معالمُ بلاغيةٌ في تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي*
691
شارك
م.م. رائد حامد المرعبي
معهد المعلمين/الديوانية
كان الاهتمام بالجانب البلاغي في الأندلس جزءًا من الثقافة التي كانت سائدة في القرنين السادس والسابع الهجريين، وكان من لا يأتي في كتاباته بالفنون البديعية والأغراب يعد قاصرًا عن فنون الكتابة(1).
وربما كان إحساس الأندلسيين بالعزلة عن العالم العربي والإسلامي عاملًا هامًا في عنايتهم بفنون البلاغة وغيرها من العلوم، إشعارًا منهم بمواكبة المشرقيين بما وصل إليه الدرس المشرقي.
ففي الشرق كانت كتب النقد الأولى تعد بمثابة حجر الأساس للدراسات البلاغية بعد أن عاش النقد والبلاغة مرتبطين دهرًا طويلًا قبل أن ينفصلا، والأندلسيون قضوا وقتًا طويلًا وهم يستمدون مقاييسهم النقدية من تلك الكتب، واستوعبوا ما فيها من فنون بلاغية كانت هي الأساس في مقاييسهم النقدية والبلاغية(2).
وصل هذا التراث البلاغي إلى أبي حيان فعمل على توظيفه في تفسيره، إذ يمكن عد هذا التفسير خلاصة لما كتبه علماء المسلمين الأوائل، (إذ تؤلف النقول المختلفة المادة الرئيسة للكتاب، وهذا شأن معظم كتب المتأخرين)(3).
ولا يعني هذا أنه كان مسلوب الإرادة أمام ذلك التراث، أو أنه سلم بكل ما جاء فيه، بل العكس من ذلك.
فمن يتمعن في تفسيره يجد هناك دومًا ردودًا بلاغية على مفسرين كالزمخشري(4) (ت538هـ)، وابن عطية(5)(ت546هـ) ، وغيرهم(6)، ممن صرح باسمه أو لم يصرح، إذ يدل ذلك دلالة واضحة على عقلية كبيرة وشخصية علمية واثقة من نفسها، وكأنه بحر تصب فيه روافد الأولين فيحويها، ويستسقي منها ما يشاء فيصوِّب، ويخطِّئ من يشاء بما يراه صحيحًا.
ومن تلك الردود ما قاله في رد (( دعوى الزمخشري في أبيات امرئ القيس الثلاثة، أن فيها ثلاث التفاتات غير صحيح، بل هما التفاتتان، الأول خروج من الخطاب المفتتح به في قوله :
تطـاول ليلـك بالأثمـد ونام الخلـي ولـم ترقــد
إلى الغيبة في قوله :
وبـات وباتـت لـهُ ليلـة كليلـة ذي العائر الأرمـد
الثاني: خروج من هذه الغيبة إلى المتكلم في قوله :
وذلك من نبـاء جـاءني وخبرتـه عن أبي الأسـودِ
وتأويل كلامه أنها ثلاثٌ : خطأٌ، وتعيين أن الأول هو الانتقال من الغيبة إلى الحضور أشد خطأً، لأن هذا الالتفات هو من عوارض الألفاظ لا من التقادير المعنوية(7)، ويبدو واضحًا أن رد أبي حيان كان موضوعيًّا بعيدًا عن التعصب المذهبي، فالبحث البلاغي محل الخلاف جاء في سياق الشعر وليس في آية من آيات الكتاب العزيز حتى ينحاز الظن إلى أن المسألة تتعلق بالخلاف العقائدي بين المذهبين ـ أي مذهب أبي حيان والزمخشري ـ فهو قد اعتمد على ذوقه الأدبي وحسه المرهف في توجيه المعنى البلاغي في هذا الموضع .
وهذه الخبرة البلاغية اكتسبها أبو حيان من التراث السابق لعصره، إذ وظفه بما يخدم النص القرآني، بيد أنه صرح بمن أخذ عنه فنون البلاغة، وذكر أن الناس قد صنفوا في ذلك مصنفات كثيرة ((وأجمعها ما جمعه …. الأديب الصالح، أبو عبد الله، محمد بن سليمان النقيب.(8)
وذلك في مجلدين فقدمهما أمام كتابه في التفسير، ومما وضعه … الأديب الحافظ المتبحر أبو الحسن حازم بن محمد بن حازم الأندلسي الأنصاري القرطانجي(9)،مقيم تونس المسمى منهاج البلغاء وسراج الأدباء وقد أخذت منه جملة من هذا الفن))(10).
غير أنه لم يقتصر على هذين العلمين، بل أخذ من غيرهما كأسامة بن منقذ(11)(584هـ) والرازي(12) ت(606هـ) ممن شكلوا بمجموعهم روافدَ لهذا التفسير.
وقد اتبع أبو حيان منهجًا بلاغيًا صرح به هو في مقدمة تفسيره، إذ إنه يختم الكلام في جملة من الآيات التي فسرها ـ إفرادًا وتركيبًا ـ بما فيها من علم البيان والبديع(13).
غير أن هذه المنهجية البلاغية لم تستمر طويلًا، إذ إنها كانت في الأجزاء الثلاثة الأولى من التفسير، ومن ثم تغير الأمر بعد ذلك إلى نشر المباحث البلاغية في سياق الكلام دون أن يميزها، أو يفصلها كما فعل في الأجزاء الثلاثة الأولى.
وربما يكون تجنب التكرار هو ما دعا أبا حيان إلى الإعراض عن تلك المنهجية، إذ حرص على أن لا يكرر ((الكلام في لفظ سبق، ولا في جملة تقدم الكلام عليها، ولا في آية فسرت ))(14).
مما حدا به إلى تغيير تلك المنهجية التي ألزم بها نفسه في مقدمة التفسير برمتها دون أن يقتصر على البحث البلاغي، وهذا لم يؤثر أو يقلل من أهمية التفسير، إذ إن طرحه بعد أن كان يقوم على تلخيص ما تم تناوله من مباحث بلاغية أثناء التفسير، أصبح يقتصر على تلك المباحث التي جاءت في سياق تفسيره للآيات وهذا مزية تحسب له لا عليه ، كي لا يثقل التفسير بما هو مكرر .
وقد كان للنزعة الظاهرية أثرها الواضح في بلاغة أبي حيان ((ولمّا كان المذهب الظاهري يقوم على الأخذ بظاهر النصوص))(15)، ظهر أثر هذه القضية واضحًا في باب الحقيقة والمجاز، إذ إن أبا حيان لم يجوِّز في كلامه ما جوّزه((النحاة … من سلوك التقادير البعيدة، والتراكيب القلقة، والمجازات المعقدة))(16)، بل يرى أن الأولى حمل اللفظ على ظاهره ما أمكن، والعدول عن الظاهر لغير مانع لا يتناسب(17).
فحمل الكلمات في الآيات على معانيها الحقيقية أفضل من حملها على المجاز(18)، إلا إذا توافرت أسباب تستدعي الحمل على المجاز(19).
وقد التفت أبو حيان إلى مسألة قديمة شغلت بال الأولين، ألا وهي مسألة إعجاز القرآن أباللفظ هي أم بالمعنى، وأجاب عن ذلك السؤال بأن الإعجاز القرآني هو في اللفظ والمعنى معاً، في معرض رده على من ذهب إلى أن التقديم والتأخير في القرآن إنما هو لأجل مراعاة الفاصلة كابن الأثير والعلوي عند مرورهما بقوله تعالى:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(الفاتحة : 5) ، إذ إن التقديم عندهما لمراعاة النظام السجعي الذي هو حرف النون، إذ لو قال : (نعبدك ونستعينك ) لذهبت تلك الطلاوة ولزال ذلك الحسن(20) .
وهذا ما لا يرتضيه أبو حيان الذي ذهب خلاف ذلك الرأي، فالتقديم والتأخير عنده (لا يقال لأجل السجع ، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل فيه وفي المعنى، والشاعر قد يقدم ويؤخر لأجل السجع، والقرآن. المعنى صحيح واللفظ فصيح)(21).
وهناك مَعْلمٌ بلاغيٌ آخر في تفسير البحر المحيط لابد أن نقف عنده، ونبين مغزاه، ألا وهو كيفية استخدام أبي حيان الأندلسي للمصطلح البلاغي في التفسير .
إن قراءة فاحصة لكيفية استعمال أبي حيان للمصطلح البلاغي، تظهر أنه قد جاوز في استعماله دلالة مصطلحات البلاغة الرئيسة (المعاني، والبيان، والبديع)، إذ أصبحت تلك المصطلحات ومصطلحات أخرى كالفصاحة والبلاغة كلها تعني عنده البلاغة العربية بشكلها العام. بل إن هذا الإرباك لم يقتصر على العنوانات الرئيسة للبلاغة العربية، بل نجده ينسحب على بعض الفنون البلاغية ونسبتها، فقد جعل التشبيه والمجاز صنفين من أصناف البديع في موضع من تفسيره(22)، وتارة عد المجاز ضربًا من ضروب البيان والبديع(23) ، وأخرى من ضروب الفصاحة والبديع مما يدلل بشكل أو بآخر على تجاوز أبي حيان لمصطلحات البلاغة الرئيسة، وما يؤكد هذا القول أن مصطلح (علم البيان) لم يرد في تفسيره إلا عند قوله تعالى: (كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ )( هود : 9) ، بقوله : (وقال أهل علم البيان : لم يرد في القرآن استطراد إلا في هذا الموضع)(24). والاستطراد من فنون علم البديع وليس البيان، مما يعني أنه قصد بأهل علم البيان البلاغيين بالمفهوم العام. وعلى أية حال فإن المصطلح الرئيس للبلاغة وعلومها لا يحظى بالأهمية بالنسبة لمفسر يعنى بالدرجة الأساس بمفاهيم تلك العلوم وتطبيقاتها على آي الذكر الحكيم.
وفيما يخص علم البديع شأنه شأن بقية المصطلحات، فإن أبا حيان نجده قد تجاوز دلالة العنوان (البديع)، كما أنه لم يصرح بقسمي هذا العنوان، أي المحسنات المعنوية واللفظية وإن كان قد ذكر أغلب فنون هذين القسمين.
ولم يكن غض الطرف عن عنوانات هذا العلم جهلًا من أبي حيان صاحب العقل الموسوعي بل يرجع إلى نظرته للبلاغة وهي نظرة مفسر يأخذ منها ما يخدمه في تأويل النص ويدخل ضمناً في صلب الموضوع، لا نظرة بلاغي يعنى بالتقسيمات والتفريعات.
هوامش:
* أبو حيان الأندلسي: هو أثير الدين محمد بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي.ولد بضواحي غرناطة سنة 654هـ ، كان مالكي المذهب، ثم اعتنق المذهب الظاهري الذي ظهر في الأندلس . وهو صاحب التفسير المعروف (تفسير البحر المحيط).
1) ينظر : النثر الأندلسي في عهدي (الموحدين وبني الأحمر) ، حسن أسعد (أطروحة) : 232-275 .
2) ينظر : تاريخ النقد الأدبي عند العرب ، نقد الشعر ،د . إحسان عباس : 405-505.
3) دراسات في اللسانيات العربية ، د: عبد الحميد السيد : 84.
4) ينظر : البحر المحيط : 1/111 ،112 ، 142 ، 240 ، 534 ، 3/9 ، 16،124 .
5) ينظر : المصدر نفسه : 1/112،227 ، 286 ، 304 ، 6/7 ، 23 ، 44 .
6) ينظر : المصدر نفسه : 1/149 ، 173 ، 2/28 ، 49 ، 32 ، 80 .
7) البحر المحيط : 1/142.
8) هو محمد بن سليمان بن الحسن بن الحسين البلخي الأصل الحنفي المفسر المعروف بابن النقيب ، مات في محرم سنة ثمان وتسعين وستمائة ، ينظر:شذرات الذهب :5/442.
9) هو أبو الحسن هانئ الدين ، عالم في البلاغة والأدب واللغة والعروض ، ناثر ، ناظم من آثاره : منهاج البلغاء في علم البلاغة ، والقصيدة الميمية في النحو . ينظر : بغية الوعاة :214 ، وشذرات الذهب : 5/387-388.
10) البحر المحيط : 1/107 .
11) ينظر : المصدر نفسه : 4/90 .
12) ينظر : المصدر نفسه : 1/108،135 ، 147 ، 302 ، 562 .