إن المنظومة البشرية بألوانها وأطيافها واتجاهاتها المختلفة استطاع أن يصنفها الأمام علي رجل الإنسانية الأول ـ كما وصفه جورج جرداق ـ
صنفها في أحدى روائع الحكم في نهج البلاغة إلى ثلاثة أصناف حيث قال(ع): (الناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل رتج لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركنٍ وثيق).
وقد ذكر محمد عبده في شرحهِ للنهج: العالم الرباني المتأله العارف بالله المنسوب إلى الرب.
وفي خطية أخرى من خطب النهج أيضاً ورد ذكر الرباني حيث قال الإمام علي(ع) في مورد يصف فيه الفتن في آخر الزمان (فاتبعوا ربانيكم…)
أي العارفين بالله المخلصين الذين لا يرجون من الدنيا ومن الحكام بشيء المنقطعون إلى الله سبحانه.
ويؤكد الإمام(ع) على العلماء العارفين لأنهم اشد الناس مراقبة لأنفسهم وأكثر الناس ابتعاداً عن الهوى وأتباعه، واعدل الناس في الحكم ولأنهم أصحاب إشراقات نورانية، لا يحابوا أحداً على حساب الحق ولا يماروا عالماً بجدل عقيم لا طائل منة.
فهؤلاء العلماء هم أبهى تجل للرحمة الإلهية وأوضح الطاف الخالق بالمخلوقين، حيث يتم الالتجاء لهم في أوقات الفتن والهروب إليهم من المحن. وهؤلاء ورثة الأنبياء حقاً وحملة الرسالات الإلهية يقيناً وصدقاً، هذا هو الصنف الأول من الناس وهم أولى الناس بالإتباع. وهم قلة وأندر من الكبريت الأحمر.
أما الصنف الثاني فهو المتعلم على سبيل نجاة.
والمتعلمون الذين يسيرون على طريق النجاة أنواع. فمنهم من يصل وينجو ومنهم من ينقطع ولا ينجو.
فكثير من المتعلمين تعلموا العلم ليمارسوا به العلماء. لا لأجل التعلم وأخذ العبرة والفائدة. ومن المتعلمين من يخالجه الغرور وهو ليس على شيء فيرى نفسه اكبر بكثير من حجمه الحقيقي، وبذلك ينقطع عن مواصلة السير في سبيل النجاة ومنهم من تستقطبه الدنيا بزخارفها ولما يكمل الوصول فيضيع في شهوات الدنيا من حب للشهرة والمال ولا يوافق لما كان يصبوا له من مقام رفيع ومنزل عظيم فيما لو أتم طريقه نحو النجاة فلا ينجو ومنهم من يكون علمه وبال عليه فتحول نعمة العلم والتعلم إلى نقمة الجهل والتكبر.
فرأس مال العلم هو التقوى ولا فائدة حقيقية مرجوة من دون التقوى فهذا إبليس رغم ما كان يتمتع به من علم كما ينقل إلا أن علمه لم يغني عنه شيئاً.
ولذا قيل:ـ
لو كان للعلم غير التقى شرفاً لكان أفضل خلق الله إبليس
ومنهم من يسير يسراً حثيثاً نحو النجاة. فلا يشغله أمر مما ذكرناه ويقاوم كل الإغراءات ويحارب كل همزات الشياطين ونزعاتهم وكل نفحات النفس الإمارة بالسوء وما تريده النفس.
وهؤلاء هم من يصلون إلى النجاة ويحملون مشعل العلم. ويخلفون الصنف الأول في حال جاء اجل من كان فيه.
وهؤلاء، أي الصنف الثاني قلة وان كانوا أكثر من الصنف الأول لكنهم قلة والقلة منهم من يصلوا سبيل النجاة ويكملوا السبيل حتى نهايته.
والصنف الثالث والأخير وهم مع شديد الأسف الأغلبية الساحقة منذ ألف وأربعمائة عام وحتى الآن هم (الهمج) كما جاء في شرح النهج الحمقى من الناس إي الذين يغلب غضبهم عقلهم وتغلب شدة بأسهم حصانة تعقلهم، فهم في حالة غضبهم يكونون أداة بيد الشيطان يحركها كيف يشاء.
(و الرعاع) الأحداث الذين لا منزلة لهم في الناس الذين لا يقيموا وزناً لخلق ولا لعلم ويتبعون كل ناعق فلا يميزوا بين داعي الحق وناعق الباطل.
وهذا لعمري حال الكثير من الناس في المجتمع. ليس لهم من رادع خلقي أو ديني أو حتى عرقي ما أن يسمعوا كلمة يتبعوا من غير أن يميزوا أن كانت كلمة حق يراد بها حق أو كلمة باطل يراد بها باطل.
المهم لديهم أن تكون هناك دعوة لأمر ما فيسروا معها بلا تدبر أو تحليل لتلك الدعوة.
ثم يفصل الإمام(ع) صفاتهم أي الهمج الرعاع ـ يقول (يميلون مع كل ريح) أي أنهم لا يميزوا ما إذا كانت هذه ريح عاتية تريد تمزيق المجتمعات أو ريح طيبة تريد بناء الإنسان والمجتمع على أكمل وجه نحو الكمال ويعلل ذلك الإمام(ع) بسببين:ـ
أولاً: لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم فبقائهم في ظلام الجهل أولى بهم للسير خلف كل ناعق بلا معرفة.
ثانياً: ـ لأنهم لم يلجأوا إلى ركن وثيق والركن الوثيق مبين في التصنيف أي انه يعني الصنف الأول العلماء والربانيون الذين ما أن تمسك بهم احد حتى أبعدوه عن ظلام الجهل وعن إتباع كل ناعق.
وهذا ما يوضح أهمية ومركزية الصنف الأول أي العلماء الربانيون ـ في المجتمعات الإنسانية لأنهم البوصلة لأنهم البوصلة التي تشير دائماً إلى الحق وطريقه الذي يوصل إليه بأقل المخاطر وبدون تكلف المصاعب وبهذا نجد الإمام(ع) قد صنف الناس بكل دياناتهم ومذاهبهم وألوانهم وأطيافهم إلى هذه الأصناف الثلاث.
فحري بمن عرف هذه الأصناف أن يكون مع الصنف الثاني ويحث الخطى لكي يبقى سائداً على سبيل النجاة ويبتعد عن الصنف الثالث (الهمج الرعاع) لأنهم مشرفون على الهلاك والعياذ بالله.
والأولى أن يصل هذا التصنيف لكل الناس ليعرفوا مكانتهم من أي صنف ولينقذوا أنفسهم ويتبعوا ربانيهم.
والحمد لله رب العالمين
المصدر: (مجلة ينابيع – العدد 43 شهر رمضان – ذو الحجة، آب – تشرين الأول ١٤٣٢هـ – ٢٠١١ م)