أثر الأساليب الشعبية في خلود القضية الحسينية
السيد علاء الموسوي
قد يشعر البعض بتثاقل أو نفور من التعاطي مع بعض الأساليب الشعبية المعتادة في الاحتفاء بمصاب الحسين عليه السلام في كربلاء، حيث يشعرون بأنها على جانب كبير من السذاجة والهبوط من الناحية الفنية ومن ناحية المضمون بالشكل الذي لا يتناسب مع عظمة ثورة الحسين عليه السلام وأهدافها الكبيرة. كما أنهم يشعرون بان الكثير من تلك الأساليب تبتعد عن روح الثورة والإباء من خلال الأشعار التفجعية التي تعكس الضعف والذلة أكثر مما تعكس الإباء والبطولة. ولعل بعضهم الآخر يضيف سببا آخر لرفض ومحاربة تلك الأساليب القديمة وهو عدم مواكبتها لروح العصر وللحالة الحضارية.
إن وجود بعض النصوص الضعيفة فنيا في الشعر الحسيني الشعبي مما لا يمكن إنكاره، كما أن وجود بعض القصائد المتضمنة لمعان غير لائقة بالثورة الحسينية، أيضا مما لا يمكن إنكاره. إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون سببا كافيا لرفض الحالة الشعبية برمتها : شعرا، وأساليب، وطرائق. لأن ذلك الضعف في المضمون وفي الجهات الفنية مما لا يختص بالشعر الشعبي الحسيني فقط بل يعم الأصناف الأخرى من الشعر الشعبي والعمودي بل والأعمال الفنية عموما كالرسم والخط وغيرها من مجالات الفن. على أن الكثير من الشعر الشعبي الحسيني يتضمن جوانب من قوة التعبير وحضور الوجدان مما يجعله في مقدمة الأعمال الفنية الرائعة بالغة التأثير في عواطف ووجدان الناس.
أن التشدق بالحالة الحضارية من الأمور الضبابية التي يرددها البعض دون استيعاب لمعناها، ودون فهم لأبعادها. فما هي تلك الحالة الحضارية التي يجب أن ننظم أمورنا على مقاساتها؟! هل هي مواكبة الذوق الغربي؟ أم مواكبة الحاجة الحقيقية للناس؟ أم الانسجام مع الذوق العام في كل عصر؟
لا ينبغي لنا أن نستسلم لحالة الضعف الثقافي والانهزام الفكري أمام الثقافة الغربية واللذين خلفا عند البعض شخصية مهزوزة منسلخة من ثوابت العقيدة وبعيدة عن الأصالة الثقافية التي يتميز بها فكر الإسلام الأصيل، فتجد فيهم التخاذل والتراجع والاستعداد للتنازل في سبيل مواكبة ما يتصورونه حضاريا ويتوهمون أنه الأفضل، لمجرد مقاربته للثقافة الكافرة والذوق الغربي .
نعم.. إن مواكبة حوائج العصر الواقعية التي يعيشها الناس من الأمور الضرورية لنجاح الفعاليات الاجتماعية سواء كانت دينية ام غيرها. كما أن لكل زمن ومجتمع ذوق خاص لابد من مراعاته والعمل في إطاره. إلا أن تشخيص ذلك يجب أن ينطلق من حياة الناس وواقع معاناتهم، لا من التنظيرات البعيدة عن الواقع والمحاكية لنماذج مفترضة سلفا يراد فرضها على الناس.
إن المجتمع البسيط قادر على إنتاج الجديد الذي يحتاجه في جميع المجالات، وخصوصا في المجال الديني والشعائري، لأن توغل الدين في وجدان الناس جعله جزءا أساسياً من حياتهم لا تتم سعادتهم إلا بمراعاة شعائره وتطويرها وتنميتها حسب حاجتهم بالطبع كل ذلك في إطار الالتزام بالأحكام الشرعية والثوابت الدينية. حاله حال الحوائج الأساسية الأخرى للحياة. ولهذا نجد عملية التغيير مستمرة تلقائيا وبدون تنظير.
الشعائر.. أم فن النخبة؟
من يجب أن يتعلم ممن؟
خلود القضية الحسينية وتوسع رقعة الشعائر المنادية بها مما يرتبط ارتباطاً أكيداً بفعاليات الناس، وباهتمامهم بالقضية الحسينية، وهذا يعني أن طريقة الاهتمام يجب أن تنطلق من أذواق الناس، ومن ثقافتهم البسيطة وأمزجتهم المتنوعة، دون أن يتم ذلك بفروض مسبقة وقوالب معدة سلفا، لأنها ستكون منبوذة من قبلهم غير قابلة للتأثير في أوساطهم. إن التفاعل الكبير الذي نلاحظه في شعائر الحسين عليه السلام من قبل العامة ناشئ من كون تلك الشعائر نابعة من أذواق الناس، وملامسة لمشاعرهم، كما أنها تعد أعمالا من إبداعهم تشعرهم بأنهم هم أصحاب المشروع، لا أنهم عمالا عند غيرهم حيث يأتيهم المشروع جاهزا وعليهم التنفيذ.
إن لكل فرد من المشاركين في تلك الشعائر حرقة على مصاب الحسين عليه السلام في قلبه لا تبرد إلا بطريقة هو يختارها، ولابد أن تكون تلك الطريقة منسجمة مع موروثه الثقافي والاجتماعي، كما أن لكل فرد منهم تصورا عن واقعة كربلاء وعما جرى على أهل البيت عليهم السلام. وسيكون لذلك التصور دورا كبيرا في التعاطي مع الواقعة وفي ترتيب الشعائر.
والنتيجة.. لن تكون الشعائر الحسينية إلا إفرازات طبيعية وتلقائية لعواطف الناس إزاء مصاب أهل بيت النبوة عليهم السلام. تأبى التنظير المسبق، وعسيرة على الاختراق.
ولأن التفاعل مع القضية الحسينية يعد مسألة شخصية تتحدد بما ذكرناه من خصوصيات وموروثات ثقافية وعاطفية، سيكون انتشار هذه القضية واسعا سعة الناس ومنتشرا على مساحة العواطف البشرية، كما سيكون ثابتا غير قابل للزوال ما دام هناك بشر وهناك عاطفة، وما دامت الشعائر انعكاسا مباشرا للعواطف الإنسانية، وامتثالاً لأوامر إلهية صدرت من أئمة الهدى عليهم السلام. لا نتيجة للتنظيرات والترتيبات المسبقة التي قد يحلو للبعض اقتراحها وإملاؤها على الناس.
وهكذا جعل الله تعالى خلود هذه القضية بمخزونها العاطفي الهائل وموروثها الثقافي الكبير مرتبطا بالناس مباشرة على جميع مستوياتهم، وليس مرتبطا بالنخبة فقط. ولو قدر لقضية ما أن تكون مرهونة بجهود النخب وحركتهم ونشاطهم لما تعدت في خريطتها البشرية أسوار بيوتهم ولما وجدت طريقها إلى الشارع المكتظ بالبشر ولما انتشرت هذا الانتشار الهائل بين كافة الأفراد.. صغارا وكبارا.. علماء وعوام.. فقراء وأغنياء.. فسقة ومتدينين…
ولك في مقابل ذلك أن تلاحظ المساحة الضيقة شعبيا التي تتحرك فيها برامج النخب ونتاجاتهم الفنية، فهي إذا كانت ناجحة ستكون مقصورة على دويرة من المثقفين يحضرون محاضرة هنا ومعرضا فنيا أو ملتقى ثقافيا هناك. دون ان تجد حالة جماهيرية مليونية كالحالة التي نجدها في الشعائر الحسينية. وما ذلك إلا لأن الفن المرتبط بالنخب لا يعبر إلا عن مشاعر طبقة معينة، ويقوم به أشخاص معينون هم الفنانون بينما تعد الأساليب الشعبية في الشعائر الحسينية معبرا عن مجموع مشاعر الناس لأنها عبارة عن نفس عمل الناس وفعالياتهم لا عمل غيرهم. فالتكايا والمواكب ودوائر التمثيل للواقعة وزوايا توزيع الطعام والشاي والماء وغيرها من الفعاليات هي من عمل الناس كل حسب إمكانه وطبقاً لمزاجه وذوقه.
وبهذا ندرك أن من يريد الخلود والانتشار لقضية ما لابد أن يضمن ارتباطها بوجدان الناس وبفعالياتهم المباشرة بحيث يعد الاهتمام بها عندهم جزءا من الاهتمامات الشخصية والنشاطات المشوقة التي يحرصون على متابعتها وتطويرها وأدائها في موعدها والتحضير لها قبل موعدها بعناية كبيرة، كما نرى ذلك في أصحاب المجالس التي تقام في المنازل أو التكايا في المحال الشعبية.
من هنا يتضح الفرق الشاسع بين أساليب الناس والأساليب الفنية للنخبة. فما لا يمكن للفن أن يبلغه من مساحات كبيرة اجتماعياً، يمكن للأساليب الشعبية أن تغطيه بأضعاف لا تحصى من الجماهير والمناطق والطبقات على اختلافها وتنوعها.
إذن.. من يجب أن يتعلم من الآخر؟
ولا يخفى أن حديثنا هنا يتناول الأساليب فقط دون نظر إلى الدوافع الدينية الفريدة التي تقع وراء القضية الحسينية وتحرك الناس نحوها بهذا الاندفاع منقطع النظير. وإلا فإننا نعتقد أن أكبر رصيد للشعائر الحسينية هو المبدأ الذي تنطلق منه والشخصية التي تحتفي بها.
المصدر: مجلة ينابيع – العدد 44
س ف