من الواضح أن الحدث الأبرز الذي يحتل الأولويات على الساحة خلال المرحلة القادمة من عمر الدولة، هو إعداد وكتابة الدستور المرتقب باعتباره الضمانة الحضارية لعملية تداول السلطة وعملها.
ورسم السبل الكفيلة للعلاقة بين مؤسسات الدولة، إضافة لكونه الضامن الأبرز للحقوق والحريات العامة، بما يحقق ويرسي استقراراً نوعياً وكمياً في المسارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
ويبدو أن التطلع لكتابة الدستور أصبح مطلباً ملحاً ليكمل الإنجاز الأكبر للشعب العراقي بإجرائه أول انتخابات ديمقراطية حرة منذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي. ولقد أفرزت الكثير من المعطيات، لعل الأبرز منها انتظام الجمعية الوطنية العراقية، التي أنيطت بها مهام كثيرة، كتشكيل أول حكومة عراقية شرعية، والإعداد لكتابة وصياغة مشروع الدستور العراقي القادم من خلال لجنة دستورية تنبثق عن الجمعية الوطنية، بعد أن تم وضع جدول زمني لصياغته ومن ثم إجراء الاستفتاء الشعبي عليه منتصف تشرين أول القادم، وإقراره ليصبح الدستور الدائم لجمهورية العراق.
وإيماناً بروح التعاون وإشاعة الثقافة العامة، ورفد القارئ الكريم ببعض المفاهيم القانونية أو السياسية المرتبطة بحياة المواطن خاصة في هذه المرحلة المهمة، والذي حاول النظام الاستبدادي الشمولي البائد وعن سبق إصرار تغييب الكثير من المفاهيم عن أذهان الشعب لإبقائه قابعاً تحت سطوته ومحاولة تجريده من أبسط الحقوق الإنسانية المتمثلة بالحرية والمساواة والعدالة وإحقاق الحقوق.
وقد تضمن هذا الموضوع، مبحثين موجزين عن:
أولاً: أساليب نشأة الدساتير.
يراد بأساليب نشأة الدساتير، الطرق المتبعة في إقامتها، ذلك لأن الدستور لا ينشأ من العدم، بل هناك عدة طرق لوضعه، والحديث عن نشأة الدساتير ينصب فقط على الدساتير المكتوبة، إي التي يكون مصدرها التشريع، ذلك لأن الدساتير العرفية تنشأ وتتطور وتتعدل عن طريق العرف دون تدخل من المشرع الدستوري.
هذا ولا يوجد اتفاق على طريقة معينة واحدة لوضع الدساتير في جميع دول العالم والطرق المتبعة تختلف من دولة لأخرى حسب درجة النضج والوعي السياسي التي وضعتها المجتمعات السياسية لتلك الدول.
ففي عام 1955م منح (هيلاسي لاسي) إمبراطور الحبشة آنذاك بلاده دستوراً على غرار الصورة التي حصلت عليها في فرنسا قبل ذلك بأكثر من مائة عام عندما منح لويس الثالث عشر دستوراً للشعب الفرنسي هو ميثاق حزيران 1814م، وفي عام 1973م صدر في السودان دستوراً بطريقة التعاقد بنفس الطريقة التي صدر دستور فرنسا لسنة 1830م في عهد الملك لويس فيليب.
إن اختلاف طرق إقامة الدستور يرتبط في الواقع بتطور فكرة السلطة، وتحديد المالك الحقيقي لها، فالحكام في فترة تاريخية معينة وخاصة في ظل النظريات الثيوقراطية، كانوا يعتبرون أنفسهم ملاكاً للسلطة، وعلى هذا الأساس انفردوا في وضع دساتير بلدانهم، فصدرت دساتير كثيرة من قبل الحكام (ملوكاً وأباطرة على شكل منحة أو هبة إلى الشعب).
وبعد ظهورالنظريات الفلسفية السياسية التي ركزت على فكرة التعاقد، بدأ الوعي الشعبي بالظهور متجسداً في مقاومة الحكام الطغاة، فانعكس ذلك في اشتراك الشعب مع الحاكم في وضع الدستور، فكان يصدر في صورة تعاقد بين الحاكم من جهة والشعب من جهة أخرى.
وفي أعقاب ظهور المبادئ الديمقراطية التي جعلت الشعب، المصدر الفعلي والحقيقي للسلطة، فانتهى الأمر إلى انفراد الشعوب بوضع دساتيرها دون مشاركة الحاكم سواء بطريق غير مباشر أي بواسطة الجمعية التأسيسية أو عن طريق مباشر أي بواسطة الاستفتاء الدستوري.
واعتبر الدستور في هاتين الحالتين وليد الإرادة الشعبية. وفي ضوء ما تقدم سنتعرض لأساليب نشأة الدساتير من حيث مدى مساهمة الشعب في وضعها إلى أسلوبين :
1ـ الأسلوب غير الديمقراطي في نشأة الدساتير:
أ/ المنحة:
بموجب هذه الطريقة، ينفرد الحاكم ملكاً كان أو أميراً أو إمبراطوراً بالتنازل عن بعض سلطاته المطلقة للشعب على شكل وثيقة دستورية، وتعتبر هذه الوثيقة بمثابة دستور ممنوح.
لقد ساد الاعتقاد بأن الدستور في مثل هذه الحالة، يعتبر صادراً عن إرادة الحاكم المنفردة على شكل منة أو منحة أو هبة، لكن الواقع يشير إلى غير ذلك، لأن الدساتير التي صدرت بموجب هذه الطريقة، لم يكن صدورها عفوياً، بل جاء بعد مخاض طويل نتيجة تنامي الوعي والإدراك السياسي للشعوب، ونتيجة لذلك مارست تلك الشعوب ضغوطاً على حكامها المستبدين، واضطرتهم أن يقيدوا بعض سلطاتهم على شكل وثيقة دستورية، من أجل المحافظة على سلطتهم من الانهيار من ناحية، ومن أجل امتصاص النقمة الشعبية من ناحية الأخرى.
ومن الأمثلة التاريخية لدساتير صدرت بطريقة (المنحة) الدستور الفرنسي لسنة 1814م والدستور الإيطالي لسنة 1848م وهناك عدد من الدساتير صدرت مطلع القرن الماضي (القرن العشرين) بموجب (المنحة) من ذلك دستور روسيا القيصرية لسنة 1906م والدستور المصري لسنة 1923م. والدستور الإثيوبي لعام 1955م.
ومن الجدير ذكره، إن جميع الدساتير التي صدرت بموجب طريقة المنحة، وقد اندثرت باستثناء أمثلة نادرة، منها دستور إمارة موناكو الذي أصدره أميرها سنة 1962م بدلاً من دستورها الصادر سنة 1911م.
أما دستور إثيوبيا الصادر عام 1955م فقد سقط بالانقلاب العسكري الذي وقع فيها عام 1974م.
ب/ التعاقد :
تمثل الطريقة في نشأة الدساتير، مرحلة متطورة قياساً بطريقة المنحة ذلك لأن الحاكم لا ينفرد بوضع الدستور بل يعتبر الدستور وليد إرادتين، إرادة الحاكم من جهة وإرادة الشعب عن طريق ممثليه من جهة أخرى، وتعتبر هذه الطريقة مرحلة انتقال من الأسلوب غير الديمقراطي إلى الأسلوب الديمقراطي في إقامة الدساتير. وظهر هذا الأسلوب كما يقول فقهاء القانون في مرحلة تأريخية خاصة هي مرحلة التوازن بين قوتين: قوة الملوك التي ضعفت ولكنها لم تضمحل، وقوة الشعوب المتنامية والمتعاظمة ولكنها لم تسيطر تماماً.
وإذا كان الدستور وفقاً لهذه الطريقة يوضع باشتراك الحاكم والشعب، فإن أي تعديل يطرأ عليه يجب أن يشترك فيه الحاكم والشعب أيضاً ووفقاً لنفس إجراءات التعديل المنصوص عليها في الدستور.
ويترتب على ذلك أن الحاكم لا يستطيع تعديل الدستور بإرادته المنفردة، ومن باب أولى لا يستطيع الرجوع عنه كذلك.
وظهر هذا الأسلوب تاريخياً نتيجة للانتفاضات والثورات التي قامت بها الشعوب ضد حكامها المستبدين.
ففي إنكلترا مثلاً، ثار الأشراف ورجال الدين على الملك (جان سانتير) وأرغموه على التنازل عن بعض سلطاته وامتيازاته بموجب العهد الأعظم (Magna Carta) لعام 1215م الذي نظم علاقة الملك بالكنيسة والأشراف، ومنح الحريات، وقيد حقوق الملك في فرض الضرائب.
واتبعت طريقة التعاقد كذلك في وضع (وثيقة الحقوق) بعد ثورة الشعب الإنكليزي ضد الملك (جيمس الثاني) عام 1688م، فقد دعي الأمير (وليم أورانج) لتولي العرش على أساس التزامه بالقيود التي فرضها بالبرلمان في الوثيقة. هذا ولا يزال العهد الأعظم ووثيقة الحقوق يعتبران حتى الوقت الحاضر جزءاً من الدستور الإنكليزي القائم في غالبيته على القواعد العرفية.
ويعتبر الدستور الفرنسي لعام 1830م مثالاً نموذجياً لطريقة التعاقد، فبعد ثورة تموز عام 1830م أجبر الملك شارل العاشر على التنازل عن العرش واجتمع ممثلو الشعب الفرنسي ووضعوا ميثاق (دستور آب 1830م) ودعي الأمير لوي فيليب وتليت على مسامعه نصوص الميثاق، فأبدى قبوله للميثاق وأقسم يمين الحفاظ عليه. وبموجب هذه الطريقة التعاقدية أصبح ملكاً على فرنسا واعتلى العرش باسم (الملك لوي فيليب الأول).
2ـ الأسلوب الديمقراطي في نشأة الدساتير:
أ/ طريقة الجمعية التأسيسية:
تعتبر طريقة الجمعية التأسيسية في نشأة الدساتير تطبيقاً للديمقراطية التمثلية حيث ينتخب الشعب جمعية تأسيسية يكون هدفها وضع الدستور، وبعد الانتهاء من وضعه يعتبر صادراً ونافذ المفعول، ولا يتوقف على موافقة أحد سواء كان الحاكم أم الشعب.
وينتهي دور الجمعية التأسيسية بعد الانتهاء من وضع الدستور، ويصار إلى انتخاب مجلس جديد يتولى مهمة التشريع في الحدود التي رسمها الدستور، وقد تتحول الجمعية التأسيسية إلى مجلس تشريعي بعد إنجاز عملها في وضع الدستور وفي هذه الحالة يمارس المجلس سلطة مؤسسة أي إن نشاطه يكون محكوماً بالقواعد الدستورية.
إن فكرة الجمعية التأسيسية في الواقع فكرة قديمة تعود في تاريخها إلى نهاية النصف الأول من القرن السادس عشر، عندما كانت تراود المهاجرين إلى أمريكا وهم بصدد تصور النظام السياسي للمستعمرات التي كانت في طريقهم إلى إنشائها في العالم الجديد. فليس من باب المصادفة أن نرى أن طريقة الجمعية التأسيسية قد طبقت لأول في أمريكا.
فقد قامت المستعمرات الإنكليزية الثلاث عشر بعد استقلالها وابتداءً من عام 1776م بانتخاب جمعيات تأسيسية من أجل وضع دساتيرها كما تم بعد ذلك وضع دستور الولايات المتحدة الأمريكية الفيدرالي لعام 1787م من قبل الجمعية التأسيسية التي اجتمعت في فيلادلفيا.
ومن الولايات المتحدة انتقل أسلوب الجمعية التأسيسية إلى فرنسا، وقد جاء هذا الأسلوب منسجماً مع أفكار رجال الثورة الفرنسية الذي نادوا بضرورة إيجاد سلطتين، الأولى مؤسسة تناط بها مهمة وضع الدستور أو تعديله، والثانية مؤسسة يأتي دورها بعد وضع الدستور الذي يرسم ويثبت حدود عملها ويفرض عليها قواعد عمل عليا لا تستطيع أن تغير منها شيئاً.
وقد طبقت فرنسا هذا الأسلوب في وضع دستورها الصادر في أيلول عام 1791م وكذلك دستوريها لعامي 1848م و1875م كما اتبعت الطريقة ذاتها في إقامة الدستور البلجيكي لعام 1831م، ولقد شاع هذا الأسلوب خاصة في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومن أمثلتها الدستور النمساوي لعام 1920م والدستور الأسباني لعام 1931م والدستور اليوغوسلافي لعام 1946م ودستور إيطاليا لعام 1947 والدستور السوري لعام 1950م والدستور الباكستاني لعام 1956م ودستور المملكة الليبية المتحدة لعام 1951م.
ب/ طريقة الاستفتاء الدستوري:
تعتبر طريقة الاستفتاء الدستوري تطبيقاً لفكرة الديمقراطية شبه المباشرة وهي من أكثر الطرق ديمقراطية في إقامة الدستور، لأن الشعب يساهم بها في وضع دستوره بشكل مباشر.
ومن شأن عملية الاستفتاء تنمية قدرات المواطنين ورفع مكانتهم السياسية بما يشعرهم بأهمية وخطورة الدور الذي يقومون به في تحديد نظامهم السياسي وبناء مؤسساتهم الدستورية، ولهذه الأسباب نجد إن طريقة الاستفتاء الدستوري في وضع الدساتير متبعة في الوقت الحاضر وعلى نطاق واسع في الكثير من دول العالم وتفضل على طريقة الجمعية التأسيسية.
وبموجب هذه الطريقة يتم وضع مشروع دستور ولا يهم من هي الجهة التي تضع هذا المشروع، فقد يوضع من قبل مجلس منتخب أو من قبل لجنة من المختصين يتم تعيين أعضائها أو من قبل الحكومة أو حتى من قبل شخص واحد، وبعد ذلك يطرح المشروع على الاستفتاء الشعبي العام، فإذا نال الموافقة الشعبية يأخذ صيغة الدستور ويعتبر صادراً، ويأخذ طريقه للنفاذ دون أي إجراء آخر.
وبالنظر لأهمية الاستفتاء الدستوري في وضع الدستور فلابد من توافر شروط موضوعية، لتكون نتيجة خير معبر عن الإرادة الشعبية، ومن هذه الشروط.:
1ـ يجب أن يجري الاستفتاء الدستوري في جو ديمقراطي بعيد عن الضغوط والتأثيرات بكل أنواعها، لكي يستطيع المواطنون التعبير عن وجهة نظرهم بمشروع الدستور بحرية تامة.
2ـ يجب أن يكون الشعب المستفتي قد وصل إلى درجة مقبولة من الوعي والإدراك السياسيين.
3ـ يجب أن يسبق الاستفتاء توعية ومناقشات كافية تسمح لأفراد الشعب بأن يكونوا على بينة ومعرفة كافية بحقيقة وجوهر المشروع المستفتى عليه، حول ما يتضمنه من مبادئ وأفكار وأحكام واتجاهات وقيم لكي يستطيعوا المفاضلة بين اتجاه وآخر في عملية الاستفتاء.
ومن أمثلة الدساتير التي وضعت بطريقة الاستفتاء الدستوري الدستور الفرنسي النافذ (دستور الجمهورية الخامسة) الصادر في تشرين الأول عام 1958م ودساتير معظم الولايات في الإتحادين السويسري والأمريكي، ودستور تركيا الحالي الصادر عام 1982م وكذلك الدستور المصري لسنة 1956م.
وإلى جانب هذه الطرق الأربعة في نشأة الدساتير، هناك من يضيف طريقة خامسة لوضع الدستور، وهي إن الدستور يمكن أن يكون نتيجة معاهدة أو اتفاق دولي، وقد أخذ بهذا الرأي الفقيه القانوني (ميركين جيتزفيتش) في كتابه (القانون الدولي الدستوري) وهو من أنصار وحدة القانون العام الخارجي والداخلي.
وعليه فالمعاهدة الدولية عنده تكون واجبة النفاذ من تلقاء نفسها، أي لا يتوقف هذا النفاذ على إقرارها من قبل السلطة المختصة داخل الدولة، وعلى هذا الأساس يذهب (ميركين) بأن الدستور يمكن أن يقام بموجب اتفاق أو معاهدة دولية معقودة بين دولتين أو أكثر.
ويذكر فقه القانون الدستوري عدة أمثلة لدساتير وضعت عن طريق المعاهدات الدولية منها دستور مملكة بولندا عام 1815م ودستور الإمبراطورية الألمانية عام 1871م.
وكذلك القانون الأساسي الأردني الصادر في نيسان عام 1928م الذي وضع بناءً على قرار دولي تمثل في صك الانتداب، ودستور الجمهورية العربية المتحدة المؤقت لعام 1958م، إذ إنه تضمن الأسس التي تم الاتفاق عليها بين حكومتي مصر وسوريا في إعلان الوحدة الموقع في شباط 1958م.
وعلى هذا الأساس بمكن لدولتين أو أكثر أن تتفقا بمعاهدة دولية على الاتحاد في دولة واحدة، بحيث تنظم المعاهدة شؤون الحكم في الدولة الجديدة، فتنقلب المعاهدة الدولية بذلك إلى دستور داخلي فور قيام الدولة المتحدة.
ثانياً: محتويات ومضامين الدساتير.
تختلف الدساتير فيما بينها اختلافاً ملحوظاً فيما تحتويه من مبادئ وأحكام وقيم وطريقة معالجة كل ذلك، فهناك من الدساتير ما يركز اهتمامه بالدرجة الأساس على الجانب السياسي، أي المتعلق بممارسة السلطة، وهناك دساتير إضافة لاهتمامها بالتنظيم السياسي، تهتم كذلك بالجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وغير ذلك.
وهناك دساتير موجزة كالدستور الأمريكي (يتضمن 7 مواد و26 تعديلاً) والدستور الفرنسي (يتضمن 91 مادة)، وهناك دساتير مطولة كالدستور اليوغوسلافي لعام 1974م (حيث يتضمن 406 مواد).
ولكن بالرغم من هذا التباين والاختلاف بين دساتير دول العالم فهناك حقيقة واقعة وهي إن الدساتير في أساس وجودها والهدف الذي تسعى إليه تخضع لقواعد عامة مشتركة. وسيتم التحدث عن الدستور من حيث موضوعه ومن حيث مضمونه انطلاقاً من المعالم الرئيسية التي تشترك فيها جميع الدساتير.
* موضوع الدستور:
تقوم القواعد الدستورية عموماً بتنظيم ممارسة السلطة في الدولة، فهي التي تبين مصدر وطريقة ممارسة السلطة والعلاقة بين القابضين عليها، والوسائل التي من شأنها أن تحقق التوازن بين هيئات الدولة، وهذا ما يفرض الاعتراف بشرعية القرارات والتصرفات الصادرة عن هيئات الدولة، والتي لا يمكن الاعتراف بها أصلاً إلا ضمن الحدود التي بينها الدستور،
ومن ناحية أخرى تقوم القواعد الدستورية بتحديد الفكرة القانونية التي ينبغي أن تهيمن على كافة مجالات العمل في الدولة والتي لا يمكن بموجبها الاعتراف بشرعية تصرف من التصرفات إلا بقدر اتفاقه معا الفكرة القانونية التي حددها الدستور.
ولهذا فالدستور لا يكتفي بتبيان من يمارس السلطة وكيفية ممارستها وإنما يحدد الأهداف التي من أجلها نظمت تلك الممارسة. وتختلف الدساتير في كيفية بيان ذلك الهدف فمنها ما نص عليه صراحة، كما فعلت دساتير كثيرة كذكرها إقامة النظام الاشتراكي مثلاً وقد لا ينص الدستور صراحة على الفكرة القانونية المهيمنة على النظام ومع ذلك يمكن استنتاج هذه الفكرة بصورة ضمنية عن طريق فحص طبيعة النشاط السياسي الذي جاء به الدستور والغرض المقصود منه.
فعندما يخص الدستور الشعب بالقيام بمهام السلطة التشريعية مباشرة أو عن طريق ممثلية (مثلاً) فإنه يحدد بذلك فكرة قانونية تختلف تماماً عما لو ركزت سلطة التشريع في فرد في نظام فردي مطلق، أو عندما ينص على مبدأ عدم جواز عزل القضاة، فإنه يشير إلى فكرة قانونية تختلف بلا شك عن تلك التي تضع مصير القضاة تحت رحمة السلطة التنفيذية.
إذن فكل نظام سياسي ومهما اختلفت طريقة ممارسته للسلطة فإنه يخضع لفكرة قانونية واجتماعية واقتصادية هي أساس التنظيم السياسي في الدولة.