سيدة الطف زينب بنت أمير المؤمنين علي (عليهما السلام)
د. مجيد حميد الحدراوي – كلية الآداب / جامعة الكوفة
العقيلة زينب (ع) بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، أمها سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع) بنت الصادق الأمين محمد (ص) خاتم الأنبياء والمرسلين ، وأخت سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين (ع) وريحانتي رسول الله (ص) ، سليلة الشرف الباذخ الذي لا يفوقه شرف، ولدت سلام الله عليها في الخامس من جمادى الأولى في السنة الخامسة للهجرة، وتربت في منزل الوحي ومدرسة النبوة، حيث شملها سيد الكائنات وأشرف المخلوقات النبي محمد(ص) بحبه ورعايته منذ ولادتها ، فاختار لها اسمًا (زينب) واهتم بها حتى بلغت الخامسة من عمرها، تنهل في مدينة علمه النبوي إذ صارت عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة … ، أخذت عن جدها علمه وفصاحته وزهده وعبادته واعتكفت بعده بمدينة علمه عند بابها العلوي، المتغداة بلبانه من أمها الصديقة الطاهرة سلام الله عليها ، وقد طوت عمرًا من الدهر مع الإمامين السبطين يزقانها العلم زقًا، فقد اغترفت من عباب علم آل محمد (ص)، فكانت تشبه أمها لطفًا ورقة، وتشبه أباها علمًا وتقى، وكان لها مجلس علمي حافل تقصده النساء اللواتي يردن التفقه في الدين، اجتمع لها ما لم يجتمع لغيرها من النساء فكان يروي عنها ابن عباس فيقول : (حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي).(1)
استقبل آل بيت النبوة زينب منذ ولادتها بالدموع والهموم لأنهم كانوا عالمين بالأيام السود التي تنتظرها في كربلاء، فكانت محاطة برعاية خاصة من جدها العظيم محمد(ص)، وعطف أمها الزهراء وأبيها المرتضى وأخويها الحسنين سلام الله عليهم جميعا، وتمضي الأيام وتدرك العقيلة الدور الخطير الذي ينتظرها في مستقبل أيامها حينما أخبرتها أمها الزهراء (ع) وهي تعدها لتلك المهمة الكبرى.
ما إن بلغت سيدة الطف الخامسة من عمرها حتى انهالت عليها المصائب تترى ، أولها حينما رأت جدها المصطفى يلبي نداء ربه ويوارى الثرى على مقربة من دارها، ثم تشهد ما جرى بعده من أحداث عصيبة وتنكر القوم لأبيها ووصية جدها محمد (ص) واغتصابهم حق آل بيت النبوة وهجومهم على دار الزهراء(ع) والاستعداد لإحراقه طلبًا للبيعة…واستشهاد أبيها علي وأخيها الحسن(ع) في الكوفة … ، نعم أبصرت العقيلة كل ذلك إلا أن ما كان ينتظرها أشد وأعظم …
حينما امتلك بنو أمية رقاب المسلمين وتولى الطلقاء وأبناء الطلقاء الخلافة منهم عملوا على تهديم قواعد الدين الإسلامي الحنيف وتغيير عقائده بما يتفق ومصالحهم الدنيوية وهؤلاء لم يكونوا يومًا جديرين بقيادة الأمة المحمدية ، فأضمروا الحقد لنبي الإسلام(ص) وأهل بيته(ع) ، وإن يزيد الذي تأمَّر على المسلمين باسم الإسلام فهو ضال مضل شارب للخمر منتهك للحرمات لا يصلح أن يتولى أحقر أمر من أمور المسلمين فضلًا عن هذا المنصب الخطير الذي امتلك به رقاب العباد.
لقد أدرك الإمام الحسين(ع) ما وصلت إليه الأمة من تدهور في أحوالها وذهاب لأخلاق أبنائها ، التي أفسدها بنو أمية بسياستهم الهوجاء ويكفينا دليلًا على ذلك استسلام الأمة الإسلامية لطاغية مثل يزيد والتسليم بقيادته، فأراد الحسين (ع) أن يحدث صعقة في الأمة التي أصابها الجمود والخنوع ، ولهذه الغاية استنفر الحسين في سبيل الحفاظ على دين جده كل ما يملك من أبناء وإخوة، رجال ونساء وأطفال إلى كربلاء ليظهر للعالم أجمع أحقاد بني أمية ومن والاهم، واستهتارهم بكل القيم والمقدسات، فكان ركب الحسين يمثل الصفوة الخالصة في الأمة التي آمنت بالله ورسوله ورسالة الإسلام الخالدة واستعظمت أن تؤثر الصمت على مقاومة الظلم والطغيان، فآثرت التضحية بكل ما تملك في سبيل الإسلام، فآمنت بالحسين (ع) الذي كان عالما بأن يزيد سيقدم على قتله وأصحابه وسبي نسائه وأطفاله، ويتهمه وأصحابه بأنهم خوارج لذا كان لابد من أن يعد للأمر العدة ويجد من يؤمن بالقضية ويمكن النهضة من تحقيق أهدافها.
لقد أعد الإمام الحسين (ع) العقيلة زينب (ع)لاستكمال الثورة من بعده ومن أقدر منها على معرفة الحق وأهله؟ فهي التي ورثت العلم والبلاغة والصبر والجلد عن آبائها ورسخ الإيمان في نفسها إلى حد لا تغلبه العاطفة ولا تضعفه القوة والشدة، خطيبة جريئة لا تأخذها في الله لومة لائم، جاهدت في البيان واللسان لتأدية الرسالة العظمى وإبلاغ الحجة التي بها إحياء الحق وإماتة الباطل، فلم يرهبها ابن مرجانة وبطشه، ويزيد وطيشه، وقفت في وجههما كاشفة عن الحق وأنهما الطغاة الكفرة الخارجين من الإسلام، وأظهرت لجموع المسلمين في الكوفة والشام أن الحسين(ع) قُتل في سبيل الدين وإحيائه، وأنه ما خرج إلا على الظلم وأهله وأنه لم يضحِّ بنفسه وكل ما يملك إلا ليحي العدل ويستنقذ الأمة من الظلم والاستعباد ويحرر رقاب المسلمين من العبودية والذل ويغل يد الظالمين عن الظلم .
تلقت سيدة الطف المصائب والخطوب فكانت جبلًا من الصبر، شاهدت مصرع الأكبر والرضيع والقاسم وأخويها العباس والحسين(ع) ، وأبنائها الثلاثة وبقية الآل والأصحاب وحرق الخيام وهجوم الجيش على معسكر الحسين (ع) وتفرق الأطفال والنساء في البيداء هائمين ليس لهن ولي ولا كفيل، تلقت ذلك كله – والذي يشيب له الرضيع – بصبر عظيم وتجلد لا يوصف فعملت في تلك الحالة على جمع عيالات الرسول (ص) وأطفاله من هنا وهناك، وأمرتهم بالصبر على البلاء والرضا بالقضاء، ولم تنقص المصيبة من عزة نفسها وإبائها المحمدي العلوي الحسيني، حيث سارت مع عيال أخيها من كربلاء إلى الكوفة ثم إلى الشام تتفقدهن وتحافظ عليهن، وعندما عرض الإمام السجاد على ابن زياد في الكوفة فأمر بقتله (فتعلقت به زينب عمته وقالت : يا ابن زياد ، حسبك من دمائنا ، واعتنقته وقالت : والله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه ؟ فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ثم قال : عجبًا للرحم ! والله إني لأظنها ودت أني قتلتها معه ، دعوه فإني أراه لما به .) (2) فحافظت سلام الله عليها على بقية العترة الطاهرة وسلمته من القتل .
استكملت سيدة الطف في الكوفة جهاد أخيها الإمام الحسين (ع) في إبلاغ الحجة وتكذيب الدعايات الأموية فحينما دخل موكب السبايا الكوفة استقبله أهلها بالبكاء فأشارت إليهم أن اسكتوا فطأطؤوا رؤوسهم خزيًا وندمًا، وألقت خطبة عصماء ظلت مدوية عبر التاريخ ترددها الأجيال لتُعرَف من خلالها حجم الجريمة التي ارتكبت بقتل الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه (3) .
ولقد أحرقت كلمات العقيلة نفوس أهل الكوفة وأحسوا بوخز الندم منذ اللحظة الأولى التي وقفت فيها بطلة كربلاء موقفها الأليم المثير، فقد أعلنت انتصار الحق على الباطل، انتصار المنهج الحسيني على المنهج الأموي، ولما كانت سنة 65هـ كانت صيحات أهل الكوفة (يا لثارات الحسين) تزلزل الأرض تحت أقدام بني أمية .
سيق الركب إلى الشام تتقدمه رؤوس الشهداء، ولما وصلت السبايا إلى الشام خرج أهلها بالطبول والأعلام يتلون أناشيد النصر حيث روج بنو أمية الأكاذيب بانتصار يزيد على الخوارج (الحسين وأصحابه)، فازدادت العقيلة حزنًا وغيظًا على ما رأت من (استقبال) أهل الشام، فضلًا عن ذلك المشهد الرهيب من يزيد بعدما أدخلوهم عليه فقد انثنى يعبث بقضيب في يده بثنايا الإمام الحسين(ع) وهو ينشد قصيدة شاعر الجاهلية ابن الزبعرى(4) :
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلُّـوا واستهلُّـوا فرحًـا ثــم قالــوا يا يزيـد لا تُشل
وردًّا على هذا التصرف العدواني من يزيد انتفضت سيدة الطف تصيح في الطاغية : (…أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما يساق الأسارى، أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ؟ .. فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)(آل عمران:178) ثم تحولت الحوراء(ع) إلى لغة التقريع فقالت : (أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدوا بهم الأعداء من بلد إلى بلد .. وكيف يُرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان ، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم : لأهلُّوا واستهلُّوا فرحاً ، اللهم خذ لنا بحقنا ، وانتقم ممن ظلمنا واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا .. وحسبك – يا يزيد – بالله حكماً وبمحمد (ص) خصماً وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم من سوّل لك ومكنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلاً وأيكم شرّ مكاناً وأضعف جندًا .. ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إنّي لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك ولكن العيون عبرى والصدور حرّى … ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرمًا .. فكد كيدك واسع سعيك، وناصب جهدك فو الله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند وأيامك إلاّ عدد وجمعك إلاّ بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين)(5)
استطاعت سيدة الطف أن تجعل من مصرع الحسين(ع) مأساة خالدة وصيرت من يوم استشهاده مأتما سنويًا للأحزان والآلام وأنَّ قتل الحسين(ع) ليس إطفاءً لنور الله وإماتة لسنة رسوله(ص) بل إحياء للدين والشريعة وقتلًا للظلم والضلال، وقد تحقق كل ما قالته عقيلة الهاشميين ليزيد وصدق كلامها، فنعى على يزيد عمله بعض من حضر وأضربت الشام احتجاجًا على ما ارتكبه وأنه قد أساء إلى الأمة والدين، وأقيم العزاء على الحسين في قصره لثلاثة أيام رغم أنفه، وجاء أمر الله وانمحت دولة الضلال وسقط سلطان الجور، وقتل المختار أنصار الظلم ورجال الفساد وتحققت نبوءة الحسين (ع) في قدرة العقيلة على أداء مهمتها على أكمل وجه في مدة عام ونصف بعد مقتل أخيها الحسين (ع)، فتوفيت في عام 62هـ، ومكان وفاتها اختلف المؤرخون فيه، فمنهم من قال في مصر ومنهم من قال في الشام ومنهم من قال في المدينة .
تمكنت سيدة الطف في المدة القصيرة التي عاشتها بعد استشهاد الإمام الحسين(ع) أن تغير مجرى التاريخ، فلقد ظن بنو أمية أن مقتل الحسين(ع) وآله الفصل الأخير في قصة التشيع ، إلا أن سيدة الطف أفسدت على الطغاة من بني أمية مخططاتهم وسلبتهم لذة النصر بعد أن سكبت قطرات من السم الزعاف في كؤوس الظافرين، وأفضت بعد مدة قصيرة إلى هزيمة بني أمية، فاستطاعت بطلة كربلاء أن تثأر لأخيها الشهيد العظيم وأن تسلط معاول الهدم على دولة بني أمية وكل دولة تقوم على الظلم حتى يأمر الله بخروج قائم آل محمد الحجة بن الحسن (عج) ، ولله در الشيخ جعفر نقدي حيث أنشد يقول بحق سيدة الطف ما نصه :
عقيلة أهل بيت الوحي بنت الوصي المرتضى مولى الموالي
شقيقة سبطي المختار من قد سمت شرفًا على هام الهلال
حكت خير الأنام عُلًا وفخرًا وحيدر في الفصيح من المقال
وفاطم عفة وتقى ومجدًا وأخلاقًا وفي كرم الخلال
ربيبة عصمة طهرت وطابت وفاقت في الصفات وفي الفعال
فكانت كالأئمة في هداها وإنقاذ الأنام من الضلال
وكان جهادها بالليل أمضى من البيض الصوارم والنصال
وكانت في المصلى إذ تناجي وتدعو الله بالدمع المذال
ملائكة السماء على دعاها تؤمن في خضوع وابتهال
روت عن أمها الزهراء علوما بها وصلت إلى حد الكمال
مقامًا لم يكن تحتاج فيه إلى تعليم علم أو سؤال
ونالت رتبة في الفخر عنها تأخرت الأواخر والأوالي
فلولا أمها الزهراء سادت نساء العالمين بلا جدال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الأصفهاني ص60 .
- للتعرف على نص الخطبة راجع :الإرشاد/الشيخ المفيد ج2 ص116 .
- الأمالي للشيخ الطوسي ص92 .
- مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الأصفهاني ص 80 .
- بحار الأنوار/المجلسي ج45 ص133.