الصبر الجميل

597

65الصبر الجميل

سماحة الشيخ حسن العيساوي

باحث إسلامي وخطيب

ذكر الله سبحانه وتعالى الصبر في مفهومه العام في سبعين آية من القرآن الكريم لما له من الأهمية في حياة الإنسان المؤمن في هذه الدنيا وخاصة إذا عرفنا أن المؤمن معرض إلى الابتلاء والامتحان ولا يمكن أن يصل إلى مرحلة من التكامل والقرب من الله من غير ابتلاء في الخير والشر في الرخاء والشدة وهذا لا يتم إلا بالاستعانة بالصبر ولذلك اعتبر النبي (ص) الصبر هو رأس الإيمان ،كما ورد في الرواية :(الصَّبْرُ مِنَ الإِيمَانِ كَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ) (1).

وقد مدح القرآن الكريم الصابرين وأثنى عليهم وأحب الصابرين قال في كتابه العزيز : (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146) فالإنسان لا يمكن أن يعيش بدون الصبر، لأنه يقع لا محالة في الجزع، فالصبر والجزع صفتان متضادتان في الإنسان فكلما ضعفت واحدة قويت الأخرى واحتلت مكانها، فلابد للمؤمن من التمسك بالصبر للوصول إلى الأمان من الوقوع في الحرام إذا جزع وفقد صبره.

الصبر لغة واصطلاحاً:

الصبر لغة هو: (التجلد وعدم الشكوى من ألم البلوى. فيقال صبرت نفسي على كذا أي حبستها وصبرت على ما أكره وصبرت عما أحب) (2).

وهذا المعنى اللغوي هو قريب من الاصطلاح الذي ذكره علماء الأخلاق قال النراقي (قده): (هو ثبات النفس وعدم اضطرابها في الشدائد والمصائب، بأن تقاوم معها بحيث لا تخرجها عن سعة الصدر وما كانت عليه قبل ذلك من السرور والطمأنينة، فيحبس لسانه عن الشكوى وأعضاءه عن الحركات غير المتعارفة) (3)، وعرفها غيره بأنه : (الاستقامة والثبات بقوة الإيمان واليقين أمام المشاكل والحوادث المختلفة التي تمر على الإنسان في هذه الدنيا وهو ضد الجزع الذي هو فقدان التوازن وسلب عنصر المقاومة والصمود أمام ما يتعرض له الإنسان) (4).

فالصبر كما يظهر ممن عرفه من العلماء ملكة نفسانية تحصل لدى الإنسان تجعله يصمد أمام مشاكل الحياة والصعوبات التي تمر عليه وهذه الملكة لا تتم إلا بالإيمان والتوكل على الله سبحانه وتعالى فارتبط الصبر بالإيمان، قال الإمام الصادق (ع): (الصَّبْرُ رَأْسُ الإِيمَانِ) (5) فيستطيع الإنسان المؤمن أن يحصل على هذه الصفة الأخلاقية من خلال الممارسة للصبر حتى تحصل عنده ملكة الصبر فيصبر على المحن والمصائب بسهولة ويسر ولذلك فإن المؤمن كلما مرت عليه المصائب زادته إيمان بالله لأنه يشعر فيها أن الثواب والأجر منه سبحانه وتعالى وأن هذا لمصلحته وإن الدنيا دار امتحان واختبار وليس دار نعيم كما يريدها الكفار وأصحاب الدنيا الذين ركنوا إليها إلى ملذتها ويبحثون عن الرخاء والسعادة ونعيم الأبد في الدنيا.

الصبر والجزع:

الصبر والجزع :صفتان متضادتان في الإنسان، كلما قويت واحدة ضعفت الأخرى، فالضدان يستحيل أن يجتمعان في شيء واحد فلذلك فإن الإنسان إذا لم يتحل بالصبر عند المصيبة والمحنة أصابه الجزع، قال الإمام علي (ع):(مَنْ لَمْ يُنْجِه الصَّبْرُ أَهْلَكَه الْجَزَعُ)(6)، فالإمام (ع) يشير إلى أن الإنسان في هذه الدنيا مهما كان دينه وعقيدته فهو بين الجزع والصبر وإذا فقد أحدهما حل الآخر بدله، فلابد للإنسان من الصبر على المصيبة والاستعانة بالله سبحانه وتعالى للحصول على الصبر عند التعرض لها، ومن دونه لا يحصل على الثواب والأجر، وبعض الأشخاص صار الجزع عنده ملكة فهم يجزعون ويتألمون من كل شيء، فتراهم يغضبون من أي شيء يمر في حياتهم، فالظروف الطبيعية تكون سبباً لجزعهم وظهور الحدة والعصبية عندهم، فالحر والبرد والعاصفة الترابية تجعلهم يفقدون توازنهم ويشعرون بالضيق والحرج الشديد مع أن هذه الأمور وغيرها من الظروف التي تحصل في اليوم الذي يمر في حياتهم، ولذلك أوصى مولانا أمير المؤمنين(ع) بالصبر فقال: (وعَوِّدْ نَفْسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى الْمَكْرُوه، ونِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُرُ فِي الْحَقِّ)(7) فالإمام(ع) يدعو الإنسان الفاقد للصبر على التعود على الصبر حتى تحصل عنده ملكة الصبر وهذا يتم بالممارسة خطوة بعد خطوة وبعد أن يعلم الإنسان أن الصبر فضيلة ومنقبة يجب على المؤمن التحلي بها والابتعاد عن الجزع فأنه رذيلة ومنقصة للنفس ولذلك صبر أهل البيت(ع) وشيعتهم على أشد الظروف وتحملوا أنواع المصائب والمحن من الولاة والحكام الظلمة الذي حاربوا الشيعة خلال حكمهم وعلى كل مسلم يريد أن يتعلم الصبر أن يراجع سيرتهم وحياتهم فيتعلم منهم الصبر.

الصبر الجميل:

ورد تعبير الصبر الجميل في القرآن الكريم في سورة يوسف(ع) عندما جاء أخوة يوسف لأبيهم يعقوب(ع) بدم كذب، كما يحكي لنا القرآن ذلك، قال تعالى: (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)( يوسف: 18).

فالنبي يعقوب(ع) أحس بما جرى عليه من مصيبة بفقدان ولده يوسف(ع) وإن البلاء لا يمكن الفرار منه، ولا سبيل له سوى الصبر والتمسك بالله والاستعانة به، وتحمل هذه المصيبة والبلاء الذي وقع عليه بفقدان ابنه يوسف(ع) وهذا ما حصل فعلاً، فصبر يعقوب(ع) ورجع إليه ابنه بعد تلك الفترة الطويلة من الفراق والبعد بينهما وحصل على الثواب وفاز بنعيم الأبد والمقربة من الله بصبره، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(البقرة:155) واختلف المفسرون في تفسير معنى الصبر الجميل على ثلاث معانِ:

التفسير الأول:

الصبر الجميل (هو الصبر الذي لا يخالطه الجزع ولا الشكوى من المصيبة)(8) فالإنسان ما دام في هذه الدنيا فهو متعرض لأنواع المصائب والويلات ولا سبيل للفرار منها، لأن الله سبحانه وتعالى جعل الدنيا دار بلاء وجعل الآخرة داء جزاء، والإنسان عليه أن يستعد للبلاء وكلما ازداد إيمان الإنسان ازداد بلاؤه لأن الإيمان مرتبط بالبلاء، (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (ع): أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً النَّبِيُّونَ ثُمَّ الْوَصِيُّونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ وإِنَّمَا يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِه الْحَسَنَةِ فَمَنْ صَحَّ دِينُه وحَسُنَ عَمَلُه اشْتَدَّ بَلَاؤُه وذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَجْعَلِ الدُّنْيَا ثَوَاباً لِمُؤْمِنٍ ولَا عُقُوبَةً لِكَافِرٍ ومَنْ سَخُفَ دِينُه وضَعُفَ عَمَلُه قَلَّ بَلَاؤُه…)(9) فالإنسان المؤمن معرض للبلاء وهذا شيء مسلم لا يمكن النقاش فيه، ولكن هذا البلاء يمر على الإنسان مع الشكوى والتذمر حتى يصل في بعض الأحيان إلى الجزع وفقدان السيطرة على نفسه فيرتكب الذنوب والعياذ بالله وينسى أن هذا البلاء رحمة له لأن الله جعل للمؤمن درجة لا ينالها إلا بالبلاء، قال الإمام الصادق(ع): (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَا يَبْلُغُهَا عَبْدٌ إِلَّا بِالابْتِلَاءِ فِي جَسَدِه)(10) ولكن الانسان المؤمن أحياناً وبسبب تعلقه بالدنيا واختلاطه ومعاشرته لمحبي الدنيا يتأثر بهم ويركن إليهم فلا يفكر بالثواب العظيم الذي جعله الله لأصحاب البلاء الصابرين عليه، ولذلك يقوم بعضهم بالشكايا للناس مما أصابهم من البلاء فيفقدون قسم من  ثواب صبرهم،  وعلى المؤمن أن يكون شكواه لله سبحانه وتعالى وأن لا يجزع من المصاب لأن في الجزع والشكوى لغير الله فيه ضياع الأجر والثواب مع أن المصيبة سوف تمضي عليه لا محالة والقدر ماض سواء قبل ذلك أم لم يقبله قال الإمام علي(ع):(إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور) (11).

التفسير الثاني:

الصبر الجميل هو الصبر الذي (يكون بدافع إلهي وطلباً لرضا الله سبحانه تعالى) (12) هذا الرأي يرى أن الجميل هو النية الخالصة لله سبحانه وتعالى ولذلك يتحمل المصيبة لا يريد منها مدحاً في الدنيا وعلوا وتفضلاً على الآخرين، كما يفعل أصحاب الدنيا الراغبين في الزيادة والتنافس على الآخرين فيفعلون الأعمال التي تتطلب صبر لا يتحمله كل إنسان عادة فيتحملون العطش والجوع والبرد القارس والحر الشديد في سبيل الفوز بلقب في الدنيا أنه أصبر الناس وأشد الناس في مثل هذه الأمور وغيرها، وقد تأثر بعض المسلمين بهم فكان صبرهم لغير رضا الله وأما المؤمن فأنه يصبر من أجل رضا الله سبحانه وتعالى وثوابه فيحصلون على الجنة والنعيم الأبد لأن الله سبحانه وتعالى وعد الصابرون بدخول الجنة بغير حساب ورضوان منه سبحانه تعالى. وأما صبر إمامنا الحسين(ع) وأخته زينب(ع) فكان لرضا الله، فتحمل الإمام(ع) كل المصائب التي يعجز الإنسان عن وصفها وتصورها فضلاً عن تحملها، ولكن إمامنا(ع) تحملها لأنه صلوات الله عليه لم يكن يرغب أو يميل إلى الدنيا وملذاتها وإنما كان يرغب في ثواب الآخرة وعلى كل مؤمن أن يقتدي بإمامنا الحسين(ع) ويبتعد بقدر ما يستطيع فتهون عليه مصائب الدنيا قال الإمام الكاظم(ع): (لا تجعلوا قلوبكم مأوى الشهوات إن أجزعكم عند البلاء لأشدكم حباً للدنيا وإن أصبركم على البلاء لأزهدكم للدنيا)(13) فإن العلاقة بين الدنيا والصبر علاقة متضادة فكلما ازداد حب الدنيا ضعف الصبر وقد يصل حب الدنيا ببعض الأشخاص إلى الانتحار وهلاك نفسه لأنه خسر صفقة في هذه الدنيا أو تعرض إلى صدمة عاطفية أو قصة حب فاشلة فيفقد قدرته على الصبر وينهار أمام هذه المصيبة التي مرت عليه لأنه ليس له اعتقاد بالله وأنه سوف يعوضه عن كل ما تعرض له من المصائب التي مرت عليه في هذه الدنيا ويعطيه من الأجر والثواب فيرضى ويتمنى أن مرت عليه مصائب الدنيا وتحملها وصبر عليها مما يراه من النعيم الذي هو فيه بسبب المصائب التي صبر عليها وهذا جزاء الصابرين الذي وعد وبشر به القرآن الكريم لكل صابر فعلى المؤمن أن يستعين بالصبر فأنه الحل لكل مصيبة لا أنه يفكر بالانتحار كما يفعل الغرب الكافر والعياذ بالله.

التفسير الثالث:

ويرى هذا التفسيران الإنسان إذا تعرض إلى المصيبة فإنه يعتمد على الله سبحانه وتعالى ولا يفكر بغيره ولا يرى غير الله تعالى يحل له المشكلة وينقذه منها ولذلك فإن المراد بالجميل هو (الذي يعرض صاحبه على الله تعالى ويلتجئ إليه عند المصيبة ويؤدي حق الطاعة والعبودية له)(14) فإن نبي الله يعقوب(ع) صبر صبراً جميلاً فإنه صبر ولم يعص الله سبحانه تعالى واستمر على طاعته ولم يشكو همه إلّا الى الله سبحانه وقد قال الله في كتابه العزيز عن صبر يعقوب وشكايته إلى الله تعالى دون غيره فقال (ع): (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)( يوسف: 86) فالإنسان المؤمن يتعرض في هذه الدنيا إلى المصائب والويلات فيشكوا ويناجي ربه على أن ينقذه منها وأما غير المؤمن فإنه يشكو إلى غير الله سبحانه وتعالى فلا يحصل على  الثواب من الله ولا يستطيع أحداً أن يحل له المشكلة وقد يؤدي الأمر إلى نتيجة عكسية فيضعف في أعين الناس لأنه صاحب مصيبة وبلاء ويشمت به الأعداء ولا يحصل منه على مساعدة أو كلمة طيبة واما من يشكو همه إلى الله فإنه يحصل على الثواب ولا ينقص شيء من قيمته ولا يصغر في نظر الناس لأن لم يشكو إليهم ولم يطلب منهم العون والمساعدة بل هو صابر محتسب قد يفتخر به المؤمنون لشدة صبره وتضرعه لله دون غيره.

الهامش:

  • الكافي/للكليني/ج2ص88.

  • المنجد في اللغة ـ 414 مادة الصبر.

  • جامع السعادات ـ ج2 ص368.

  • الأخلاق في القرآن الكريم/ ناصر مكارم شيرازي ـ ج2 ص403 .

  • الكافي/للكليني/ج2ص87.

  • نهج البلاغة/تحقيق صبحي الصالح/الحكمة ـ 189.

  • م.ن.ص393.

  • الأخلاق في القرآن الكريم/ مكارم شيرازي ج2 ص403.

  • الكافي/للكليني/ج2ص259.

  • م.ن.ص255 .

  • بحار الانوار/المجلسي/ج68ص92 .

  • الأخلاق في القرآن الكريم ـ ج2 ص408 مكارم شيرازي.

  • بحار الأنوار/ العلامة المجلسي/ ج1 ص146.

  • الأخلاق في القرآن الكريم ـ ج2 ص408 مكارم شيرازي.

    المصدر: مجلة ينابيع – العدد 65

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*