الاستعمار الزراعي الجديد… ومصير البشرية

343

الحكمة – متابعة: يشهد العالم منذ أكثر من عقدين نوعاً جديداً من “الاستعمار”، منطلقه ظاهرة استئجار أراضي الآخرين، بداعي استثمارها زراعياً، حتى بتنا نقرأ، في الأدبيات السياسية المتداولة اليوم، مصطلح “الاستعمار الزراعي”، وهو أن تستأجر دولة غنية معينة، أو شركات عملاقة عابرة للحدود، مساحات هائلة من الأراضي الخصبة في دول أخرى، وتبدأ زراعتها بمحاصيل استراتيجية معينة، كالقمح والذرة والأرز وفول الصويا وقصب السكر ونباتات أخرى خاصة بإنتاج الوقود الحيوي؛ وغالباً ما يتمّ ذلك على حساب المزارعين أو ملاّك الأرض الصغار.

مزارع لقصب السكر بولاية غروسو دوسول في البرازيل (Getty) - See more at: https://www.alaraby.co.uk/opinion/2016/8/11/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D9%88%D9%85%D8%B5%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A9-1#sthash.YWfKDbGY.dpuf
مزارع لقصب السكر بولاية غروسو دوسول في البرازيل (Getty)

ففي العقد الأول من الألفية الثالثة، تمّ التفاوض، مثلاً، على مساحة بين 20 إلى 25 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة على مستوى الكرة الأرضية، احتل فيها المستثمرون الكوريون الجنوبيون والصينيون مركز الصدارة في هذا النشاط المستحدث؛ حيث وقّع الكوريون عقودا مقابل أكثر من مليونين وثلاثمئة ألف هكتار، متوزعة ما بين السودان بحدود سبعمائة ألف هكتار ومنغوليا بحدود مائتين وثمانين ألفاً وإندونيسيا بحدود ستة وعشرين ألفاً.

أما الصينيون، فقد استحوذوا على مليون ومائتين وخمسين ألف هكتار في الفيليبين وسبعمائة ألف هكتار في لاوس وثلاثة وأربعين ألف هكتار في أستراليا، وكذلك أقدموا على عمليات تنقيب واسعة في دول أفريقية، مثل الكاميرون وأوغندا وتنزانيا.

كما امتد الصينيون في استثماراتهم في الأرض الزراعية إلى بلدان أخرى، مثل كازاخستان والمكسيك وكوبا؛ ورسا اختيارهم في العام 2013 على أوكرانيا التي وقّعوا معها اتفاقاً، هو الأكبر من نوعه على هذا الصعيد، قضى باستثمار ما قوامه ثلاثة ملايين دونم، أي ما يعادل 5% من مساحة أوكرانيا نفسها، والأهم أن مدة الاستئجار هنا كانت خمسين سنة، تبدأ منذ لحظة إبرام التوقيع. وقدّر خبراء ماليون أن أوكرانيا ستحصل، بموجب هذا العقد مع الصين، على ما يزيد عن ثلاثة مليارات دولار. وقد لاقى هذا الأمر قبولاً سياسياً شعبياً ورسمياً في تلك البلاد المأزومة أمنياً واقتصادياً.

أما اليابانيون، والذين تضيق بهم جداً مساحات أرضهم الزراعية، فقد استثمروا في قلب الولايات المتحدة الأميركية نفسها بحدود 219 ألف هكتار، والبرازيل بحدود مائة ألف هكتار.. وكذلك يحاولون الاستثمار في أستراليا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

وتعتبر أرض البرازيل الملقبة بـ”مزرعة العالم” السوداء الخصبة، وغاباتها الكثيفة، الأكثر مرغوبية في الاستئجار والاستثمار. فها هي فنلندا تستثمر فيها مئات الهكتارات من غابات أشجار الكينا للسيلولوز، لأن الشجر في البرازيل إجمالاً يبدأ بالإنتاج بعد ست سنوات من زراعته، في مقابل 15 سنة في فنلندا وسائر الدول الإسكندنافية.

وكانت البرازيل قد أجّرت بين العامين 2007 و2009 مساحات شاسعة من أراضيها الصالحة للزراعة تُقدّر بـخمسة ملايين وستمائة ألف، واضطرت، بعد ذلك، إلى مضاعفة سعرها الاستئجاري للحدّ منه، خصوصاً بعد احتجاج أحزاب المعارضة وقتها على سياسات الحكومة في هذا الشأن السيادي المحض.

أمر يستحق الإدانة

يعتبر هذا الشكل الجديد من “الاستعمار الزراعي”، برأي كريستيان بوكيه (أستاذ الجغرافيا السياسية والتنمية في جامعة بوردو)، حالة مشروعة تماماً، منذ أصبح النموذج الاقتصادي الليبرالي عالمياً تحت مظلة “العولمة”. وبما أنه ليس بإمكان أي عائق أن يحول دون التنافس الحر وسلاسة عمليات التبادل التجاري في هذا العالم المعولم، فلا يحق، بالتالي، لأي أحدٍ، حتى ولو كان دولة، أن يرفض تأجير أو بيع ما كان يبدو أنه يندرج ضمن إطار السيادة الوطنية، وهو بطبيعة الحال الأرض. ففي عالم ما يزال للغرب الرأسمالي بقيادة واشنطن القول الفصل فيه، قامت مؤسستا بريتون وودز (صندوق النقد الدولي والبنك الولي) بعملية واسعة النطاق، تعرف بعملية “تأمين الأراضي في بلاد الجنوب” التي لم تعتمد بعد نموذج الملكية العقارية الفردية. وقد صعُب على القارة الأفريقية، حيث ما فتئت الأرض ملكاً لمن يزرعها، التحوّل إلى الصيغة الجديدة. وكان بعض البلدان على وشك خوض حروبٍ أهليةٍ لدى بروز ضرورة الفصل بين حق الأرض وحق الدم (ساحل العاج مثالاً لا حصراً). ولكن كل قطعة أرض كان يمكن أن تكون ملكاً فردياً في نهاية المطاف.

وعندما يعرف المرء أن أي شخص يحمل صكّ ملكية، وله إذاً الحق بتأجير أرضه، أو بيعها لمن يحلو له، يُدرك على نحو أفضل لماذا جاء الأجانب إلى هذه السوق الجديدة بمزيدٍ من السهولة وبأعداد أكبر، ولماذا يتطابق مسار الاستئثار هذا مع عملية رفع الضوابط في العالم. وفي هذا السياق، يُعدّ مصطلح “الاستعمار الجديد” غير مناسبٍ لوصف هذه الظاهرة خارج سياق الاستفزاز النضالي.

يحصل هذا بمبرّراتٍ تسوقها دول غنية، وأخرى فقيرة مثل جيبوتي، إذ استأجرت الأخيرة، ولأجل تأمين أمنها الغذائي، أراضيَ زراعية في أثيوبيا والسودان، ونجحت التجربة لديها بنسبة شبه مقنعة، (طبعاً بمساعدة تقنية فرنسية) إلاّ أن جهاتٍ خبيرة في العالم لم تستسغ ما يجري، وبينها مقرّر الأمم المتحدة الخاص بحقوق الإنسان، سابقاً، جون زيغلر، الذي قال “إن ظاهرة تأجير بلدان غنية للأراضي الزراعية الخصبة في بلدان فقيرة، هي سرقة موصوفة بالفم الملآن”. وأردف قائلاً أمام اللجنة الاستشارية الدولية الخاصة بحقوق الإنسان: “المسألة في الإجمال لا علاقة لها بأمن غذائي راهن، أو آخر استراتيجي، وهو هدفٌ قد يكون نبيلاً ومبرّراً، ولكن كل الأمر يتعلق بالشركات متعدّدة الجنسية أو العابرة للقارات، ومعها أو من ورائها.. لا فرق، صناديق الاستثمار التي تستهدف زراعة نباتات مسخّرة لصناعة الوقود البيولوجي أو الإيتانول” وإنتاجها واستثمارها.

في النتيجة، رأى زيغلر أن الأمر يستحقّ الإدانة، وحتى رفع شكاوى قضائية دولية ضده، إذا كان بمستطاع فئاتٍ متضرّرة معينة في بلد فقير معين أن تقوم بذلك. واستطرد مستشهداً بما قاله جاك ضيوف، المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، بأن ما تُقدم عليه بلدان غنية بعينها هو “ممارسة استعمارية من نوع جديد وغير مألوف”.

مزارعو الشمال متضرّرون أيضاً

على هامش وسائل استغلال الأراضي الصالحة للزراعة، تظهر ملامح اضطرابات مهمة، تتخذ، في رأي كريستيان بوكيه، شكل حركةٍ مزدوجة، قد تؤدي إلى تحويل مزارعي الشمال إلى عناصر عديمي الفائدة، لأنهم مُكلفون، شأن مزارعي الجنوب، لأنهم كثيرون. ولا يحمل هذا الوضع أي جديد لمزارعي الشمال الذين أجبروا على إخلاء قرى أوروبا الغربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، خدمة للإنتاجية الزراعية؛ لكن الثورة الصناعية استنزفت، حينذاك، الجزء الأهم من اليد العاملة التي أصبحت متوفرة. أما مزارعو الجنوب، فسوف يضطرون إلى مواجهة قاعدة تكثيف الزراعة المحتومة، المطبّقة على سبيل المثال في الأرجنتين، حيث يعتبر أربعة رجال كافين للاعتناء بألف هكتار من فول الصويا. فلا شك في أن شبح “حزام القطن” بات يخيّم على الساحل الأفريقي.

هكذا يبدو أن العمليات المكثفة والمتعلّقة باستئجار الأراضي، أو شرائها، كما أعلن عنها في البلدان المستهدفة، تستخف بسكان الريف المستقرّين فيها. ففي جزيرة مدغشقر، مثلاً، كان مشروع دايوو الكوري الجنوبي يرتقب السيطرة على مليون هكتار جنوب الجزيرة الكبرى، بغية تكثيف زراعة الذرة التي قد تحتاج إلى أكثر من بضعة آلاف عامل، في حين أن حوالى مليون أسرة تتعيّش حالياً (وحكماً بشكل ضئيل) من الزراعة التقليدية. واقترح المشروع التالي (من تصميم المجموعة الهندية فارون إندستريز varun Industries) استئجار خمسمائة ألف هكتار في شمال شرق البلاد مباشرة من المزارعين، مقابل وعدهم بمنحهم 30% من إنتاج الأرز على مدى خمسين عاماً؛ علماً بأنه كان يعتزم زيادة المحاصيل من ثلاثة أطنان لكل هكتار إلى 12 طناً لكل هكتار، لكن الحساب كان خيالياً؛ بموجب هذه المعادلة يكسب المزارعون، من دون أن يقوموا بأي جهد، كمية من الأرز أكبر من التي كانوا يجنونها في ما ينهكون أنفسهم في العمل.

مقطع القول، وفي النموذج السياسي الاقتصادي الراهن، لم تعد الزراعة بحاجة إلى طبقةٍ وافرةٍ وقليلة الإنتاجية من المزارعين، وسوف تؤدي كل عمليات الاستئثار بالأراضي الزراعية هذه إلى دفع مئات آلاف المزارعين الصغار المجبرين على بيع قطع أراضيهم الصغيرة (تبلغوا بملكيتها) نحو الأحياء الفقيرة في كبرى تجمعات الجنوب.

في مواجهة هذا التهديد، ظهرت الاحتجاجات بشكلٍ مشتت؛ وقد عمدت منظمات مولودة من رحم ثوراتٍ قديمة، نظّمها مزارعون محرومون من أراضيهم وأرزاقهم في أميركا اللاتينية، مثل الهيئة الدولية للمزارعين الصغار “فيا كامبيزينا” و”أصدقاء الأرض” و”اتحاد المزارعين”، إلى الحلول محل المقاومات الخجولة. وفي مدغشقر الأكثر تضرّراً من جرّاء التهافت على الأراضي الصالحة للزراعة، تغلّبت التظاهرات العنفية في مارس/ آذار 2009 على نظام “مارك رافالومانانا”، والعقد الذي وقّعه الرئيس السابق مع دايوو الكورية الجنوبية. لكن مشغّلين آخرين سارعوا إلى الاصطفاف، لأنه غالباً ما يسعى الناشطون السياسيون المحليون أنفسهم إلى إبرام صفقاتٍ تجارية مع المستثمرين المحتملين. ففي بابوازيا في غينيا الجديدة، قام النواب أنفسهم بالاتصال بشركات خارجية لاستئجار الأراضي الزراعية.

وقد تسعى السلطة السياسية إلى اعتراض جهودٍ كبرى المجموعات الزراعية الصناعية. وهذا ما حدث في المكسيك في العام 2008، عندما أصبحت الذرة مطمعاً للمهتمين بها وقوداً حيوياً، إلى درجة أنه تعذّر على بعض الولايات المنتجة لها إطعام حتى مواطنيها، فاتخذت قراراتٍ لضمان الأمن الغذائي محلياً. لكن هذه التدابير التي اعتبرت أنها تندرج في إطار العودة إلى السياسة الحمائية، كانت تخرج عن السياسة التقليدية الاقتصادية السائدة، وقد تستقطب، بالتالي، عقوبات تفرضها منظمة التجارة العالمية.

مع مطالع الألفية الثالثة، تركّزت المخاوف التي برزت في أثناء الأزمة الغذائية في العام 2008 على ضرورة العثور على أراضٍ زراعية جديدة، لتلبية مطالب عالم يُرتقب أن يضم تسعة مليارات نسمة في العام 2050؛ فإذا بكل بلد يملك مساحاتٍ غير مستخدمة، أو مستخدمة بشكل سيّىء معني بالموضوع؛ وأصبحت القارة الأفريقية هدفاً أساسياً تقدّره بشكل خاص مبادرة الإدارة الصالحة لأفريقيا، وهي جمعية يديرها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، ويبدو أنها لا تزال تخلط بين الأراضي البور والأراضي القفر.

على صعيد آخر، لا يزال القانون العقاري التقليدي في عدد من بلدان الجنوب ينصّ على استحالة التصرّف بأرض الأجداد. بطبيعة الحال، تقتضي العصرنة أو الحداثة التخلّص من هذه المعتقدات؛ لكن نزاعاتٍ متعدّدة قد تنشأ حول مواضع الاستعمال في الحال الحاضرة. وفي موازاة ذلك، لا بد من تحمّل المخاطر البيئية في حال فُرض التحوّل الفجائي إلى الإنتاجية والتكثيف، (شأن إساءة استخدام العناصر الداخلة في إنتاج السلع والإفراط في استهلاك المياه..).

ومن المرتقب أن يطرح هذا الهجوم واسع النطاق على الأراضي الصالحة للزراعة المشكلات، أكثر مما يتوقع أن يحلها. وقلما يحتمل أن تخرج الشعوب المعنية سالمةً وغانمةً من هذه المعركة. ولعل هذا الوضع بالتحديد قد حتّم تبنّي “مدوّنة حسن السلوك”، في أثناء قمة منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2009.

فوق هذا وذاك، “الاستعمار الزراعي” سيتحوّل إلى أمر واقع أكثر فأكثر في المستقبل، وستضطر كل الدول إلى التنسيق، بل التكامل في ما بينها، وذلك تحت وطأة الحاجة إلى بعضها “حِفظاً لنوع” شعوبها وبلدانها، خصوصاً تجاه رسم سياسات واحدة مُجابهة للمخاطر المحدقة بالكوكب وتحوّلاتها المدمرة للإنسان وسائر الكائنات الحية، مهما تبدّت العداوات والصراعات بين بني البشر، وظهرت مستعصية على الحلول الناجعة حتى الآن؛ إذ يعتقد بعض علماء السياسة الثقاة، ومعهم علماء الأنثروبولوجيا والأركيولوجيا، أن هجرات ما قبل التاريخ ستُستعاد بالضرورة، وبالتأكيد ستستعاد معها طبائع الهجرات ومعاوناتها خلال التاريخ المعروف، خصوصاً بعد انتهاء العصر الجليدي الأخير، وظهور الزراعة وازدهارها، حيث أدّت الثورة الزراعية، مثلاً، إلى ازدياد كبير في عدد السكان، وإلى نشوء الدول وصعود الإمبراطوريات التي بدأها قوم البولينيزيين المسالمين في المحيط الهندي، وخرّبها إنسان الصراعات السياسية والاقتصادية الحمقاء، ولا سيما في عصور الحداثة الأخيرة.

البشر محكومون إذاً بالتلاقي المصيري، علمياً هذه المرة لا خيالياً، وإلا فإن الفناء ينتظر الجميع.

(العربي الجديد)

س ف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*