Take a fresh look at your lifestyle.

مدرسة النجف الوسطية والاعتدال ( قراءة في الخطاب )

0 1٬080
             
            تمثل المدرسة النجفية (المرجعية الدينية العليا والحوزة العلمية وما يلحق بها من دراسات حوزوية علمية ومدارس دينية) المدرسة الأم لما تفرع من مدارس خاصة بتدريس العلوم الإسلامية وفق مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وهي تعد الامتداد الحقيقي والتاريخي لأصالة هذا المذهب وثرائه الفكري العلمي
            بل إن هذه المدرسة تشكل العمود الفقري للبناء العقائدي وقوته الإبداعية وعلى هذا الحال لا يمكن تحقيق تصور عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وعلومهم المتنوعة دون الاقتران بالمدرسة النجفية التي عكست حقيقة هذا الفكر وأظهرت صفاته ومبادئه وجوهره إلى العالم إنتاجاً وإبداعاً وتطوراً مستمراً بالاعتماد على الثوابت والركائز الأساسية
          بالإضافة إلى قوة الهيبة والرصانة والسمعة الطيبة والمكانة المرموقة التي تحتلها هذه المدرسة والتي تشكلت على مدى فترات تاريخية متعاقبة ومتنوعة في ظروفها السياسية والاقتصادية والثقافية حتى إذا اتسمت الإشارة إلى تاريخ الشيعة وعقائدهم تنبثق التصورات في ذهنية المتلقي والمتابع عن النجف الأشرف ومدرستها وتقاليدها الدراسية والعلمية.
             وعلى هذا الأساس فقد تميزت هذه المدرسة ذات التاريخ العريق والتراث الكبير بالفرادة والتميز والرصانة وقوة الاستجابة لعظيم التحديات فتكونت لديها ونتيجة للظروف المختلفة والتجارب الطويلة المتنوعة خبرات وتقاليد وأعراف خاصة والحقيقة إن هذا ما يميز الجامعات والمدارس الكبرى في التاريخ إذ تتكون لديها تقاليد وأعراف علمية متميزة خاصة بها تنبع من ظروفها وما مر عليها من أحداث وتجارب وما تراكم من تراث
            وفي هذا الإطار فإن المدرسة النجفية وأكاديميتها بشرت بثقافة اتسمت بالوسيطة والاعتدال والوقوف من المختلفات من المواضيع والمواقف والأمور بروح شفافة وحذر وعقلانية فانتشرت هذه الثقافة العقلانية المعتدلة القائمة أصلاً على فكر أهل البيت(عليهم السلام) والنهج الذي وضعوه هادياً ومرشداً من الأخطاء والزلل إذ نرى الاتزان والتوازن وحساب المصلحة العامة هو المثبت للمواقف والباعث للآراء بعيداً عن روح التعصب والانعزال والتحجر

جانب من حلقات الدرس في الحوزة العلمية في النجف الأشرف

 

      ولعلنا سنرى النماذج المقتبسة من فتاوى ومواقف وآراء مراجع النجف الأشرف الماضين والمعاصرين من المستجدات العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الفنية مما يؤكد هذه الصورة وحقيقة النهج العقلاني الذي اختطته هذه المدرسة وحاولت الترويج له سلوكاً وعملاً مما لم تدركه أو تفهمه الأطراف المتشددة المتطرفة التي حاولت وبفترات مختلفة الخروج عن الإطار العام والنسق الكلي للأعراف والتقاليد النجفية المرتبطة بالبناء الثقافي والفكري لهذه المدرسة.
            وقد جاءت محاولات هؤلاء في خروجهم عن السياق العام بحثاً عن المكانة وجذب الأتباع عن طريق الغرائبية في المنطق والسلوك وربما كانت المدرسة النجفية قادرة وهو ما معروف تاريخياً احتواء مثل هذه التحركات والسير حثيثاً على الدرب الذي وضعه البناة الأوائل إذ بقي الصحيح المستند على العقل والمنطق والوسطية فيما انتهى التشدد والغلو والتطرف كما هو الحال مع ظهور المدرسة الإخبارية في القرن الثامن عشر الميلادي وما أحدثته من صدى لتنتهي وتبقى مدرسة النجف الأشرف قامة باسقة ومقتدرة على التعامل مع المستجدات والتطورات بمنهج عقلي ورؤية ثاقبة وواضحة ومنفتحة.
              كانت الفتوى من أبرز الوسائل المؤثرة التي اعتمدتها المدرسة النجفية للتعبير عن مواقفها ورؤيتها للأوضاع العامة ولكل العالم الإسلامي وإذا حاولنا التدقيق في الشروط التي تصدر فيها الفتوى لوجدنا من المحددات والضوابط القاسية والصارمة التي يراعيها المرجع المجتهد في إصدار فتواه وهذا بالتأكيد يمنح قدرة على معرفة مدى الوسطية والاعتدال والاتزان في فتاوى النجف على مدى تاريخها الطويل
             إذ لا يمكن إيجاد فتوى طويلة ومبهمة وغامضة تدعو إلى التساؤل والشروحات الطويلة فكل الفتاوى واضحة للدرجات المعرفية المتتالية فهي ليست موجهة لنخبة خاصة أو صفوة مختارة بل هي للجميع يفهمها ويهضم عباراتها بسهولة وكل ذلك يجري وفق الشروط الصارمة المشار إليها سابقاً ومنها القدرة العقلية والمنطقية والابتعاد عن الشخصنة والمرض والاعياء والتعب والحالة النفسية والمزاجية العصبية لأن ذلك وهذه هي الحقيقة التي تؤكدها العلوم الحديثة تؤثر في الفحوى للفتوى وتأثيرها.
             ثم يأتي الأمر الآخر في هذا المجال باعتماد الحق مهما كان ولأي طرف يقف فعلى سبيل المثال للدلالة على الاعتدال والوسطية فان مرجعاً كبيراً كالشيخ محمد كاظم الأخوند الخراساني لم يتوان عن نصرة المسيحيين عندما تعرضوا للاضطهاد والقمع على يد العثمانيين في موقف واضح مع الحق أينما يكون ويحل.
             ولدينا مثال آخر للدلالة على رجاحة العقل والابتعاد عن العصبية والتشنج وهو ما يمكن ملاحظته من المواقف المهمة والعقلانية للسيد كاظم اليزدي المرجع الكبير الذي لم يفهمه معاصروه ويستمر البعض لحد الآن في ظلمه وهذا يحتاج إلى موضوع خاص لكشف الحقائق عن خفاياه بدراسة علمية تنصف هذا العالم الجليل.
             لو أجرينا جرداً علمياً وموضوعياً يتتبع الفتاوى المتنوعة الأهداف الصادرة عن مدرسة النجف والتي تعد عاملاً أساسياً في تشكيل الرأي العام وصياغته موقف موحد من القضايا المثيرة والجدالية لأمكن للباحث أن يعثر على خطاب تنويري معتدل بعيد عن التكفير والإقصاء وهذه الحقيقة أعطت لهذه المدرسة صلابتها وقوتها إزاء التحديات المصيرية الكبرى التي مرت عليها بالإضافة إلى صناعة سمعتها الطيبة والمحترمة من كل الاتجاهات.
             وللدلالة على تلك المواقف الوسطية فإن سجلات التاريخ تقدم كماً متصاعداً من الدروس والعبر والتصرفات المنطقية فعلى سبيل المثال كان لهذه المدرسة أثراً مهماً في تحقيق الوحدة والتضامن الإسلامي عبر المشاركات الفعالة والنشطة في المؤتمرات والندوات والاجتماعات الداعية للوحدة ونبذ الخلافات والصراعات الطائفية والمذهبية
            ويمكن لنا ملاحظة ذلك من مؤتمر النجف الذي عقد في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي لتحقيق التقارب الإسلامي واستمراراً لهذا الخط التوحيدي كان لمدرسة النجف صوت قوي وأثر واضح في لقاءات التقارب والوحدة في بدايات القرن العشرين وبشكل مستمر لحد الآن. وكان للمفكر السيد محمد تقي الحكيم دوره البارز في ذلك.
جانب من حلقات الدرس في الحوزة العلمية في النجف الأشرف
             وجاءت هذه الروحية والوحدوية من جانب المدرسة النجفية على الرغم من التشويش والتشنيع الذي مورس ضد المذهب الشيعي لكن السمة العقلانية هي التي تحركت بروح الانفتاح والرغبة في الحوار والجدال المفضي إلى نتائج إيجابية وبالفعل فإن هذه المدرسة وبجهود رجالها استطاعت الحصول على اعتراف الأزهر بأحقية المذهب الشيعي وتدريس فقهه في جامعة الأزهر
           وللإنصاف فإن ذلك لم يأتي من فراغ بل بالجهود المبذولة لإفهام الآخر المشوش فكرياً نتيجة ثقافة سائدة ومرسخة لتصورات خاطئة في الذهنية المقابلة فبعد أن كشفت الحقائق كانت الاستجابة والقبول وهكذا استطاع الخطاب الهادئ المستنير إزاحة ما يقف في الطريق من حواجز ومعرقلات ليدخل العقل بيسر ومقبولية عالية وهذا لا يقتصر على العالم الإسلامي فحسب بل امتد بتأثيره إلى كل العالم
           إذ وجدنا الدراسات والبحوث والكتابات الأكاديمية لكتاب ومفكرين أوربيين وغيرهم على سبيل المثال تبرز الجوانب العقلانية والوسيطة لمدرسة النجف بإشادة مقارنة بين فكر هذه المدرسة والمدارس الأخرى حتى أضفى ذلك كل على النجف المهيبة والمكانة الموقرة فهي لم تقف من التطورات العلمية والاجتماعية والسياسية موقف الرافض من منطلق التحجر والتشدد بل كان لها موقفها العلمي الصريح النابع من المصلحة العليا للمسلمين وبتأكيدها على القبول بالتجديد مادام غير متعارض مع العقيدة الإسلامية وربطها بين العلوم والإسلام
             وليس العكس كما يحاول البعض إيجاد تناقض بين العلم والإسلام فهي أي المدرسة النجفية منفتحة وقادرة على الاستيعاب والبحث عن البدائل في حالة الرفض.
             وفي الفترة الأخيرة المعاصرة استحوذت مواقف مدرسة النجف وآراءها على إعجاب العالم والدالة على التسامح والاعتدال فقد وجدنا عشرات الكتاب والصحفيين الغربيين والعرب
              ومن هؤلاء كتاب لهم اتجاههم العلماني الخالص أثارتهم مواقف مدرسة النجف ومرجعيتها العليا فكتبوا باحترام وتقدير عاليين لهذه الحكمة وسيادة روح المنطق والعقل والقدرات على التوجيه والإرشاد ففي المجال السياسي شجعت هذه المدرسة مشاركة الجمهور بصورة واسعة وكثيفة في العمل السياسي عبر الانتخابات والتفاصيل السياسية الأخرى من غير تشدد أو تحامل على طرف من الأطراف
              وهي بذلك تؤكد مرة أخرى على ما تملكه من روح عصرية لها القابلية على التعامل مع أحداث العصر بإيجابية.
             ولم يتحدد الموقف من الجانب السياسي بل تعداه إلى المواقف الإنسانية الشمولية المتجذرة في تعاليم هذه المدرسة المتأصلة في جذورها إلى الفكر العلوي الذي طرحه إمام المتقين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في مواقفه الإنسانية الشاملة فهذه المدرسة واستناداً على تراثها وتاريخها وقفت تدافع عن أبناء الديانات الأخرى بقوة وصلابة رافضاً ما تعرض له هؤلاء من اعتداءات داعية الحكومة إلى توفير الحماية لهم والدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم
              واتسع نشاطها لتقييم العلاقات الطيبة مع زعماء وقادة الأقليات الدينية الروحانيين والسياسيين إذ دائماً ما يتردد هؤلاء على النجف ولقاء مراجعها للحوار وتبادل وجهات النظر وهذا ما يعيد التذكير بالصلات القوية التي تربط بين مدرسة النجف وزعماء الطوائف الأخرى من غير المسلمين.
             ولدينا في هذا السياق مثال عن مدى الاحترام والتبجيل الذي كان يكنه زعماء الطوائف غير المسلمة لمراجع النجف يتمثل بالمشاركة الواسعة في التشييع الكبير للمرجع الديني الأعلى السيد محسن الحكيم بوفاته عام (1970م) إذ شارك كل الرؤساء الروحانيين بمراسيم التشييع ومجالس العزاء المقامة في هذه المناسبة
             والحقيقة إن ذلك يظهر لنا بجلاء المكانة المرموقة لمدرسة النجف ورموزها الحقيقيين الذين صنعوا مجدها وتاريخها منذ فترات تاريخية طويلة ولم يكن هذا المجد والرفعة لتتحقق لو لم تكن الروحية والثقافة السائدة في هذه المدرسة تتصف بالتسامح والاعتدال والوسطية والابتعاد عن القوة والإكراه والعنف في فرض الآراء بل هي الحكمة والموعظة الحسنة التي قام عليها خطاب النجف الخالص من العصبية والاندفاعات غير المبررة.
             وعندما نتحدث عن الاتزان والتسامح فلدينا في ذلك مثالين رائعين لحكمة هذه المدرسة ونبوغها الفكري والمثالين يتعلقان بمرجعية السيد محسن الحكيم المتفردة إذ كان هذا المرجع الكبير على دراية عميقة بالتطورات السياسية العربية والإسلامية وله قدرة على الفرز بين الأشياء وحكمة في النظر إلى الأمور تعتمد على العقل والمنطق
           ففي بداية الستينات من القرن العشرين وعندما زار وفداً كبيراً من قيادات جبهة التحرير الوطنية الجزائرية التي قادت المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي واستطاعت تحقيق الاستقلال عام (1962م) زار هذا الوفد برئاسة الرئيس الجزائري هواري بومدين المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم كانت النصيحة الأبرز والأهم التي أسدها المرجع الكبير إلى هذا الوفد تتمحور حول ضرورة التسامح وعدم الانتقام من الآخرين الذين لم يكونوا مع جبهة التحرير الوطنية وتغليب لغة العقل والسلام بدل لغة الدم والقوة حفاظاً على الشعب الجزائري من الانقسام والتشرذم وشيوع الصراع والتطلع نحو المستقبل بدل البقاء في الماضي

الرئيس الجزائري هواري بومدين يتشرف بلقاء المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم (قدس سره)

 

           والحقيقة إننا أمام استنارة وتسامح يبعث على التأمل في هذه الروحية المتسامحة والبعيدة النظر والعقلانية في التعامل مع المواضيع الخطيرة والوسطية في اتخاذ المواقف بل إنها قراءة واقعية وعصرية للواقع الجزائري باعتماد التحليل والاستنتاج وإشاعة روح التسامح بغية الخروج من حالة الحرب إلى حالة السلم والبناء والانطلاق نحو مستقبل جديد فيه من التماسك الاجتماعي والتعاون أكثر ما فيه من التناحر والتباغض الذي يقود إلى الخراب بل إن المطلع يستطيع القول إن ذلك يمثل قمة الروعة في الخطاب النجفي المتزن الوسطي.
           يأتي المثال الآخر الذي يشير إلى بعد النظر والابتعاد عن الفوضوية والروح العصبية المتطرفة المفضية إلى الدمار عندما زار وفد من منظمة التحرير الفلسطينية في نهاية عقد الستينات من القرن العشرين المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم للحصول على مباركته ودعمه للقضية الفلسطينية
           وهو ما كانت تقوم به المدرسة النجفية إذ كانت الفتوى التي أصدرها المرجع الأعلى واضحة لا تقبل اللبس أو الخروج عن المجددات الموضوعة للعمل الجهادي المقام هذه الفتوى يمكن عدها كوثيقة مهمة لمن يتصدى لهذا العمل والالتزام بالشروط الشرعية والضوابط والمحددات فالجهاد عند السيد الحكيم لا يعني الفوضى والاستهتار بأرواح الأبرياء باستغلال يافطة الجهاد والمقاومة.
             فقد أوضح السيد الحكيم منطلقاً من أصالة المدرسة النجفية وعقلانيتها إن الجهاد إذا كان يلحق ضرراً بالعدو أكبر مما يلحق بالناس الأبرياء هو عمل شرعي أما إذا كان يلحق الأضرار بالأبرياء ويدمر البلاد والعباد ولا يتأثر به العدو فهو ليس جهاداً وبقراءة متأنية نرى أن هذه المنطقية والعقلانية في الفتوى والخطاب النجفي تحاول الفرز بين العمل الحقيقي الشرعي المستند إلى المصلحة العامة والعمل الفوضوي التدميري المستغل من أطراف متعددة
            وأعتقد إن هذا ما حصل في أماكن مختلفة أصبح استغلال الجهاد بلا ضوابط وبالاً عليها، والحقيقة إن لدينا سجلاً مليئاً بالأمثلة والوقائع الدالة على سيادة الوسطية والاعتدال في مدرسة النجف وهذا جزء من تكوينها الفكري والثقافي
             إذ يبقى خطابها يحمل هذه السمات على الرغم من كل التحديات والزوابع وهذا هو ما جعل هذه المدرسة تحظى بمكانتها ويحسب لها حسابها ولعل في الخطاب الذي يطلقه المراجع الحقيقيين في النجف الآن دليلاً على هذه الوسطية وهذا الاعتدال وهو ما يحتاج إلى دراسة مفصلة وطويلة تظهر ذلك ولفترات زمنية طويلة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.