هذه الأسطر كتبتها في توضيح الألفاظ الواردة في حديث الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام) حول مناسك الحج والعبرة الروحية وبيان الأخلاق والوجه المعنوي الباطني لتلك المناسك،
فقد روي أنه لما رجع مولانا زين العابدين(عليه السلام) من الحج استقبله الشبلي أحد المعاصرين للإمام(عليه السلام)، فبدأ(عليه السلام) يسأله عن أعمال الحج، وما كان ينبغي للحاج أن يقصد بقلبه تزامناً مع تلك الأعمال الظاهرية، فنحن في هذا الحديث نقف على محطات روحية تذكرنا بحركتنا الإيمانية عن التوجه إليه تعالى، ومن أين نبتدئ وماذا علينا أن نفعل، نحن لم نتبع جميع الأفعال بل اخترنا ما ينفعنا.
قال الإمام(عليه السلام) للشبلي: (حججت يا شبلي ؟ قال: نعم يا بن رسول الله، فقال(عليه السلام): أنزلت الميقات وتجردت عن مخيط الثياب واغتسلت؟ قال: نعم . فحين نزلت الميقات نويت أنك خلعت ثوب المعصية ولبست ثوب الطاعة؟).
قوله(عليه السلام): (نويت) المعروف من النية عند الفقهاء هي القصد إلى فعل معين تقرباً إليه تعالى، والقربة هي غاية الفعل المتعبد، وهي قرب الشوق لا الزمان والمكان لتنزه تعالى عنهما، والقصد يتوقف على تعين المقصود ليمكن التوجه إليه (انظر: الشهيد الثاني، شرح اللمعة، ج1 ص74ـ75).
أي أننا بإزاء فعل معين وسلوك معين، وهو يحتاج إلى إرادة وقصد لمن لديه عقل وهم أهل التكليف، وتحديد الغاية التي من أجلها يتم إيقاع الفعل وهي عبادة الله عز وجل والتقرب إليه، والفعل الذي نحن نعمله يكون ما بين الإرادة والغاية.
وخلاصة الكلام أن النية أمر نفسي لعل بعض الفقهاء عبر عنها بالاستحضار من قبيل استحضار الصلاة كما في الشرائع في باب الصلاة أو كما نقلنا قبل قليل هي القصد إلى فعل معين، وبالتالي فإن قول الإمام(عليه السلام) هنا (نويت) التي يكررها في الرواية عند ذكر كل فعل من المناسك تشير إلى أن الحج كعبادة فيها عمل خارجي وظاهري وعمل معنوي، أو فعل باطني كالفعل الخارجي.
أما قوله(عليه السلام): (خلعت ثوب المعصية ولبست ثوب الطاعة)، الخلع الظاهري هو خلع الثوب الذي غطى البدن وكأن الحاج عندما يخلع لباسه هنا عليه أن يلتفت إلى شيء وهو خلع لباس المعصية والانتقال إلى حالة جديدة ومسار جديد بحلة جديدة وهو لباس الطاعة وفيه هنا:
1ـإطلاق كلمة (ثوب) وإضافتها إلى المعصية لعله من تقريب المجردات والمعنويات إلى التقرير الحسي من باب الاستعارة والله العالم، يقول الإمام(عليه السلام) نفسه في مناجاة التائبين: (إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلتي). وثوب المعصية هو ثوب الذلة والفقر والحاجة، وثوب الطاعة عند المقابلة مع المعصية يكون هو ثوب العزة والقوة والطمأنينة والرحمة.
2ـقوله(عليه السلام): (لبست ثوب الطاعة) فإن الطاعة والالتزام والتقوى تحتاج إلى منهج لتلك الطاعة وصراط مستقيم، ومعرفة بداية ذلك الصراط، وأوله تنوير العقل لمعرفة صاحب الطاعة أي لمن نطيع، ولماذا نطيع!؟
إذن البداية هنا هو ترك المعاصي والتوجه إلى طاعة رب العزة لأن المعصية هو خطأ وجرم وانحراف فيه دلالة على قلة الالتزام أو عدم معرفته وجهله، والذي ينطلق في رحاب مسيره إلى الله تعالى عليه أن لا يغفل عن المعصية فهي تنافي القربة.
ومن هنا نلاحظ التركيز على طهارة الروح والدوام عليها هي أو الطريق في العبادة والتقرب، فنلاحظ بعد هذا المقطع قوله(عليه السلام):
(فحين تجردت عن مخيط ثيابك نويت أنك تجردت من الرياء والنفاق وللدخول في الشبهات)، في قبال هذا التجرد الحسي هناك تجرد باطني بقرينة (مخيط الثياب) وهي ظاهرة للعيان وذكر (الرياء والنفاق والدخول في الشبهات) فهي أشياء غير محسوسة تمثل النوع الثاني من التجرد،
ولعل الإمام(عليه السلام) ذكر هذه الثلاثة بالخصوص ما للتنبيه إلى الجانب الأخلاقي النفسي. فلا فاصلة عندئذ بين جميع الأمور الأخلاقية كانت هذه الثلاثة من باب ضرب المثال، أو تم ذكر هذه في الرواية لخصوصيتها وشدة الابتلاء بها والله تعالى العالم، على أنه سوف يذكر الغيبة بعد قليل.
والملاحظ أن هذه الأمور تجعل الباطن للإنسان يضطرب وتكشف عن عدم استقراره في طاعته إليه تعالى فالرياء هو الشرك الأصغر والنفاق مرض أخلاقي وكذلك عدم التورع عن الشبهات، فالمؤمن عليه أن يراقب نفسه حتى في الشبهات وإلا لماذا الإمام(عليه السلام) يشير إلى الابتعاد عن الدخول فيها.
وقال(عليه السلام): (فحين اغتسلت نويت أنك اغتسلت من الخطايا والذنوب) هنا يذكر الإمام(عليه السلام) الغسل للإحرام وآلية الاغتسال ليس مجرد صب الماء لإزالة أثر معين على البدن عند نجاسته أو لتنظيفه من أدران معينة، بل هناك أثر نفسي لتلك المعاصي لا نراه بعين الباصرة، أرشدنا إلى هذا المعنى اللطيف هو لفظة (الغسل) الواردة في الرواية
فقد ورد من هذا القبيل كما في بعض الروايات قول النبي(صلى الله عليه وآله): (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات) فكما أن النهر الجاري يغتسل بمائه لأجل نظافة البدن فكذا الصلاة بنفس أثر التنظيف خاصة الروح فكانت الرواية فيها تشبيه والتشبيه كما تعلمون هو بيان حقيقة أمر مجهول بأمر أخر معلوم،
وقوله(عليه السلام): (من الخطايا) فالحرف (من) هو للبيان.
ولو لاحظنا سياق وتركيب العبارات السابقة حيث أن الإمام(عليه السلام) ذكر أول الأمر ترك المعصية ولبس ثوب الطاعة ومن ثم الاغتسال وما بينهما ذكر التجرد مشيراً إلى بعض القضايا الأخلاقية أو الأمراض الباطنية، وأن لهذه الانحرافات أسباباً أي أن بقاء آفة النفس وأمراضها لا يجدي نفع فالذي يتوجه إلى الطاعة عليه أن يزيل تلك الجذور والعادات والأخلاقيات السيئة وتحل محلها أخلاقاً جديدة ربانية وهذا من خلال التجرد أو عبر تخلية النفس من تلك الأخلاق الرذيلة
ومن ثم تحليتها بالفضائل وتطهير النفس من الآثار وهذا هو المعين على الطاعة والتسليم وإلا فإن الإنسان يعيش صراعاً نفسياً عند وجود أسباب الانحراف فيغلبه هواه وينقاد لطاعة الشيطان والعياذ بالله. ومما يؤيد ذلك ورد في أعمال الحج دعاء عند الغسل وفيه:
(… اللهم طهرني وطهر قلبي واشرح لي صدري واجر على لساني محبتك ومدحتك والثناء عليك فإنه لا قوة لي إلا بك وقد علمت أن قوام ديني التسليم لك والإتباع لسنة نبيك صلواتك عليه وآله).
أما قوله(عليه السلام): (فحين تنظفت وأحرمت وعقدت الحج نويت أنك تنظفت بنور التوبة الخالصة لله تعالى) يظهر أن هذا المقطع وما بعده يشير إلى التوبة من المعاصي والذنوب مع مناسبة الإحرام وفك وحل كل عقدة مع غير الله تعالى والمتوجه إلى الله تعالى يحتاج إلى أمور تعينه في السلوك وتحرم عليه أمور،
وأول هذه الأمور هو الإخلاص له تعالى ثم ترك المحرمات لذا قال(عليه السلام): (فحين أحرمت نويت أنك حرمت على نفسك كل محرم حرمه الله) وهذا شبيه بتكبيرة الإحرام في الصلاة فالخروج والهجرة من باطن النفس إلى الله عز وجل مثل التوحيد وإنارة القلب يحتاج إلى ترك عالم الدنيا وتجاوز حب النفس، لارتباط الرغبات مع عالم الدنيا فيضعف أمامها الإنسان ويقع في الانحراف.
وقوله(عليه السلام): (فحين صليت الركعتين نويت أنك تقربت إلى الله بخير الأعمال من الصلاة وأكبر حسنات العباد؟) لعله يفهم قوله(عليه السلام): (أنك تقربت إلى الله بخير الأعمال من الصلاة) إن العبد بعد توجهه إلى الله تعالى عليه التقرب إليه بأداء الأعمال أي أن العمل الجزء المهم من رسالة وحركة الإنسان المؤمن وكانت عبارة (من الصلاة) هي مصداق بارز من مصاديق خير الأعمال،
نقل الشيخ البهائي في كتابه مفتاح الفلاح ص44 باللفظة: (ومعنى حي على خير العمل أقبل على عمل هو أفضل الأعمال أعني الصلاة وقد روى … في الكافي … عن معاوية بن وهب قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم وأحب ذلك إلى الله عز وجل ما هو؟ فقال: ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة).
ولعل التأكيد على الجانب الأخلاقي والالتزام ومدى إخلاص الإنسان يتضح من بعض عبارات الحديث كما هو ظاهر فبعد أن يذكر الإمام(عليه السلام) بقوله: (بنور التوبة الخالصة لله تعالى) وعدم فعل الآثام ويحرم على نفسه ما حرمه الله عز وجل نلاحظ هذا المعنى جلياً عند قوله(عليه السلام) للشبلي عند دخوله الحرم المكي: (نويت أنك حرمت على نفسك كل غيبة تستغيبها المسلمين من أهل ملة الإسلام)،
وقوله(عليه السلام) في السعي: (فحين سعيت نويت أنك هربت إلى الله وعرف منك ذلك علام الغيوب) فقوله: (علام الغيوب) قرينة تشير إلى أن الله سبحانه يطلع على أحوال العباد ومدى إخلاصهم أو ما يقترفونه من محرم وهذا يتطلب مقداراً من الالتزام والطاعة ويدل عليه أيضاً ما يأتي من قوله(عليه السلام) في مصافحة الحجر الأسود: (فانظر يا مسكين لا تضع أجر ما عظمت حرمته وتنقص المصافحة بالمخالفة وقبض الحرام نظير أهل الآثام).
أما قوله(عليه السلام) في الصلاة في مقام إبراهيم(عليه السلام): (فحين صليت فيه ركعتين نويت أنك صليت بصلاة إبراهيم(عليه السلام) وأرغمت بصلاتك أنف الشيطان؟)،
لعل المقصود من صلاة إبراهيم(عليه السلام) هي صلاة الموحد الذي وجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وهو ليس من المشركين بقرينة (أنف الشيطان) لأن أهل التوحيد الذي عاشوا الهجرة إليه تعالى توكلوا عليه واستعانوا به وابتعدوا عن هذه العوالم الدنيوية فعندما يصلون تتجسد هذه العلاقة بينهم وبين الله تعالى في صلاتهم،
وكأن المعراج الحقيقي لأرواحهم الطاهرة صعوداً نحو الكمال المطلق، فالشيطان هو الذي حاول إبعاد إبراهيم(عليه السلام) عن ذبح ابنه ورماه(عليه السلام) بالحجارة، فعلينا تحطيم الأصنام التي نعكف عليها عابدين في أنفسنا وإبعادها عن طريق الحق، فالشيطان يقطع طريق العبادة والطاعة على الإنسان ويخذله، وخصوصاً في الصلوة،
واعلم أن صلاة كل إنسان هي مصداق التوحيدية أولاً وبالذات فتكون صلاتك حاكية عن الحال الذي أنت عليه وقد جاء عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): (إن الرجلين من أمتي يقومان في الصلاة وركوعهما وسجودهما واحد وإن بين صلاتيهما مثل ما بين السماء والأرض) وطوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء فلم يشغل قلبه بما ترى عيناه ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أعطي غيره. (انظر: من الخلق إلى الحق ص78).
وقوله(عليه السلام): (أسعيت بين الصفا والمروة ومشيت وترددت بينهما؟ قال نعم، قال له: نويت أنك بين الرجاء والخوف) حال المؤمنين المشتغلين في أنفسهم وأعمالهم قاصدين وجهه الكريم يعيشون حالة بين الخوف والرجاء الخوف من العقاب والعذاب ورجاء رحمته التي وسعت كل شيء وكلما ازدادوا معرفة وقناعة ازداد قلقهم وخوفهم من مصيرهم بين يدي الله تعالى فكانت رحمته هي الأمل فكل ما صدر منه وبلطفه حتى هذه العبادات هي من تعليم الأنبياء لنا لأجل اللطف بالعباد فأي جزيل نستحق من تلك العبادة فيلطفه،
ومن منا لا يشعر بالتقصير في أداء الواجبات وترك المحرمات حتى يستحق تمام العوض والمثوبة، وسيأتي بعدها قوله(عليه السلام): (نويت بطلوعك جبل الرحمة، أن الله يرحم كل مؤمن ومؤمنة ويتولى كل مسلم ومسلمة)، وسيأتي أيضاً قوله(عليه السلام): (فعندما صليت في مسجد الخيف نويت أنك لا تخاف إلا الله عز وجل وذنبك ولا ترجو إلا رحمة الله تعالى).
وقوله(عليه السلام): (فعندما مشيت بمزدلفة ولقطت منها الحصى نويت أنك رفعت عنك كل معصية وجهل وثبت كل علم وعمل) هنا لعله توجد إشارة إلى أن المعصية والجهل في جانب واحد فالعالم والعارف يكون على بصيرة من أمره أي أن العلم وسيلة نافعة للوصول ونجد في قبال هذا العلم والعمل به لأن العلم بدون عمل لا يكفي فالعلم يهتف بالعمل إن أجاب وإلا ارتحل.
قبل قليل ذكر الإمام(عليه السلام) مسألة الخوف والرجاء وهنا ذكر الخوف أيضاً بقوله: (فعندما مررت بالمشعر الحرام نويت أنك أشعرت قلبك إشعار أهل التقوى والخوف لله عز وجل) من الأمور المفيدة للمؤمنين هي ذكر الموت وأحوال القبر والحشر والنار، ولا يصل الإنسان إلى معنى العبودية إلا بعد حصوله على تصديقه بالتقصير والإسراف على نفسه، ولا يحصل له ذلك إلا بعد تيقنه بالعقاب وأنه هالك من كثرة جرائره (انظر: السير إلى الله العلامة الشيخ ميرزا جواد الملكي التبريزي، ص24 ملخصاً).
وقوله(عليه السلام): (فعندما رميت الجمار نويت أنك رميت عدوك إبليس وغضبته بتمام حجك النفيس) الشيطان عدو للإنسان بصريح القرآن، وهو يحسد ابن آدم على طاعته فيحاول صرفه عن ذلك، وما يحدث للحاج في مسيرته وعروجه في منازل التوحيد، والالتزام في العمل والطاعة، والإخلاص، هو نصير على الشيطان ولعل قول الإمام(عليه السلام): (وغضبته بتام حجك النفيس) إشارة إلى ذلك والله العالم.