الحكمة – متابعات : يوافق 11 من شهر ذي القعدة ذكرى ولادة الإمام أبي الحسن علي بن الرضا (ع)، فبهذه المناسبة العطرة نقف على محطات لتراثه (ع) المبارك.
إن الثروة العلمية الهائلة التي قدّمها الإمام الرضا عليه السلام للعالم الإسلامي، بل للعالم الإنساني عامة ولأتباع أهل البيت خاصة قد شملت ألوان العلوم والمعارف من فلسفة وكلام وطب وفقه وتفسير وتاريخ و تربية وآداب وسياسة واجتماع…
وقد أتاحَ المأمون من حيث لا يشعر فرصة ذهبية لظهور علم الإمام عليه السلام وبروزه إلى الساحة الاجتماعية وتحدّيه لكل العلماء الذين جمعهم لتضعيف الإمام وتسقيطه من خلال المواجهة العلمية التي جمع من أجلها علماء الفرق والأديان.
وقد استجاب علماء الفرق والمذاهب الإسلامية لدعوة المأمون حتى طرحوا أعقد الأسئلة على الإمام عليه السلام تحقيقاً لرغبة المأمون، فسألوه عمّا كان غامضاً لديهم، وقد روى المؤرخون أن ما طرح على الإمام عليه السلام يبلغ أكثر من عشرين ألف مسألة في مختلف أبواب المعرفة فأجابهم الإمام عليه السلام على جميعها؛ متحدّياً جبروت المأمون والعباسيين خاصة وسائر من يجهل فضل أهل البيت عليهم السلام عامّة.
كما أثرت عن الإمام الرضا عليه السلام سوى هذه الاحتجاجات، مجموعة من النصوص التي نصّ عليها المعنيّون بالتراجم، مثل طب الإمام الرضا عليه السلام، ومسند الإمام الرضا عليه السلام، أو صحيفة الإمام الرضا عليه السلام أو صحيفة أهل البيت والمعبّر عنها بالرضويات، ورسالة جوامع الشريعة، كما نسب إليه أيضاً كتاب فقهي عُرف بـ” فقه الرضا عليه السلام “.
إنّ حديث سلسلة الذهب هو الحديث الذي رواه الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه المعصومين عن جدّهم سيد المرسلين عن جبرائيل عن ربّ العزّة سبحانه وتعالى ونصّه هو:” لا إله إلاّ الله حصني فمن قالها دخل حصني ومن دخل حصني أمِن من عذابي “.
قال أحمد بن حنبل عن مثل سند هذا الحديث:” وهذا إسناد لو قرئ على المجنون لأفاق “.
ثم إنّ النصوص التي جُمعت في مسند الإمام الرضا عليه السلام تناهز الألفين، وتتنوّع على مجالات شتى، فالعقائد والفقه والأخلاق والتفسير والتاريخ والاحتجاجات هي أهم الموضوعات التي رتب على أساسها المسند، ولكن المجالات المعرفية التي اهتمت بها نصوص الإمام عليه السلام لا تنحصر في هذه الأبواب.
على أنا نلاحظ اهتماماً خاصاً بأصول العقيدة والشريعة ولاسيّما قضايا الإمامة بتفاصيلها الكثيرة التي قد نالت اهتماماً خاصاً كما نلاحظه في هذه النصوص، وقد تصدى الإمام عليه السلام في هذه النصوص إلى سدّ كل الطرق والمنافذ ردّاً على المذاهب والفرق الأخرى التي ابتعدت عن مذهب أهل البيت عليهم السلام بشكل أو آخر.
فاحتجاجات الإمام عليه السلام صريحة وصارخة في محتواها ولا تجد فيها أي مجال للتقية أو الاقتصار على طرح بعض الحقائق التاريخية دون بعض، بل نجد الإمام عليه السلام يدخل الساحة العقائدية المذهبية بكل ثقله وهو يعلم بأن القتل في سبيل المبدأ والاغتيال الذي ينتظره هو آخر الخطّ، وإنّه يدخل معترك الصراع بكل أبعاده ليقرر حقيقة المذهب وأدلّته ومبررات وجوده وانه هو الخط الوحيد الذي يمثّل رسالة الله في الأرض وانه امتداد خط الرسول صلى الله عليه وآله دون سواه.
وإليك بعض ما اخترناه من تراثه عليه السلام كنموذج للدلالة على عظمة هذا التراث وتنوع أغراضه ومجالاته في رحاب العقل والعلم والمعرفة.
1- ” العقل حباء من الله والأدب كُلفة، فمن تكلّف الأدب قدر عليه ومن تكلّف العقل لم يزدد إلاَّ جهلاً “.
2- ” ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، وإنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزّ وجل “.
3- ” ما استودع الله عبداً عقلاً إلاَّ استنقذه به يوماً “.
في رحاب القرآن الكريم
1- عن الحسين بن خالد، قال:” قلت للرّضا علي بن موسى عليهما السلام: يا ابن رسول الله أخبرني عن القرآن أخالق أو مخلوق؟ فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنّه كلام الله عزّ وجل “.
2- عن الرّيان بن الصلت، قال:” قلت للرضا عليه السلام: ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله لا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا “.
3- عن أبي حيون مولى الرضا عليه السلام، قال:” من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم “، ثم قال: إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا “.
4- ذكر الرضا عليه السلام يوماً القرآن فعظّم الحجّة فيه والآية والمعجزة في نظمه، فقال:” هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى وطريقته المثلى، المؤدّي إلى الجنّة، والمنجي من النار، لا يخلق على الأزمنة ولا يغثّ على الألسنة، لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان والحجّة على كل إنسان لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد “.
في رحاب التوحيد
1- سأله رجل عن الدليل على حدوث العالم فقال:” أنت لم تكن ثمّ كنت وقد علمت أنّك لم تكوّن نفسك ولا كوّنك من هو مثلُك “.
2- جاء رجل إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام من وراء نهر بلخ، فقال:” إني أسألك عن مسألة فإن أجبتني فيها بما عندي قلت بإمامتك، فقال أبو الحسن عليه السلام سل عما شئت، فقال: أخبرني عن ربك متى كان ؟ وكيف كان ؟ وعلى أي شيء كان اعتماده ؟
فقال أبو الحسن عليه السلام:” إنّ الله تبارك وتعالى أيّن الأين بلا أين، وكيّف الكيف بلا كيف، وكان اعتماده على قدرته، فقام إليه الرجل فقبّل رأسه وقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وأنّ علياً وصيُّ رسول الله صلى الله عليه وآله والقيّم بعده بما قام به رسول الله، وأنكم الأئمة الصادقون وأنك الخلف من بعدهم “.
3- حدثنا الحسين بن بشار، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام فقال:” سألته أيعلم الله الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون؟ أو لا يعلم إلاّ ما يكون ؟ فقال: إنّ الله تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء “.
4- عن يونس بن عبد الرحمن، قال:” قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: روينا أن الله علم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه، قال: كذلك هو “.
في رحاب النبوة والأنبياء عليهم السلام
1- قال ابن السكيت لأبي الحسن الرضا عليه السلام:” لماذا بعث الله عزّ وجلّ موسى بن عمران بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر وبعث عيسى عليه السلام بالطب وبعث محمداً صلى الله عليه وآله بالكلام والخطب ؟
فقال له أبو الحسن عليه السلام: إنّ الله تبارك وتعالى لما بعث موسى عليه السلام كان الأغلب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله عز وجلّ بما لم يكن في وسع القوم مثله، وبما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجة عليهم، وإنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى عليه السلام في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله عزّ وجل بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيا لهم الموتى وأبرأ لهم الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجة عليهم.
وإنّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام -(وأظنه قال: والشعر)، فأتاهم من كتاب الله عز وجلّ ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجة عليهم، فقال ابن السكيت: تالله ما رأيت مثلك اليوم قطّ، فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال عليه السلام: العقل يعرف به الصادق على الله فيصدّقه والكاذب على الله فيكذِّبه، فقال ابن السكيت هذا والله الجواب “.
2- وعن أبي الحسن الرضا عليه السلام:” إنما سمي أُولوا العزم، أُولي العزم؛ لأنهم كانوا أصحاب الشرايع والعزايم، وذلك أنّ كل نبي بعد نوح عليه السلام كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل عليه السلام.
وكل نبي كان في أيام إبراهيم وبعده كان على شريعته ومنهاجه، وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى عليه السلام وكل نبي كان في زمن موسى وبعده كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى أيام عيسى عليه السلام وكل نبي كان في أيام عيسى عليه السلام وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وآله فهؤلاء الخمسة أُولوا العزم فهم أفضل الأنبياء والرسل. وشريعة محمد صلى الله عليه وآله لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده إلى يوم القيامة، فمن ادّعى بعده النبوّة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكلِّ من سمع ذلك منه “.*
ــــــــــــــــــــــ
* سلسلة أعلام الهداية، الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، المجمع العالمي لأهل البيت ع، ط1، ص236-241.