ذكريات من الجزائر: الشعراء والطغاة

382

الدكتور
الدكتور إبراهيم العاتي

(فما عاش شعرُ إذ يموت عقيدةً!)

بقلم د. إبراهيم العاتي

لقد مر العراق خلال الحقبة الدكتاتورية بمحن جسام استبيحت فيها الحرمات، وانتهكت فيها حقوق الإنسان بشكل لم يسبق له مثيل خلال عصرنا الحالي، مما اضطر كثيراً من المثقفين وأصحاب الرأي(شعراء وأدباء ومفكرين وعلماء،..الخ) إلى الهجرة عن الوطن، وبخاصة في فترة الثمانينات التي كان الناس فيها يقتلون في جبهات الحرب من جهة وفي سجون صدام السرية من جهة أخرى. وهكذا بات جُل شعراء العراق كالجواهري والبياتي وجمال الدين والوائلي وبلند الحيدري وكثيرين غيرهم، مغتربين في الأقطار كافة، ذلك لأن نظام الطاغية لم يترك مساحة من الحرية، ولو قليلة، للمثقف كي يعبر فيها عن رأيه، بل وحتى أن يحتفظ به لنفسه، وإنما كان للنظام ما يشبه محاكم التفتيش التي تنقب في النفوس وتفتش في الضمائر، وكان على الأديب إما أن يجهر بالمعارضة فيلقى حتفه، أو يكون بوقاً للسلطة فيموت معنوياً أي يصبح (ميت الأحياء)، كما عبّرعن ذلك المتنبي!!

في تلك الفترة كنت في الجزائر، أدرّس في قسم الفلسفة بجامعة قسنطينة، ومدينة قسنطينة هي عاصمة الشرق الجزائري، وكانت إحدى قلاع العروبة والإسلام في الجزائر، وفيها أسس الشيخ عبد الحميد بن باديس (ت 1940) (جماعة العلماء) التي حملت لواء المقاومة الثقافية ضد مشروع (الفرنسة)الذي كان يهدف إلى إحلال اللغة الفرنسية والثقافة (الفرانكوفونية) محل الثقافة واللغة العربية، ليوهم العالم أن سكان الجزائر هم فرنسيون مسلمون وحسب!

وقد عقد مؤتمر في (جامعة باتنة) الجزائرية سنة 1986 حول (جدوى الأدب في عالم اليوم)، ودعيت له للمشاركة بقصيدة، وكان النظام العراقي يحاول تغطية جرائمه التي يرتكبها في الداخل بالمهرجانات التي يجلب لها أبواقا تمجد طغيانه من الخارج، ومثاله الصارخ حينذاك (مهرجان المربد) في صورته السابقة. وقد عرفت أن بعضا من شعراء الجزائر قد دعي إلى ذلك المهرجان، فمنهم من عاد وكتب منددا بما سمعه هناك من شعر يمجد الحاكم (وكأنه الواحد الأحد الأحد والفرد الصمد) بنص منشور!! والبعض الآخر صمت، وربما أيّد، وكان عدد من هؤلاء حاضرين في القاعة، فقلت في مقطع من القصيدة أوضح فيه حقيقة الرسالة الإنسانية التي يحملها الشاعر والتي تتنافى مع تمجيده للطغاة الذين يسفكون الدماء ويمتهنون كرامة الانسان، وكان الخطاب موجها للشعراء العرب الذين يأكلون من قصعة النظام، وللشعراء الذين حضروا ذلك المهرجان وسكتوا عما كان يدور فيه من بهتان وتمجيد للطغيان! قلت:

أيـا شامخاً لم تكسر الريح عوده       ويـا فارساً في الحق لم ينحنِ قهرا
تـأملـتَ أقواماً وعاصرتَ أحقباً              وعايشت في أمواجها المدّ والجزْرا
وجاهدت أن تجلو رؤاك نـقيـةً                    تـصوّرهـا نُبـلاً وتلمسها طُهرا
وفي وهج الإبداع تسكبُ مهجةً             لكي ترتوي من ريّهـا مهجٌ حَرّى
فـما راقهم أن يتركوك رسالةً                      تـحـارب جـلاداً وتستنكر الكِبْرا
فصرت إلى طاغً يسومكَ سلعةً                ويُحكِم في أبـيـاتِكَ القيدَ والإصْرا
تُـمجـد فرعوناً وتمدح حاجباً                 لـكي تبتني من ذُل أموالهم قصرا
فما عاش شعرٌ إذ يموت عقيدةً               ومـا عاش إنسانٌ إذا لم يكن حُرا
***

ولنترك ما حدث في قاعة المؤتمر من ردود فعل أغلبها مؤيد وبعضها مستفسر عمن أقصد أو أعني بشعري، فالمفارقة هو ما حصل في اليوم التالي في الجامعة، حيث دخلت إلى القاعة صباحا، وبعد السلام على طلبتي توجهت كالعادة إلى اللوحة لأدون بعض عناصر أو موضوعات المحاضرة ففوجئت ببيت من الشعر مكتوبا بخط جميل وكبير:

فما عاش شعرٌ اذ يموت عقيدةً                     وما عاش إنسانٌ اذا لم يكن حرا

فالتفت للطلبة والطالبات الذين كانوا يفيضون حماساً وحيوية قبل أن تنشر الدول النفطية المعروفة فكرها التكفيري في الجزائر، وسألتهم: كيف عرفتم هذا البيت، وإنه من قصيدة لي ألقيتها بالأمس؟ فاجابوا: نعم وهي منشورة اليوم في جريدة النصر يا أستاذ. فشكرتهم على ذائقتهم الشعرية وإدراكهم لظاهر النص وباطنه، واختيارهم لهذا البيت الذي أعتبره (بيت القصيد)، على الرغم من أنهم طلبة في قسم الفلسفة لا في قسم اللغة العربية!!

أقول ذلك ردا على أصوات دافعت عن بوق (غوبلزي) ضال، مجّد الطاغية الأهوج يوم كانت دماء العراقيين تتدفق أنهارا، واستمر على ضلاله حتى وفاته، وأذكّرهم أن الشعر رسالة إنسانية ترتقي بالإنسان، وليس مجرد كلمات مصفوفة منمقة لاروح فيها، وكأنها وجوه القتلة والسفاحين والطغاة التي يوصف بعضهم بأن له (وجه من رخام وقلب من خشب)…والعجب أن يدرك ذلك طلبة في مقتبل العمر، ويعجز عن ذلك شعراء تقادم بهم الزمن!!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*