منطق العبودية الباقي، والثقافة الرأسمالية بنظامها الاجتماعى السياسى الاقتصادي، تملك القلة كل شيء وتحرم الأغلبية الساحقة من ضرورات الحياة، أيها الأمريكى انهض وحدد مع أى جانب تقف؟
هذه الانتفاضات ضد القهر العنصرى والطبقى فى كل العالم، أصبحت ظاهرة إيجابية، فشلت الرأسمالية فى تحقيق العدل والحرية للشعوب نساء ورجالا، وسرت فى طريقى ينعشنى المطر الى مؤتمر النساء فى لندن، كانت القاعة مكتظة بآلاف النساء والرجال أغلبهم شباب وشابات، تكلمت عن عودة الحركات النسائية بوعى جديد، يربط بين القهر العنصرى والطبقى والأبوى والدينى والجنسي، لا ينفصل فى التاريخ قهر النساء عن قهر العبيد والأجراء، قضية المرأة مثل قضية العنصرية والاستعمار والرأسمالية الشرسة، تقهرنا جميعا فى الشرق والغرب، النساء والرجال والشباب والأطفال، وقد بدأت الأجيال الجديدة تبحث عن جذور مشكلة النساء، وتربطها بالمشكلات الأخرى فى الدولة والأسرة، وفى العالم أجمع، وبالأمس تظاهرت النساء الإنجليزيات أمام البر لمان للمطالبة بالمساواة فى الأجر مع الرجال، معركة بدأت منذ قرن ولم يتم الفوز بها بعد.
*مقال نشر للكاتبة في جريدة الأهرام المصرية.
ك ح