قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه العزيز: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيكون بحسب ذلك كل من يقدم في سبيل الله تعالى شيئا من ملكه ولو كان جزءا يسيرا فإن الله تعالى سيضاعفه له اضعافا كثيرة وهنا الكثرة هي كثرة بالمفهوم القرآني وليست بالمفهوم الاعتيادي السائد أي ان الله سيضاعف لذلك الانسان الذي اعطى شيئا من ملكه لله تبارك وتعالى بموجب قاعدة المضاعفة القرآنية في الآية الكريمة المذكورة آنفا، ووفقا لقاعدة الكرم الإلهي فإن الله تعالى يكرم ذلك الانسان بأضعاف عظيمة قد يعجز الخلق عن إحصائها فعلى سبيل المثال لو اعطى احد الناس الف دينار من امواله في سبيل الله فان الله تعالى سيضاعف ذلك الألف دينار بأضعاف كثيرة، فكيف الحال بإنسان كان قد اعطى كل ما يملك لله تعالى ولم يقتصر على أمواله فقط بل قدم اصحابه واخوته و اولاده واحدا تلو الآخر وقدّم روحه وحتى طفله الرضيع كقرابين لدين الله ونصرة لكلمة الله وتخليدا لذكر الله من الصلاة والصيام والزكاة والقيم الاخلاقية والمثل الانسانية و المبادىء السامية النبيلة؟ كيف سيضاعفه الله تعالى؟ وكم سيكون عدد التضاعف بموجب القاعدة القرآنية الكريمة؟، نعم إنه الامام الحسين عليه السلام ريحانة رسول الله وسيد شباب اهل الجنة وهو الذي اقرض الله تعالى بكل ما يملك على النحو المطلق نصرة لدينه وإحياءً لذكره وإقامة للصلاة وإيتاءً للزكاة وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وإنقاذا للإنسانية من الجهالة وحيرة الضلالة، و لئلا يزوغ الحق عن مقره ويغلب الباطل على اهله وليرسم للأجيال لوحة الحياة الحرة الكريمة بدمائه الزاكية تحت شعار “هيهات منّا الذّلة” وليزرع في النفوس جميع القيم النبيلة والمثل الإنسانية و المبادىء الصادقة.
فقد ضاعف الله تعالى ما قدمه وليُّهُ الامام الحسين عليه السلام لأجله وما تحمل من المصائب والرزايا حبا لله وشوقا الى لقائه وأول هذا التضاعف هو خلود الذكر في الدنيا فها هو العالم يرى بأم عينه كيف خلّد الله تعالى ذكر الامام الحسين عليه السلام في كل مكان وزمان وعبر الاجيال ومختلف العصور وتقادم الدهور، ومن أعظم آيات الخلود هي زيارة الأربعين للإمام الحسين عليه السلام فإن هذه الآية أبهرت العقول وأعيت الأوهام وأعجزت الأقلام، وأذهلت العالم بأسره وتحيّر في كنهها العلماء وتلعثم في بيانها البلغاء، فلها هدير لعشاق دين الله ولها رنينٌ بين الخافقيين ونورا اعجب العينين، وفيها أعظم صور الخلود حيث يزحف الملايين من البشر من الذين أحبوا دين الله وأقسموا ان يسيروا على درب الكرامة نحو قبلة العاشقين لله وملاذ الحائرين وكعبة الصابرين سيد شباب أهل الجنة الامام الحسين عليه السلام، فتجد في ذلك الزحف إنسانا مسلما وانسانا مسيحيا وانسانا آخرين وجميعهم اشتركوا في عشق الكرامة والإباء فهم يسيرون وعيونهم تلمح بريقا في السماء يخبرهم ببشرى رضا ربها وحسن كمالهم نحو سمو العلياء، وتجد هنالك طفل صغير حديث المشي يسير في الطرقات وصولا الى ارض الفداء كربلاء، وتجد هنالك شيخا كبيرا أهرمته السنين بتقادمها واتعبته الهموم بعواصفها وقد احدودب ظهره من أثر ذلك لكنه مصرّا على مواصلة الطريق قدما اليكِ يا كربلاء الفداء وحيث قبلتك الامام الحسين عليه السلام سيد الشهداء، ونلاحظ ان هنالك رجلا معاقا مفتقدا لأحد ساقيه وقد الهب الطريق مشيا حثيثا مستندا على عكازتيه ولا تعب و لا نصب و لا ملل، وتجد هنالك امرأة عليلة وقد جاءت بكرسي متحرك نحو بوصلة الخلود حيث مرقد السبط الشهيد راجية بذلك رضا الله ومواساة بنت رسول الله صلى الله عليه واله الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء زحفا الى أرض كربلاء كعبة العظماء، ونلمح شيخا كفيف البصر مستندا على عصاه هاتفا يا حسين يا حسين يا حسين أراك ببصيرة قلبي رغم عمى عينيّ وتعب قدميّ، وإن كلٌّ لما جمع هؤلاء حملوا في قلوبهم وفطرتهم حب الامام الحسين عليه السلام ولكن الخالق الحقيقي لهذا العشق في تلك القلوب هو الله تعالى تخليدا لذكر وليه الامام الحسين عليه السلام وهو مصداق من مصاديق قاعدة التضاعف القرآنية لما قدمه الامام عليه السلام في سبيل الله فكانت السنبلة الواحدة بسبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله هو واسع العطايا ذو الفضل الكبير.
وقد شهد التأريخ بتسابق الطغاة واجتهاد اشياع الضلالة وأئمة الجور لمحو هذا الخلود من خارطة الدنيا فلم يزدد الا خلودا، وتكاتفوا لأجل محو هذا الذكر الخالد وطمسه فلم يزدد الا اشراقا و اهلالا، فأيقنوا أن الموت قد كذب بقتل الامام الحسين فهو خالدٌ برعاية رب السماء ومخلّد، وكلما مرت الأوقات والأيام وتقادمت السنين فإن ذكره يتجدد، وستبقى زيارته في اليوم الأربعين من آيات الخلود الشاهدة على ذلك والناطقة بصورها الإنسانية العظيمة، وستبقى روضة للأطفال تعلمهم العلم والإيمان ومدرسة للفتيان تعلمهم قيم الحرية ومُثل الاخلاق السامية وجامعة للشباب تعلمهم مبادىء العطاء وسبيل الكرامة.