عصائر سامة.. “شرابت” قاتلة على موائد الجزائريين في رمضان

407

349الحكمة – متابعة: لم يكن الأربعيني الجزائري كمال بلهادي، يدرك أنّ اقتناءه كيساً بلاستيكياً من عصير “الشّربات” (مشروب رمضاني جزائري) من إحدى بائعات الأرصفة ببلدية بوفاطيس، في ولاية وهران غرب الجزائر، سيؤدي إلى وفاة وحيده البالغ من العمر 9 أعوام، إذ ظهرت على الصغير يوسف أعراض التسمم وأخذ يتقيأ عقب تناوله كأساً من العصير، ثم ارتفعت درجة حرارته حتى جاوزت الأربعين، وخلال هذه الفترة حاولت الأسرة علاج يوسف، غير أن حالته تدهورت ما استدعى نقله إلى المستشفى الجامعي 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1954 في وهران، وسرعان ما فارق الحياة في الأيام الأولى من رمضان.

عقب تحليل عينة من عصير “الشربات” من طرف مختبر المشفى، تبين أنها تحوي ملوناً اصطناعياً أصفر منتهي الصلاحية من نوع “E 100″ بنسبة عالية، ما تسبب في حدوث تسمم غذائي قاتل للطفل يوسف، والذي راح ضحية كيس من العصير الفاسد، سعره لا يتجاوز 40 ديناراً جزائرياً (ما يعادل 0.25 دولار أميركي)، كما يقول والده لـ”العربي الجديد”.

ارتفاع عدد حالات التسمم

وفقا لإحصاءات صادرة عن مديرية الجودة والاستهلاك بوزارة التجارة الجزائرية، خصت بها “العربي الجديد” فإن حالة تسمم الطفل يوسف ليست وحيدة، إذ تشير الإحصاءات إلى تسجيل 15 ألف حالة تسمم غذائي في الجزائر من عام 2013 إلى ديسمبر/كانون الأول 2015، فيما تم تسجيل 4854 حالة تسمم غذائي في عام 2014، وعرفت الظاهرة ارتفاعا ملحوظا خلال عام 2015 إذ سجلت 5562 إصابة بالتسمم الغذائي، منها 11 حالة وفاة، وتسبب عصير “الشربات” في 16 % من حالات التسمم المسجلة خلال شهر رمضان المنصرم (886 حالة)، وفقا لإحصائية مديرية الجودة والاستهلاك والتي لفتت إلى تسجيل أكبر عدد من المستهلكين المعنيين بحالات التسمم الغذائي في ولايات بجاية وتلمسان وبومرداس وباتنة.

وحسب إحصاءات خاصة بمديرية الوقاية الاجتماعية والبيئة بوزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات الجزائرية، فقد تم رصد 1166 حالة تسمم غذائي، وحالتي وفاة بين أول يناير/كانون الثاني وحتى 31 مايو/أيار من عام 2016.

أوانٍ قذرة لتحضير العصائر

من أجل توثيق ظروف تحضير وبيع العصائر الرمضانية المصنعة المعروفة بـ”الشربات”، رافق معد التحقيق أعوان الرقابة التابعين لوزارة التجارة الجزائرية، خلال دورياتهم في بلديات العاصمة، والتي تكثفت بالتزامن مع شهر رمضان، وخلال الجولة وثق “العربي الجديد”، تحوّل أغلب أرصفة وشوارع الأحياء إلى أسواق فوضوية لبيع “الشربات” المعروضة على طاولات تحت أشعة الشمس طوال ساعات النهار، ما يسهم في فسادها عبر تسهيل عملية تكاثر الميكروبات كما يؤكد الخبير في التغذية الدكتور محمد عياط.

ويؤكد الدكتور عياط لـ”العربي الجديد”، أن تعريض “الشربات” المعبأة في أكياس البلاستيك لأشعة وحرارة الشمس لوقت طويل، يساعد على تكاثر الميكروبات سواء البكتيريا أو الفطريات والتي بدورها تعمل على تنامي نوع من الجراثيم تسمى الليستيريا، والتي تصيب بالدرجة الأولى الحوامل والمواليد والمسنين وضعيفي المناعة بالتهاب السحايا والمعدة، كما تؤدي إلى زيادة معدلات الإجهاض لدى النساء.

لكنّ أخطر ما يصيب المستهلك في تلك القضية، حسب محمد عياط، هو وجود مادة حافظة تضاف للمشروبات والعصائر وهي بنزوات الصوديوم، والتي تتحول إلى مادة مسرطنة بمرور الوقت وتحت تأثير تعرضها لمدد طويلة لأشعة الشمس، بعد إضافة حمض الأسكوربيك (فيتامين C) وهو ما يهدد صحة مستهلكها بالإصابة بالسرطان.

وتوجّه معدّ التحقيق إلى أحد محال المأكولات السريعة في منطقة براقي، شرقي العاصمة الجزائر، وتم اختيار المحل بعد تحريات لأعوان الرقابة أثبتت أنه غيّر نشاطه التجاري إلى صناعة “الشربات”. ووفقا لما وثقه معد التحقيق عبر مشاهداته، فإن المحل تنعدم فيه أدنى شروط النظافة، إذ إن أرضية المحل مغطاة بمياه آسنة، كما استخدم مالك المحل أواني بلاستيكية شديدة الاتساخ لخلط وتحضير العصائر، التي تحفظ داخل براميل بلاستيكية غير مخصصة لحفظ الأغذية، وسط تطاير الحشرات فوق الأكياس التي تعبأ فيها “الشربات”.

الغش التجاري

محمود بائع لعصير “الشربات”، في العاصمة الجزائر، في منطقة براقي، يؤكد أنه يقوم بتحضير المشروب بعصارة الليمون الطبيعي، وخلطها مع الماء والسكر وقليل من الحليب وماء الزهر، لكن مع ارتفاع سعر الليمون في الفترة الحالية، فقد فاق سعره 400 دينار (3 دولارات) للكيلوغرام الواحد ، فإن التجار الغشاشين قاموا بتغيير التركيبة، واستبدلوا الليمون بمادة حمض السيتريك، يضاف إليها الماء وملونات غذائية وحافظة، ولكي لا يتفطّن لها المواطن، يتم قطع بعض شّرائح الليمون داخل الأكياس وبيعها بسعر ما بين 35 دينارا و40 دينارا للتر الواحد، على أساس أنها شربات طبيعية”.

ويكشف عبد الرحمن بن هزيل المدير العام ‏للرقابة الاقتصادية وقمع الغش ‏بوزارة التجارة الجزائرية أنه تم إتلاف 5790 لتراً من أكياس عصير “الشربات” الفاسدة خلال الأيام العشرة الأولى من شهر رمضان الجاري في ولاية الجزائر العاصمة، كما تم تشميع 19 محلا تجاريا غيّر أصحابها نشاطهم من بيع المواد الغذائية العامة إلى صناعة “الشربات”، التي تفتقد عناصرها ومكوّناتها الأساسية للشروط الصحية والقانونية.

ويوضح هزيل لـ”العربي الجديد”: “المياه التي تصنع بها العصائر تبقى مجهولة المصدر، كما تغيب عن الكيس البلاستيكي المعايير والمكوّنات الأساسية لهذا المشروب ومدة صلاحيته، وتقوم المحلات التي توجد وسط التجمّعات السكنية أو التي تعاني من انقطاعات التزويد بالماء الصالح للشرب، باستعمال مياه الصهاريج، والتي غالبا ما تحتوي على صدأ، لصناعة الشربات، ما يهدد صحة المستهلك، بحسب هزيل.

عصائر مسرطنة وقاتلة

تظهر نتائج التحليلات الأولية لمكونات عينة من عصير “شربات” فاسد، حصلت عليها “العربي الجديد” عبر المديرية العامة ‏للرقابة الاقتصادية وقمع الغش، أن المشروب يحوي على 85 غ /ل من حمض الستيريك، (الكمية المرخصة تتراوح ما بين 10 إلى 47 غ/ل) ومواد بلاستيكية متحللة في المشروب هي ديوكسين والمونواسيلان وبيوستينول و3.4 غ/ل من ملون اصطناعي أحمر نوع “E124″(الحد الأقصى المرخص له 0.6 غ/ل)، وكذلك أضيف الإسبارتام المحلي الصناعي رمز “E951” المتحول إلى حمض الفورميك، وتكاثر خلايا بكتيريا السالمونيلا الضارة وفطريات الميكوتوكسينات السامة Mycotoxins داخل المشروب.

يحذّر البروفيسور مصطفى خياطي رئيس الهيئة الجزائرية لترقية الصحة وتطوير البحث العلمي، من شراء العصائر المعروضة على الأرصفة، خاصة الشربات، إذ تفتقر لأدنى شروط النظافة وتحتوي على ملوّنات ونكهات صناعية وأحماض تكون بجرعات زائدة، تهدد صحة مستهلكها.

يضيف خياطي لـ”العربي الجديد”: “عدم احترام التجار الكمية اللازمة لحمض الستيريك يسبب لمستهلكيه التهابات حادة ومزمنة في المعدة، وتؤدي تراكمات حمض الفورميك وكذا مواد ديوكسين والمونواسيلان وبيوستينول المتحللة من كيس البلاستيك، إلى الإصابة بسرطان القولون والأمعاء، وتسبب الجرعات الزائدة من الملونات الصناعية، الحساسية الجلدية والتنفسية خصوصاً لدى الأطفال والنساء الحوامل وكبار السن، كما أن لفطريات الميكوتوكسينات التي تتكاثر مع ارتفاع درجة الحرارة وغياب النظافة، القدرة على إحداث تأثيرات سامة على الإنسان قد تؤدي إلى الإصابة بالسرطان والموت المفاجئ”، لافتا إلى أن “بعض أنواع التسمم لا تظهر أعراضها إلا بعد مرور مدة زمنية معينة”.

ما الحل؟

أطلقت الجمعية الجزائرية لحماية المستهلك خلال شهر رمضان حملة توعوية بعنوان “قف..لا تسقني سماً!” للتصدي لناقلي ومخزني وعارضي المشروبات والعصائر تحت أشعة الشمس. ويؤكد رئيس الجمعية مصطفى زبدي لـ”العربي الجديد” أن الهدف من الحملة حماية المستهلك وتوعيته من التسممات والأمراض الخطيرة الناجمة عن استهلاك العصائر والمياه المعدنية المعروضة على الأرصفة والشواطئ.

رغم تكثيف وزارة التجارة الجزائرية رقابتها على المحلات التجارية بتجنيد مئات المراقبين لقمع الغش طيلة أيام الأسبوع حتى بعد الإفطار، والحملات التوعوية التي تنظمها وزارة الصحة الجزائرية ضد مخاطر التسممات الغذائية، إلا أن كثيرا من المواطنين يعمدون إلى اقتناء العصائر المصنعة، مهملين خطورة مكوناتها والأمراض الناجمة عنها، ما ساهم في ارتفاع حالات التسمم، من هؤلاء حكيم، والذي يقول وهو ينتظر دوره في طابور طويل لشراء عصير “الشربات”: “لا يمكنني الاستغناء عن الشربات، دائما ما تكون حاضرة على مائدة الإفطار لأروي بها عطشي، خاصة أن رمضان يتزامن مع فصل الصيف، مع أنني أعلم أن هذه المشروبات قد تضر بالصحة”.

(العربي)

س ف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*