Take a fresh look at your lifestyle.

مراحل عمر الإنسان.. الشيخوخة وأرذل العمر الحلقة الثانية: من وجهة نظر إسلامية

0 646

     

                                                                          السيد محمد صادق الخرسان 

 

 

     إنَّ المتأمل في النظام الكوني عامة، يجد فيه دلائل عديدة وبراهين متنوعة، على أنه قد وُجِدَ وفقاً لمعايير الحكمة، ومقاييس الدقة، مما ينتج أنه لم يوجد صدفة، ولا كان بوضع فوضوي لا تحكمه قوانين ولا تحدُّه حدود، بل إنّ المعطيات المتوافرة، تعطينا أنه من صنع صانع، وبتأثير مؤثر مدبِّر.
ولما كان من الممكن أن يكون ذلك الصانع والمؤثر المدبِّر هو الله تعالى أو غيره، فلابد من الاستدلال العلمي على ما نعتقده من أنه الله تعالى، لنضمن أمرين مهمين، توفير الدليل المقنع على صحة عقيدتنا، مع إبطال الاحتمال المقابل.

 

        وإنَّ قواعد الاستدلال في البحث الموضوعي لتفرض علينا إتباع منهجية دقيقة ومحكمة، توصلاً الى تأمين الأجوبة الكافية للاحتمالات كلها، وتشييد أركان الاستدلال على أسس متينة، لذا سنستعين بالقضايا اليقينية للإنسان، وما يقتنع بكونها بديهيات لا يُناقَشُ فيها، إما كونها:

1ـ مما يُصدِق بها العقل بمجرد استحضارها الذهني.

 

2ـ أو لأنها مما شاهدها الإنسان وأحسَّ بها.

 

3ـ أو قد جرَّبها.

 

4ـ أو نقلها عددٌ لا يُعقل اتفاقهم على تزويرها وتلفيقها،

 

         مما يعطي مساحة واسعة للاقتناع بها، ولو بطريقة تجريبية، وبالتالي يمكننا إقامة الدليل على موضوع البحث العلمي، بطريقة تتلقاها كافة المستويات بلا كثير عناء، وهو أمرٌ أساس في قضية ترتبط بالجانب المعنوي للإنسان، ليعرف أنه قد جاء هنا لهدف، وسينتقل لهدف آخر، فلابد له من السعي لتحقيق ذلك.

 

      وبناءً على هذه المنهجية البحثية، نجد أنَّ قولَهُ تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)(1).
وقولَهُ عزَّ من قائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ)(2)،

 

      مما ورد فيهما مصطلح (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) موضوع البحث، نجد أنهما وفرّا استدلالاً دقيقاً على معتقدنا، بطريقةٍ ملائمةٍ لمستويات الإدراك الإنساني على تنوّعها، يبتني على التذكير بمراحل يعيشها الإنسان ويمرُّ بها الجميع بدون استثناء، مما ييسر عملية الاقتناع المستتبع للإيمان، والناشئ عن تلاقح بين الدليل والواقع المعاش، بما يدعو للتفاعل عقيدياً ونفسياً.

 

    ولابد في البداية من التعرف على أنَّ مفهوم (الأرذل) لغةً، يعني: الأدون من كل شيء(3)، حيث يقال: (رجلٌ رَذِلٌ ومرذولٌ… الدون في منظره وحالاته… ورُدُّوا إلى أرذل العمر وهو الهرم والخَرَف)(4) مما يعطي معنى(المرغوب عنه لرداءته)(5).
وأنَّه قد أُستعملت في القرآن الكريم (أرذل) في موردين كما تقدم، وقد أُلمِحَ لذلك في قوله تعالى: (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون)(6)، مما يشير إلى انقلاب الحال وارتداد القوى وتراجع القدرات إلى درجة الضعف والوهن، بحيث تحيط الإنسان في تلك المرحلة حالةٌ عامةٌ من التدهور والانتكاس في جميع المستويات، مما يُحدِث متغيرات ظاهرية وأخرى خفية، فتؤثر على كافة أنشطته الجسمية والذهنية.

 

              ففي الآية المباركة الأولى:

             أولاً:

        بيانٌ لتفرّد الله تعالى بعملية الخلق من دون شريك له في ذلك، مع ما فيه من دقةٍ وإبداعٍ، حيث اختلاف الجنس واللون والحجم والملامح المكونة لصورة الإنسان وشكله وغيرها، مع وجود مشتركات متعددة أيضا، ولكن ذلك مما لا يلغي الحالة الإبداعية، بل عززها، باعتبار أنّ التشابه الصَوَري مثلاً يعكس حالةً هائلة من الإبداع الخلقي، حيث التواشج في الطباع والتلاؤم التوأمي في الأشكال، بما يعني أنه تعالى على كل شيءٍ قديرٌ، لا يُعجزه شيءٌ يريده، غنيٌ عن العالَمين، ومع ذلك كله كان هو المستقل بخلق ما خلق، مما يعطينا دليلاً توحيدياً في مرحلة إحياء الإنسان وإنشائه من العدم.

           ثانياً:

       بيانٌ لاستقلاله سبحانه باستيفاء مدة بقاء الإنسان دنيوياً وإماتته بعد انقضاء أجله، وهو ما لا يعلمه أحدٌ سواه إطلاقاً، كما لا يفعله غيره، مما يعطينا دليلاً توحيدياً ثانياً في مرحلة إماتة الإنسان وانتقاله إلى عالَمٍ آخر، وهو الآخرة وما بعد الموت، لمجازاته على أقواله وأفعاله، ولتظهر الحكمة من خلقته وتأهيله قانونياً حتى أصبح مكلفاً، (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(7)، مع دلالة على استجابة طوعية للجميع، فلا يشذ عن ذلك أحدٌ مهما توافرت لديه الإمكانات المتنوعة، مادياً أو معنوياً، إذ (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(8)
و(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)(9).

 

      بل إنّ الدلائل تؤكد ما رُويَ عن الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): (وطالبٌ للدنيا والموت يطلبه، وغافلٌ وليس بمغفول عنه، وعلى أثر الماضي ما يمضي الباقي ألا فاذكروا هادم اللذات، ومنغص الشهوات، وقاطع الأمنيات عند المساورة للأعمال القبيحة)(10)، بما يعمم الحكم على الجميع، كونهم عبيده سبحانه ومخلوقيه، وهذا ما يدعو للتأمل والتفكير العميق في محاولة تصحيحية لمعرفة صحة الأفكار أو التوجهات التي تعكس طريقة الإنسان لبرمجة مفردات حياتية كثيرة، مما يؤسس لاعتقاداته وقناعاته العامة، ليكون مؤمناً أو غير ذلك، لارتباطها بالعقل الباطن، وما ينطلق منه من أيدلوجية تنظم وضعه العام، ليترشح لنا من خلال ذلك مدى قدرته وكفاءته لأداء المهمات المناطة به، لما للجهد المبذول من دلالات نقرأها في صفحات أدائه.

 

      ثم إنّ هذا الوجود الأرضي للإنسان مما تختلف مدته، فقد يكون قصيرا أو متوسطاً أو طويلاً، بحسب علم الله وتقديره لما يصلح لهذا أو ذاك، مما يخفى علينا، كما يختلف في الوقت نفسه باختلاف الحالات، حتى لم يعد دالاً على أمرٍ معلومٍ دائماً، وقد رسمت الآية المباركة صورة تعبيرية عن ذلك الطول، ومن دون ذكر العدد بل اعتماداً على الجانب الدلالي الرمزي، لما في ذلك من تأثير قوي واسع غير محدد بالدالة الرقمية وما تعنيه من إطار يضيق عن بيان حالة بلوغ الإنسان إلى مرحلة عمرية متقدمة، بحيث لا يتذكر معلوماته السابقة، بل حتى لو حاول استذكار الظروف المحيطة به وقتها فلا يقدر على ذلك، وهذا الفرق بين التعبير بـ(ينسى) و(لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) مع أنهما بمعنى متقارب، بل قد يتصور أحدٌ وحدتهما،

 

     ولكن الناسي إذا تذكر بعض تلك الظروف فيستعيد مفقودات الذاكرة، بينما الآخر لا يستطيع بل ينسى اسمه وخصوصيات شخصية أو عائلية أخرى، وفي هذا التعبير القرآني حُسنٌ بلاغي في اختيار المفردات الكلامية المعبرة عن المراد بدقة، وليس لمجرد الاختصار بل مع إفادة المطلوب تماماً، كما فيه إعجاز علمي، إذ أنّ تقدم المرحلة العمرية يؤدي إلى انسداد شرايين صغيرة في المخ(11)، مما يؤيد أنَّ الشيخوخة تبتدئ (في وقتٍ محددٍ، نتيجةً لآليات خلوية معقدة، تعمل متزامنة في تناسقٍ عجيب، والخلية الحية محدودة الأجل في الأنسجة، سريعة التجدد، وتقف وظائفها عند حدٍّ معين وتذبل وتموت)(12)، ومن عوارضه فقدان الخزين المعلوماتي الهائل الذي احتفظ به لسنوات عديدة كثيرة، ولكنه يخسره في مدة قليلة، لذا رُوي عن النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) أنه كان يواظب على التعوذ من ذلك بعد كل صلاة بقوله: (وأعوذ بك أنْ أُردَّ إلى أرذل العمر)(13)، كما رُوي عن ولده الإمام علي بن الحسين(عليه السلام)
ذلك أيضاً(14)،

 

      لما في حالة الهرم والشيخوخة من اندثار وضياع لثروة مهمة حواها الإنسان، إذ يصيب التدهور والانهيار كافة الأجهزة والأعضاء والأنسجة والخلايا، لتقلَّ كفاءتها في الأداء الوظيفي، فلا تتوازن عند التعرض للضغوط، مضافاً إلى ما فيها من توهين معنوي لشخصيته أمام مجتمعه بما يُحرج ذويه أحياناً.

 

         ثالثاً:

       بيانٌ لاتصافه تعالى في ذلك كله بالعلم الذي لا حدَّ له، وأيضاً لاتصافه بالقدرة حتى أنه لا يعجزه شيءٌ مهما كان، الأمر الذي يعطينا دلالة على الإحاطة المطلقة بالأشياء، وعدم القدرة على الإفلات من إرادته وقضائه، قال تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(15)، فيتضح لكل أحد الأصل الخامس من أصول الدين، كما تبين أولها من بداية الآية المباركة.

 

    كما أنَّ الآية المباركة الثانية وهي قوله عزَّ من قائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(16)، قد بدأت محاورة علمية ذات اتجاهين، الأول: على مستوى الإنسان نفسه، والثاني: على مستوى ما ينتفع به الإنسان ويحتك به دائماً.

 

    أما ثبوت القدرة ثم وحدانية الخالق تعالى المستحق للعبادة بحسب الاتجاه الأول، فعلى أساس القدرة الإلهية على إعادة الحياة للجسم المخلوق بعدما مات، بل وتلاشى ـ أحياناً ـ وذلك من خلال تذكير الناس عامة ـ وليس المؤمنين منهم بخاصة، وإلا لكان الخطاب القرآني بـ(يا أيها الذين آمنوا) ـ بتلك القدرة الإلهية على أصل الإيجاد والخلق، مع أنه لأول مرة ومن غير متابعة حالة سابقة ليكون استنساخاً لها، بل يكفي استحضار ما يمرُّ به الإنسان من حالةٍ ثلاثيةٍ، تتشكل أطرافها:

 

    1ـ بخلقه من التراب، حيث قد خُلِقَ أصل الجنس البشري وهو أبونا النبي آدم(عليه السلام) منه، وإذا مُزِجَ بالماء صار طيناً كما في قوله تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ
طِينٍ)(17).

 

   2ـ وخلقه داخل رحم الأم، والذي يبدأ بالمادة المنوية، ثم الدم المتجمد، ثم قطعة اللحم، والتي قد تصوّر فيها ملامح الإنسان ليكون تام الخلقة، وقد لا يكون كذلك كما في بعض حالات الإسقاط، وذلك لبيان التدرج الخلقي والإبداع التكويني، مما يشير إلى القدرة والحكمة الإلهيتين، واللتين تمثلان شكلاً تجريبياً للدلالة على وجود المبدع القدير الذي أحكم كل شيءٍ خَلَقَهُ.

 

   3ـ وخلقه خارج رحم الأم، إذ بعد تمام مدة الحمل يخرج المخلوق وهو طفل أي صغيراً من نوع الناس، مؤهلاً للنمو والترقي وصولاً إلى مرحلة اكتمال نمو الأعضاء الجسمية ونضوج المدارك العقلية، فيتحرك موقعياً بقدرةٍ على التمييز عالية وهو ما حُدِدَ بالأربعين في بعض الآيات والروايات(18).

 

     ثم إنّ هذا الإنسان قد يتوفاه الله تعالى قبل بلوغه مرحلة الشيخوخة، وقد يبقيه لها، فيصل إلى حالة فقدان الذاكرة نتيجة الهرم، وليس بتأثير عاملٍ آخر، وهو ما حُدِدَ في بعض الروايات بخمس وسبعين(19)، أو بتسعين(20)، أو مائة سنة(21) ونادراً ما يتجاوز عمر الإنسان مائة سنة(22)كما وُصِفَ بأنه (لا يعرف للصلاة وقتاً، ولا يستطيع التهجد بالليل ولا بالنهار، ولا القيام في الصف مع الناس)(23)، بل قد طُبِقَ عليه قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)(24)، على أساس أنّ العدَّ التنازلي إذا ابتدأ لدى الإنسان، فيُعرف بعلامات عديدة، رقمية ورمزية، وهي ذات دلالة واضحة على بلوغ مرحلة عدم الاستيعاب، والوصول إلى أردأ ما يمكن الوصول إليه، حيث يتناقص النشاط، وتقلّ الحركة، بما يمثل حالة معاكسة تماماً لمرحلة انطلاقه وليداً طفلاً، عندما كان مشروعاً واعداً، يتدفق حيويةً، ويُتطلع إليه ليحقق رؤى وأحلاماً جميلة، بينما هو في حاضره المتهرم بصورة مغايرة، وكلا المشهدين يؤكدان حقيقة ضعف المخلوق وقدرة الخالق تعالى، مما يوجب ارتفاع الشك والريب في إمكانية الإعادة والإحياء بعد الموت، وبهذا وصلت المحاورة إلى خاتمة المطاف في اتجاهها الأول.

 

    وأما بحسب الاتجاه الثاني: وهو مستوى ما ينتفع به الإنسان ويحتك به دائماً، مما يساعده في سرعة التلقي والقبول، لممارسته له وصِلته به، الأمر الذي يزيح الحواجز المعيقة، من إشكاليات وأوهام، تعْلُق نتيجة ثقافة الفكر المضاد وتأثيره السلبي، أو ما تحدثه المقاطعة للفكر الملتزم من أزمات تورط في اختيار اتجاهات أخرى، أو تجاهلٍ لمبادئ العقيدة القائمة على الأسس القويمة، وذلك بالرجوع إلى الواقع البيئي المعاش لكل فرد، مما لا يستغني عنه عامة الناس، لذا كان التركيز على الأرض بوصفها تراباً، وعلاقتها بالماء بوصفه الحيوي، وما يُنتجان بعد اشتراك العناصر الأخرى، من نبات متنوع الفوائد والألوان والأنواع والأصناف والأغراض والأحجام و غيرها مما يعدد حالات الانتفاع منه، وعلى المستويات كافة، الضرورية وغيرها، أكلاً وشرباً وشمَّاً ومنظراً وتوقياً بأشكاله دواءً ولبساً وفرشاً وغطاءً، ولأغراضه الإنسانية، أو لملء فراغات أخرى، يحرص على تأمينها، كعلف الحيوان، أو بعض لوازم الأدوات الصناعية الأخرى، مما يدخل في إطاره الحياتي، بل ولتشمل ما بعد ذلك من مواراة وستر عن المؤذيات، الأمر الذي يعطينا دليلاً بيّناً على وحدانية الخالق تعالى المستحق للعبادة ، فعلى أساس ما يشاهده الإنسان ويمارسه كان الاستدلال، ليأخذ نمطاً لا يبتعد كثيراً عن مستوى أدنى درجات الثقافة، بل حتى غير المتعلمين، بعد أنْ هيأ الله تعالى لهم ما يستعينون به للتعرف على الحقائق، كما نجدهم متميزين بسبب ذلك على صعيد المهن والصناعات، نتيجة وجود تلك القابلية الفطرية،

 

    قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم)(25) (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(26)، (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(27) (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا)(28)، الأمر الذي يدلنا بوضوح على شواهد كونية تتحرك معنا، ومن خلال وجودنا، على أنّ الصانع والمؤثر المدبِّر هو الله سبحانه دون مَنْ سواه (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)(29)،

 

    وكما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لولده الإمام الحسن(عليه السلام): (واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه، لا يضاده في ملكه أحد، ولا يزول أبدا، ولم يزل أول قبل الأشياء بلا أولية، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية، عظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر)(30)،

 

     فإنّ القادر على بدء عملية الخلق، وتحريك الأرض الميتة بظهور النبات، لقادر على الإعادة بعد الموت والفناء، وما أشبه احتضان الأرض للبذرة باحتواء الرحم للنطفة، فكلاهما بحاجة إلى عناية خاصة ودرجة اهتمام متميزة، كما أنهما شاهدان حيويان لا يحتاجان إلى أكثر من التركيز والتأمل.

 

   فظهر أنَّ بلوغ الإنسان لمرحلة الشيخوخة المصطلح على بعض مراحلها بـ( أرذل العمر)، ليمثل دالة من دوال التوحيد الإلهي، فعلينا العمل على تجاوز تلك المرحلة بما يبعدنا عن التأثر السلبي الكبير بتبعاتها، وذلك من خلال قراءة القرآن، كما في بعض الروايات(31)، والحرص على أداء الواجبات بالطريقة المتاحة، حيث قد تميز الإنسان في شيخوخته بما يخفف عنه العناء البدني:

 

1ـ كما في استثناءات الصوم(32).

 

2ـ وبعض أعمال الحج:

 

أ. فلا يجب عليه الوقوف في المزدلفة تمام ليلة العيد إلى طلوع الشمس، بل يجوز له الإفاضة الى منى قبل طلوع الفجر(33).

 

ب. كما يجوز له الرمي ليلة العيد(34).

 

ج. كما تجوز له الاستنابة لو عجز عن ممارسة الطواف أو السعي بنفسه.

 

3ـ وكذلك عدم حضور صلاة الجمعة، أو العفو عن بعض حركات الصلاة، حيث يباح له-كبقية المعذورين-الاكتفاء بالإيماء عن حركات الركوع أو غيره.

 

4ـ وأيضا قد لوحظ حاله في موضوع الجهاد من حيث عدم الوجوب عليه(35)، وعدم قتله لو قد خرج مع الكفار(36)، وعدم أخذ الجزية منه(37).

 

    ولا يبتعد عن الغذاء الروحي فتشتد عليه الحالة، بل تتحول إلى أزمة يعاني من ملابساتها الضاغطة، ولذلك نجد الروايات(38) الحاثة على مداراة الكبير والصبر عليه، وعدم التأفف أو إبداء الضجر منه واستثقاله، لما يمثله ذلك من نوبات تعرض جميع مَنْ مدَّ الله في عمره، فما يمرُّ به الوالد، قد يتكرر مع الولد، فعليه أن يتقي ربه في ذلك.

     كما الحرص على ابتعاده عن المحرمات، إذ قد نُهيَ مَنْ بلغ هذه المرحلة العمرية أنْ يمارس بعض المحرمات كالزنا(39)، أو لبس ملابس الشهرة ونحو ذلك مما ينتهك حرمته ولا يليق به، مما يعطينا اهتماماً خاصاً بهذا الإنسان، بحيث قد خُصَّ بأحكام معينة.

                               وختاماً

 

    كانت هذه جولةٌ علمية في رحاب مفردة من مفردات حياة الإنسان، لتدلنا على عظمة الخالق سبحانه، حيث تصيب الشيخوخة كافة الأجهزة والأعضاء والأنسجة والخلايا، لتضعف وتتأثر فتقلُّ كفاءتها، ولا تنسجم في أدائها مع حجم المطلوب منها.

    وبالتالي فالشيخوخة ليست مرضاً ـ فإنَّ نسبة90% منها طبيعية بلا مضاعفات(40)ـ بل حالةٌ تكثر فيها الأمراض، فتتحول عندها إلى حالة مرضية، لذا نشأ علمٌ جديد (علم الشيخوخة)، عندما تنبّه الطبيب الفرنسي شاركوت عام1881م لظاهرة الشيخوخة(41)، والتي قد ذكرها القرآن الكريم قبل أكثر من عشرة قرون.

 

    وإنَّ هذا كلّه لتذكيرٌ إلهي للإنسان بضرورة مراجعة الذات، وجدولة الأعمال وفقاً للآلية الشرعية الصحيحة، إذ لا مفرَّ له ـ مهما أنكرَ أو تنكرْ ـ من أنْ يصل إلى تلك المرحلة، إنْ قدَّرَ الله تعالى له البقاء، وإلا فهو معجَّلٌ به إلى القبر، وعندها يكون قد أخطأ في اختياره، فلم يجعل قبره روضة من رياض الجنة، بل حفرة من حفر النيران.

 

    كما يمكننا ـ في الختام ـأنْ نتعرف عندئذ على سرِّ الحث النبوي على اغتنام مرحلة الشباب قبل مرحلة الهرم في قوله(صلى الله عليه وآله): (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)(42)، حيث سمّاها غنيمة، وهي ما يفوز بتحصيله الإنسان في حربٍ يخوضها مع الزمن وتأثيراته الطبيعية، أعاننا الله سبحانه بلطفه وعونه على ذلك لو بلغناه، والحمد لله ربِّ العالمين >

—————————————————————————————————-

(1) النحل: 70.
(2) الحج:5.
(3) ظ/مقاييس اللغة2/509.
(4) أساس البلاغة229.
(5) المفردات في غريب القرآن194.
(6) يس 68.
(7) غافر: 17.
(8) القصص: من الآية88.
(9) الرحمن:26.
(10) نهج البلاغة1/192خطبة99.
(11) ظ/القرآن وإعجازه العلمي131.
(12) ظ/مقال على شبكة الأنترنت بعنوان أرذل العمر، د.محمد بن إبراهيم دودح بتاريخ31/3/2007.
(13) مسند أحمد1/183ط دار صادر-لبنان.
(14) الصحيفة السجادية/دعاء اليوم الثامن والعشرين من شهر رمضان.
(15) النحل:40.
(16) الحج:5.
(17) السجدة:7.
(18) قال تعالى: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) الأحقاف15، ظ/عيون الحِكم والمواعظ60.
(19) ظ/تفسير الطبري14/142،وتفسير الزمخشري2/418،بحار الأنوار3/239ـ ب2 علامات الكبر.
(20) ظ/ تفسير الزمخشري2/418،بحار الأنوار3/239ـ ب2 علامات الكبر.
(21) ظ/الكافي8/108ـ83،الخصال546ـ25،تفسير السيوطي4/124في ما أخرجه عن ابن مردويه عن أنس.
(22) ظ/مقال على شبكة الأنترنت بعنوان أرذل العمر، د.محمد بن إبراهيم دودح بتاريخ31/3/2007.
(23) الكافي 2/283ـ16.
(24) التين:5، ظ/تفسير الطبري30/247.
(25) التين:4.
(26) الروم:30.
(27) المؤمنون:62.
(28) الطلاق: من الآية7.
(29) الأنبياء:22.
(30) نهج البلاغة3/44
(31) مستدرك الحاكم2/528.
(32) منهاج الصالحين1/277(ترخيص الصائم).
(33) مناسك الحج148مسألة384.
(34) م/ ن152.
(35) منهاج الصالحين1/363.
(36) م / ن371مسألة17.
(37) م /ن393 مسألة66.
(38) ظ الكافي 2/165ب اجلال الكبير-657ب اجلال ذي الشيبة المسلم.
(39) تكملة منهاج الصالحين37 مسألة154.
(40) ظ/مقال على شبكة الأنترنت بعنوان أرذل العمر، د.محمد بن إبراهيم دودح بتاريخ31/3/2007.
(41) م / ن .
(42) وسائل الشيعة1/86ب27ح13-المستدرك للحاكم4/306.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.