وردت هذه الوصية في نهج البلاغة برقم (31) من رسائل أمير
المؤمنين(عليه السلام)، ويظهر من عنوانها أنه كتبها لابنه الإمام الحسن(عليه السلام) بـ(حاضرين) عند انصرافه من صفين، وحاضرين: هو اسم بلدة في نواحي صفين(1). هذه الوصية تمثل نموذجاً فريداً جامعاً لمكارم الأخلاق، مشتملة على بليغ المواعظ والحكم، تضع الفرد المسلم على الطريق الصحيح، فهي وصية صدرت من الحق
لأنه(عليه السلام) يدور معه الحق حيثما دار، وما أحوج الإنسانية إلى مثل هذه الوصايا التي تضم خير الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة.
نحاول في هذه الدراسة المقتضبة الوقوف على هذه الوصية وتدبر بعض معانيها بقدر ما تسعه أوراق هذه المقالة.
فلو نظر أهل المدنية المعاصرة إلى هذه الوصية لتعرفوا إلى الإسلام الحقيقي لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام) في التربية والتهذيب والإصلاح الاجتماعي الذي أُسس من القرن الأول الهجري(2).
اعتمدنا على رواية نهج البلاغة لدراسة بعض مقاطع هذه الوصية، وقبل الدخول في تحليل وبيان تلك المقاطع المختارة، رأينا أن الوصية تنقسم إلى عدة مواضع أو اتجاهات، أي إننا نستطيع تقسيم مضامينها بلحاظ أربعة أمور مهمة بالنسبة إلينا وهي:
1ـ ما يخص معرفة النفس وزادها وتهذيبها.
2ـ ما يخص ذكر الموت والفناء والآخرة والمعاد.
3ـ ما يخص علاقات الإنسان بأفراد المجتمع ومعاملته لهم.
4ـ وهناك مواعظ وحكم حاوية لدرر وجواهر ثمينة.
ولو تفحصنا كل قسم لوجدناه ينطوي على عدة عناوين ورؤوس مطالب، ففي القسم الأول كان فيه أكثر من مضمون ونص، نستطيع أن نضعه تحت هذا العنوان، للدلالة على قيمة تلك البحوث التي احتوتها تلك الوصية، فمن تلك المطالب تطرقت الوصية إلى: تقوى الله تعالى وعمارة القلب بذكره والاعتصام به، وحفظ اللسان، والتفقه في الدين والصبر والتوكل، والإخلاص في الدعاء، وصفات الله تعالى، وفضيلة النبي(صلى الله عليه وآله) وعلاقته بالله تعالى، وفضيلة الصمت والتفكر، واجتناب أكل الحرام، وذم اتباع الهوى واليأس والحذر من الزمان.
أما القسم الثاني أُثيرت فيه مواضيع متعددة منها: الموت والفناء، والاعتبار بأخبار الماضين، التنبيه على حالتي الدنيا والآخرة، الإنسان مخلوق للآخرة لا للدنيا، التزود للآخرة، إنك ميت وإنهم ميتون، إضاعة الزاد وعدم الاستعداد للآخرة، عواقب الأمور.
وأما القسم الثالث فمن مواضيعه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعاملة مع الخلق وحفظ المال، والقرين الذي تصحبه، والصداقة الحقة، وترك الاستعانة بمن لا خير فيه من الناس، والنصيحة، وادفع بالتي هي أحسن فلا يواجه الغلظة بالمثل، وكن عند حسن ظن الآخرين، ولا تضيع حق أخيك، العلاقة مع الأهل، والصلة والإحسان، وإنفاق المال في وجوه البر، والرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك وذم عبّاد المصالح، وخير الأمور أوسطها، وفقد الأحبة غربة، ومن هو الصديق، ومعرفة الإنسان لقدره وحدوده، والرفيق قبل الطريق والجار قبل الدار.
فهذه المواضيع وغيرها قد تم تناولها في الوصية فعلى من أراد الاطلاع على تلك الحقائق وتتبع كلماتها يجد الشرّاح لنهج البلاغة قد بينوا ذلك، أو هنالك كتب مستقلة قد شرحت الوصية منها (الوصية الذهبية).
قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في بداية الوصية: (مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ – الْمُسْتَسْلِمِ لِلدُّنْيَا – السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى والظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً…)(3).
قوله(عليه السلام): (الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ)، أي المعترف له بالشدة، (والظَّاعِنِ) من ظعن أي سار بقرينة (عَنْهَا غَداً) وقوله(عليه السلام): (الْوَالِدِ الْفَانِ) مشعران بصدور ذلك المعنى والحدث منهما لأنهما على هيئة اسم الفاعل ففيهما دلالة على أنهما محل ذلك الحدث وتغيره وتجدده، فعالم الدنيا نأتي إليه ونعيش فيه من نشأة أخرى قبله ونصير نحو الضعف والزوال والفناء، ولعل ما بعده من الأوصاف مترابطة تستبطن هذا السياق والمعنى، لأن تغير الزمان وإدبار العمر والاستسلام للدنيا كأنها أمور مترتبة، وهي تشير إلى علامات الحركة والفناء، وهي من أوصاف عالم الطبيعة، التغير والتجدد هو نصيبنا من هذا العالم الذي يحيط بنا فهو يتحرك بنا ونحن غافلون عنه وعن أنفسنا ولا نحس بذلك فكل حركاتنا وسكناتنا وذواتنا منسجمة معها لأجل تعمير دنيانا تجعلنا لا نلتفت إلى النهاية الحتمية وهي الموت كما كان لمن قبلنا بقرينة قوله(عليه السلام): (السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى والظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً). هكذا حالنا وحال آبائنا، فالموتى كانوا أحياء وانتهى مصيرهم بأجلهم ونودي بهم إلى الرحيل إلى العالم الأبدي ونحن أيضاً ظاعنون راحلون عن تلك الديار والملك لله تعالى الواحد القهار.
وقد ورد في كتاب الوصية الذهبية (ص111): (وهذا الافتتاح بهذه الأوصاف إنما هو للتنفير عن الدنيا وبيان واقع الحال الذي يقوم بدوره بترويض النفس لقبول الموعظة وقوله(عليه السلام): (مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ) فيه إشعار بمزيد من الحنان والرأفة).
إذن الوصية صدرت من بصيرة ثاقبة لحقيقة الدنيا وعبرة وموعظة تفيد أفراد المجتمع الإنساني، فإدراك ووعي الإنسان لمحدوديته وقلة حيلته وعجزه عن دفع الضعف والزوال هو إقرار بالفناء والحركة والتغير الذي سيناله، وهذا الإدراك العقلي النازل إلى حضور القلب والوجدان هو أول طريق الموعظة والاستعداد إلى الإقرار بالعالم الآخر الغيبي، فحركة الإنسان هنا تكون من المبدأ والمنشأ وكيفية وجودي أنا على هذه الأرض والسلوك إلى الآخرة، ولابد من التأمل في هذا السلوك وعلى ضوئه يحشر الإنسان وفق إرادته وأعماله الصالحة والطالحة، فهو(عليه السلام) يقول في موضع آخر من الوصية: (يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وحَالِهَا – وزَوَالِهَا وانْتِقَالِهَا – وأَنْبَأْتُكَ عَنِ الآخِرَةِ ومَا أُعِدَّ لأَهْلِهَا فِيهَا – وضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الأَمْثَالَ – لِتَعْتَبِرَ بِهَا)(4).
وقوله(عليه السلام) في المقطع السابق: (إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لَا يُدْرِكُ – السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ – غَرَضِ الأَسْقَامِ ورَهِينَةِ الأَيَّامِ – ورَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ وعَبْدِ الدُّنْيَا وتَاجِرِ الْغُرُورِ – وغَرِيمِ الْمَنَايَا وأَسِيرِ الْمَوْتِ – وحَلِيفِ الْهُمُومِ وقَرِينِ الأَحْزَانِ – ونُصُبِ الآفَاتِ وصَرِيعِ الشَّهَوَاتِ وخَلِيفَةِ
الأَمْوَاتِ)(5).
مقاطع هذا النص توجد فيها مقابلة مع النص المذكور أولًا أي بين ما وصفه لنفسه(عليه السلام) وهنا ما وصفه لابنه الإمام الحسن(عليه السلام)، فهو بيان واضح لما أجمل في السطور الأولى في حديثه عن نفسه(عليه السلام) وفيه حال الدنيا وحقيقتها فعلى الإنسان أن يبصر موقع نفسه وأن لا يغتر بهذه العيشة المنقضية حيث أنها غير دائمة ومنصرمة تدريجياً من شدة إلى ضعف في بدنه واضطراب الأيام، فالإمام يعطينا درساً أخلاقياً في تهذيب النفس بأن من عرف حال نفسه هكذا عرف ربه وآخرته وأن له معاداً.
وكذا درساً رائعاً في التواصل الاجتماعي العائلي وأهمية ذلك فينصح الآباءُ الأبناءَ فمن واقع الشعور بالمسؤولية أن نحظى بتربية صحيحة ولخلق مجتمع مستقر الإيمان(6).
ويقول أيضاً(عليه السلام): (أَمَّا بَعْدُ – فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي – وجُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ وإِقْبَالِ الآخِرَةِ إِلَيَّ – مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ – والِاهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِي…) إلى أن يقول(عليه السلام): (فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّه أَيْ بُنَيَّ ولُزُومِ أَمْرِه – وعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِه والِاعْتِصَامِ بِحَبْلِه – وأَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وبَيْنَ اللَّه – إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ
بِه؟)(7).
جموح الدهر أي تغلبه عليّ، ويزعني أي يكفيني، فمن كانت حالته هكذا وأدرك إقبال الآخرة وانصرام الدنيا فيكون مشغولاً في نفسه وينصرف عن غيره فطوبى لمن شغلته نفسه وعيوبها عن عيوب الناس.
ويوصي(عليه السلام) بالتقوى ولزوم أمره تعالى، والتقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف، وصار التقوى في عرف الشرع حفظ النفس عما يؤثم وذلك بترك المحظور(8)،
إن علاقة التقوى بالسطور الأولى من كيفية السلوك ما بين المبدأ والمعاد ومن ولادة النفس في هذه النشأة إلى محشرها تتضح من حاجة المجتمع الإنساني إلى منهج رباني يعيننا على الخروج من الظلمات إلى النور وعلينا الالتزام به فإن للأبدان صحة وسقم فكذا الأرواح، والشريعة هي طب تلك الأرواح.
إن الالتزام وفق الشريعة هو الأساس الصحيح للعبادة التي لأجلها خلق الإنسان، وبها يكون إنساناً سليم القلب، والأمة الإسلامية من خلال التقوى والالتزام تسودها الألفة وتتحقق المبادئ السامية من العدالة والمساواة والتكافل الاجتماعي مما تحصل به الحضارة البشرية(9).
وقوله(عليه السلام): (وعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِه) لعل لفظ العمارة أصلها من (عَمرت الخراب فهو عامر ومعمور)(10) لأن الذكر هو حياة القلوب التي أماتتها الذنوب والمعاصي، فهو إرشاد إلى عدم الانشغال بغيره تعالى، ففي مناجاة التائبين من الصحيفة السجادية: (وأَماتَ قَلْبِي عَظِيمُ جِنايَتِي فَأَحْيِهِ بِتَوْبَةٍ مِنْكَ يا أمَلِي وَبُغْيَتِي)(11).
فبعد معرفة المبدأ والمعاد والسلوك إليه تعالى من خلال الشريعة المقدسة والطاعة والالتزام فناسب ذلك ذكر الخالق جل وعلا والارتباط به، وأساس الذكر هو الالتفات الفعلي إلى الله تبارك وتعالى المعبر عنه بالفقه بالقربة، كما يعبر عنه علماء الأخلاق بالحضور والتوجه. والذكر القلبي هو التوجه والخلوص والتقرب إليه تعالى وكلما ازدادت عبودية العبد لربه ازداد مقام التوجه إليه، والذكر العملي هو العبادة والطاعة والأفعال المرضية له تعالى كعيادة المرضى وتشييع الموتى، والسعي في قضاء حوائج الإخوان(12).
وقوله(عليه السلام): (والِاعْتِصَامِ بِحَبْلِه وأَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وبَيْنَ اللَّه إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِه).
الإنسان يحتاج إلى سبب يوصله إلى كماله وفي سيره التكاملي في دار الدنيا حتى يصل إلى دار الحق تعالى، والارتباط به الأخذ بحبل الدين والتوبة والرجوع إليه والإنابة والسفر والهجرة إليه من خلال العلم والعمل الصالح، وهذا هو من أوثق الأسباب وهو الطاعة له عز وجل.
نكتفي بهذا المقدار من وصية الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لعلنا نوفق بعونه تعالى لإتمام البحث.
نشرت في العدد 52
(1) نهج البلاغة ص 535 رقم 31 ضبط النص صبحي الصالح، الأولى 1415هـ.
(2) انظر الوصية الذهبية، الشيخ مجيد الصائغ ص 11، انتشارات اعتصام، الأولى 1428هـ.
(3) نهج البلاغة ص 535.
(4) المصدر السابق 542.
(5) المصدر السابق ص 535.
(6) انظر الوصية الذهبية ص 123ـ 124.
(7) نهج البلاغة ص 536.
(8) انظر مفردات ألفاظ القرآن ص 881 للراغب الأصفهاني .
(9) انظر الوصية الذهبية ص 130.
(10) انظر مختار الصحاح ص 190 مادة ـ عمر ـ محمد الرازي، مؤسسة النوري للنشر دمشق.
(11) الصحيفة السجادية ص 203 مطبعة ثامن الحجج الأولى 1387.
(12) انظر الوصية الذهبية ص 132.