الحكمة – متابعة: تأثر رائد الفضاء رون غاران بشدة من منظر الأرض من الفضاء الخارجي، وتغيرت نظرته للعالم، والآن يريد أن ينقلنا جميعًا إلى الفضاء لنلقي نظرة خاطفة على العالم الهش كما رآه بعينيه.
في المصنع التابع لمؤسسة “وورلد فيو” بمدينة توسان بولاية أريزونا، تمتد منضدة على مسافة 165 مترًا، لتبدو وكأنها أكبر منضدة عمل في العالم. وعلى هذه المنضدة يوجد نسيج شفاف هش لغلاف بلاستيكي عملاق.
وقد صمم هذا الغلاف المصنوع بدقة من مادة البولي إيثيلين، والذي يُعتزم ملؤه ليصبح في حجم ملعب كرة قدم، لكي يحمل مركبة ذات ضغط مُعدل في رحلة إلى حافة الفضاء.
وستقل هذه المركبة ستة ركاب، يجلسون فيها على مقاعدهم الوثيرة، ويحملهم الهواء عبر الطبقات العليا من الغلاف الجوي، على مسافة 32 كيلومترًا فوق سطح الأرض، ليلقوا نظرة على الأرض من خلال النوافذ البارزة كبيرة الحجم.
بل ويمكنهم أيضًا أن يرسلوا الصور التي يلتقطونها لأنفسهم إلى أصدقائهم على الأرض باستخدام شبكة الواي فاي على متن المركبة.
وبعد أن يطوف المنطاد بالركاب في جولة فوق السحاب على مدار ساعتين، يفصل الطيار المنطاد عن المركبة، لكي تهبط المركبة ببطء إلى الأرض بمساعدة مظلة ضخمة يمكن توجيهها في أي اتجاه.
إن التصور الذي وضعته مؤسسة “وورلد فيو” للطيران على ارتفاعات عالية نحو طبقات الجو العليا ليس حلمًا بعيد المنال. وقد استوحت الشركة التقنية المستخدمة للطيران بالمنطاد من قفزة آلان يوستاس، المدير التنفيذي لشركة غوغل، الذي حطم الرقم القياسي للقفز الحر بالمظلة مؤخرًا.
والآن، تعتزم شركة “وورلد فيو” أن تنقل السائحين إلى الفضاء، بتكلفة 75 ألف دولار للمقعد الواحد، وقد عينت رون غاران، رائد الفضاء المتقاعد بوكالة ناسا الأمريكية للفضاء، ليكون ربّانًا للمركبة الفضائية.
ويقول غاران، الذي عرض خططه في مؤتمر “أفكار ستغير العالم” الذي نظمته “بي بي سي فيوتشر” في سيدني في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني: “في أثناء صعودنا إلى أعلى، سنشاهد تغير لون السماء من الزرقة إلى الظلمة. وسنتمكن من رؤية انحناء سطح الأرض، ومدى رقّة الغلاف الجوي، كما سنرى الشمس وكأنها نجم في مواجهة سماء مظلمة”.
وقد قضى غاران، المحارب السابق في الجيش الأمريكي، ما يزيد عن 177 يومًا في المدار الأرضي في إطار بعثتين إلى المحطة الفضائية الدولية.
كما كان غاران على متن المكوك الفضائي، سويوز الروسي، وسبح في الفضاء أربع مرات خارج المركبة الفضائية. ويزعم غاران أنه أول رائد فضاء يطلب توصيل البيتزا إلى المدار الأرضي المنخفض، حيث تقع المحطة الفضائية الدولية.
وقد كرّس غاران حياته، منذ أن ترك وكالة ناسا للفضاء، لينقل للناس ما يطلق عليه “المنظور المداري”. وفي هذا الصدد، ألف كتابًا ورسم لوحات زيتية لكوكب الأرض، ويعد الأن فيلمًا وثائقيًا عن كوكب الأرض.
ويقول غاران: “لقد غيرتني تجربتي في الفضاء”.
وأردف قائلًا: “أعتقد أن فرصة الإطلالة على كوكب الأرض من الفضاء من شأنها أن تبدّل حياتك تمامًا، وتترك في نفسك أثرًا كبيرًا. وكلما أتيح لعدد أكبر من الناس الفرصة ليروا كوكبنا كنظام حي متكامل، عشنا جميعًا معًا على كوكب الأرض حياة أفضل”.
فعندما غادر غاران للمرة الأولى كوكب الأرض على متن مكوك الفضاء ديسكفري سنة 2008، دُهش من فرط رقة الغلاف الجوي.
ويقول غاران: “لا أنكر أن ذلك الأمر لا ينبغي أن يثير الدهشة. فعلى الرغم من كثرة الصور التي التقطت لكوكب الأرض، إلا أنك حين ترى الأرض بعينيك، سيعتريك خوف مشوب بالحزن كلما فكرت أن هذا الغلاف الجوي هو الذي يبقي كل الكائنات الحية على سطح الكوكب على قيد الحياة”.
وأردف قائلًا: “كما صدمت من التعارض المحزن بين جمال كوبنا في الظاهر، وما يحمله في طياته من حقائق مؤسفة تهدد حياة عدد كبير من الكائنات التي تعيش على الكوكب، فقد تصاب حينذاك بخيبة أمل.”
واستطرد قائلًا: “ولكن يمكننا أن نغير هذا الواقع، فلدينا من القوة والموارد والتكنولوجيا ما يمكننا من حل العديد من المشكلات التي نواجهها، إن لم يكن كلها”.
بالطبع لا يتمتع كل رواد الفضاء بهذا القدر من الفصاحة والقدرة على الاستحواذ على الانتباه واستشعار أهمية ما تخلفه رحلات الفضاء على النفس من آثار.
فلا يحصل رواد الفضاء على مناصبهم بسبب حسّهم المرهف، مع أنه طالما قيل أن الطريقة المثلى لتعريف الناس بالمخاطر التي يواجهها كوكب الأرض، هي إطلاق الفنانين أو الموسيقيين، أو ربما زعماء العالم في الفضاء لتغيير نظرتهم للعالم بعد عودتهم إلى الأرض.
ويقول غاران: “كنت أحاول مجازًا في البداية أن أنقل الناس إلى هذه النقطة المرتفعة في الفضاء ليروا كل مكونات الحياة على كوكب الأرض. أما الآن فيمكنني أن أنقلهم بالفعل إلى حافة الفضاء، فأعتقد أن الكثير منهم ستتبدّل نظرتهم إلى العالم كلية بعد ذلك”.
بالتأكيد لن يستطيع أغلب الناس توفير تكلفة الرحلة على متن مركبة وورلد فيو، التي تبلغ 75 ألف دولارًا.
إلا أن هذا السعر يتيح فرصة السفر إلى الفضاء لعدد أكبر من الناس مقارنة بالرحلة إلى المدار الأرضي، إذ تبلغ تكلفة السفر السياحي إلى محطة الفضاء الدولية، على سبيل المثال، 50 مليون دولار.
فضلًا عن أن المسافرين على متن منطاد وورلد فيو سيستمتعون برحلة تستغرق وقتًا أطول من الرحلات القصيرة والمثيرة للرعب على متن الطائرات التي تتجاوز سرعتها سرعة الصوت، أو الرحلات التي تشعرك بالغثيان الناتج عن انعدام الوزن التي لا تستغرق إلا دقائق معدودة، مثل تلك الرحلات التي توفرها الشركات المنافسة مثل “فيرجن غالاكتيك”.
ربما ترى أن التحليق على مسافة 20 ميلًا فوق سطح الأرض لا يعد، من الناحية الفنية، تحليقًا في الفضاء. فمن المعروف أن الخط الفاصل بين الغلاف الجوي والفضاء الخارجي المعترف به دوليًا، وهو 62 ميلًا (100 كيلومتر) فوق سطح الأرض.
ويقول غاران: “حري بنا أن نسميها مركبة فضائية، فعند هذا الارتفاع نكون قريبين إلى حد كبير من الفضاء الخارجي، وما ينطوي عليه من مشاكل ذات صلة بالحرارة والضغط، ولهذا تصنف هذه المركبة كمركبة فضائية”.
وتبني شركة “وورلد فيو” في الوقت الحالي، بدعم من السلطات المحلية في مدينة توسان، مصنع مناطيد جديدا، وميناءً فضائيا بمطار المدينة. وريثما تتضح معالم النموذج الأولي للمركبة التي سيحملها المنطاد وتقل ركابًا، تعكف الشركة على تطوير أول منطاد يحمل أقمارا صناعية في طبقات الجو العليا، ويعرف باسم “مركبة ستراتولايت”.
ويمكن تركيب أي شيء على هذه المنصات الروبوتية عالية الارتفاع، المصممة لتنافس الأقمار الصناعية ولكن بتكلفة أقل بكثير، مثل أجهزة الاستشعار العلمية أو الكاميرات أو أنظمة الاتصالات، وقد توفر خدمات الإنترنت عالية الجودة للمناطق النائية، أو تنقل صورًا تليفزيونية لتغطية الأحداث الرياضية الكبرى.
وإلى حين الانتهاء من تنفيذ النموذج الأولي للمركبة، التي سيطلق عليها اسم “فواياجير”، يتلقى غاران بعض التدريبات. ويقول غاران: “كما تعلم، نحن بصدد تنفيذ برنامج اختبار طيران شامل، وسيكون ممتعًا وحافلًا بالتحديات”.
وتابع غاران: “أتدرب الآن على كيفية الطيران بالمظلات، وعندما أتقنه سأتعلم كيفية الهبوط بالمظلة. يجب أن تتقن مجموعة من العمليات خطوة بخطوة، لكي تتمكن في النهاية من إعادة هذه المركبة الثقيلة، وعلى متنها ثمانية أشخاص، إلى الأرض من دون أن يتسبب ارتطام المركبة بالأرض في سكب المشروبات”.
ولم تكن مؤسسة “وورلد فيو” هي الوحيدة التي تخوض غمار الطيران بالمناطيد، فإن مؤسسة “زيرو تو إنفينيتي” الإسبانية لديها تطلعات مشابهة للسياحة الفضائية، كما تطور شركة “غوغل” مناطيد تصل إلى ارتفاعات عالية لتوصيل خدمة الإنترنت عالية الجودة إلى المجتمعات النائية.
يقول غاران إنه على عكس وسائل النقل الأخرى المستخدمة في السياحة الفضائية، ولا سيما الطائرات الفضائية المتطورة، يقوم هذا المشروع بالأساس على فكرة فلسفية عميقة.
ويتنظر غاران بفارغ الصبر توجيه الركاب لربط أحزمتهم، والانطلاق إلى السماء. ويقول غاران: “كم أفتقد التحليق في الفضاء، فمشاهدة كوكبنا من الفضاء له أثر كبير على النفس. وإذا زاد عدد الناس الذين يصلون إلى هذا الفهم الشامل لكوكب الأرض، سيصبح العالم أفضل حالًا”.