اللغة العربية.. ثروة جمالية بلا حراس

304

الحكمة – متابعة: ليست مبالغة أو مفارقة أن تجد اليوم من يسأل عن حال اللغة العربية وما يتهددها من مخاطر ومحاولات لتسطيح هويتها ولاسيما في بلد مثل العراق مفجر الأبجدية ومَغْرِس الحروف الأولى،  فسؤال من هذا النوع يبدو أنه بات يصطفُّ في آخر طوابير المعرفة لأن كل مختص بها وغيور عليها سيجد نفسه مضطرا إلى البوح عمَّا وصلت إليه من مآلات وانعطافات خطيرة، لعل ابرزها واصعبها تجرؤ أهلها عليها وسعيهم بقصد أو من دون قصد إلى طمس ملامحها وتشويه معالم جمالها، وتغييب وظائفها الفاعلة في الاستعمال، وهل اللغة الا الاستعمال والتداول والتعبير عن الحاجات الإنسانية؟ بهذا التساؤل استهل رئيس قسم الدرسات العليا في كلية الامام الكاظم(ع) الدكتور محمد الواضح حديثه بمرارة لم تقل عن ألم جوابه قائلا:

“تكتنز في بطون معجماتها بما لا يدركه بشر أو يطوله عُمر عن الإحاطة بجذورها ومفرداتها وتراكيبها عاجزة عن تلبية كل ما استجد ويستجد من متطلبات العصر، وأن تكون المحتوى الفكري واللفظي الذي يستوعب شتى المعارف والعلوم  ليستعيض عنها اليوم بلغات كالأجنبية والفرنسية اللتين ظلتا ردحا طويلا من العجز والوهن قاصرتين عن تمثُّل علومها وآدابها وفنونها، ولماذا تتصاعد صيحات بدعوى تراجع العربية عن مطاولة ما يطرأ ويستحدث من مظاهر التقدم الحضاري والتكنولوجي وما تجدد من متطلبات الحياة وألفاظ الحضارة؟”.

ويقول استاذ اللغة العربية علي جاسم محمد:

“ قبل العام 2003 وحتى بعده بسنتين أو ثلاث كانت الأخطاء الإملائية قليلة جدا عند طلبة المدارس الإعدادية وحتى بنسبة كبيرة أيضا للمتوسطة، ثم ازدادت هذه الأخطاء في السنوات العشرة الأخيرة بنسبة كبيرة، إذ بات معظم طلبة الكليات والمعاهد لا يتمكنون من كتابة سطرين كاملين دون ان يلاحظ القارئ كتابة الكلمات بشكل خاطئ، في حين أن تصفح مواقع التواصل الاجتماعي لمدة ساعة واحدة فقط يبهرنا بحجم “كارثة” هذه الأخطاء لينتابنا إحساس مؤلم وخطير بأن هذا الخراب الذي طال اللغة العربية جعلها تتأرجح خائفة ومستنجدة بين اندثار جماليتها ورونقها والقبول بموحش الألفاظ الطارئة عليها أو ضياعها بشكل كامل وإحلال لغة هجينة ركيكة محلها، حتى وصل الأمر الى ان تعج المؤسسات الإعلامية ومنظمات المجتمع المدني والدوائر الحكومية بموظفين “غير ملمين” بقواعد اللغة العربية وكتابة الأحرف والكلمات بصورتها الصحيحة وهذا واضح وجلي في الكتب الرسمية المليئة بـ “أخطاء إملائية “ التي تصدر عنها”.

الألفاظ الدخيلة

وفي الوقت نفسه فان العربية لم تجمد أو تنحسر أمام كلّ ما هو جديد حيويٌّ، بل انفتحت على لغات العالم وتماهت كثيرا من الألفاظ الدخيلة في بوتقة أحكامها وقواعدها وخضعت لآلياتها من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن فتح الباب على مصراعيه أمام الكثرة الكاثرة من المفردات الوافدة، والسماح بشيوعها، في حين لم تضق العربية تعبيرا أو تقصر عن تأدية المعاني الطارئة، فاذا تأملنا على سبيل المثال انتشار ألفاظ كـ “أوكي” و” ثانكيو” و” وري و” هاي” ما المسوغ لشيوعها بدل الألفاظ العربية ؟ فهل في “حسنا” و”شكرا” و”آسف” و”مرحبا”، ما يشين استعمالا وتداولا لكي نسهم في تداولها؟ فمشكلة تفشي الاخطاء الاملائية تعود لمرحلة الدراسة الابتدائية ومايوليه المعلمون من اهتمام للاملاء، كما قال مصحح اللغة العربية في صحيفة” البينة الجديدة” حامد العطراني موضحا :

“ هذه المشكلة تحصل في لغات أخرى كالانكليزية مثلا لانها تحتوي على مفردات مربكة وحروف تكتب ولا تلفظ، ولا يخفى على أحد مدى التدهور في التعليم منذ الحرب العراقية الايرانية في مطلع الثمانينات وما تبعها من حصار، اذ أصاب المؤسسة التربوية الوهن شيئا فشيئا،  فضلا عن مؤسسات الدولة الأخرى ومع أن وزارة التربية انتبهت للمشكلة وأصدرت كتابا في المنهج يختص بالاملاء إلا أنه لم يلق اهتماما لكونه كتابا مساعدا كما هو كتاب المطالعة الذي أهمل تماما على الرغم من أهميته”.

ويخالفه الرأي مدير اعلام وزارة التربية ابراهيم سبتي الذي تحدث قائلا:

“ان اللغة العربية هي مهارة مكتسبة بالدرجة الاولى وليست مسألة علمية، فالمدرسة تعلم المهارة وطريقة التدريس ولكن تبقى القضية مرتبطة بالمتعلم نفسه، فهناك من يستثقل التدريس كتعليم طريقة كتابة الهمزة بالطريقة الصحيحة وتوضيح الفرق بين الضاد والظاء واماكن استخدامها ، وقد عملت وزارة التربية على وضع مناهج في معاهد اعداد المعلمات والمعلمين  خاصة بتعليم اللغة العربية وطرائق تدريسها وكراسات لتعليم انواع الخط العربي، اضافة الى ان هناك دروسا لطلبة المرحلة الابتدائية والمتوسطة تختص بالخط العربي وكيفية التعبير والانشاء الذي يزيد مهارة الطالب في تعلم اصول اللغة العربية، فضلا عن كتاب الاملاء الموجود في الصفوف المتوسطة لتوجيه التعليم نحو التركيز على الاملاء، لذلك اعتقد ان الوزارة غير مقصرة من هذا الجانب، فالقضية مرتبطة بالمتعلم فقط “.

الأخطاء الفادحة

ولعل من ابرز الأخطاء الشائعة التي تتم ملاحظتها للوهلة الأولى عند قراءة كتب رسمية أو لافتات الخطاطين أو تعليقات الشباب في “الفيس بوك” وغيرها عدم التفريق بين حرفي الضاد والظاء (ض، ظ) أو بين التاء المربوطة والهاء (ة ، ه)، أو كتابة الهمزة بالشكل الصحيح، وإدخال حروف الجر على الاسم المجرور، وقلب التنوين نوناً وغيرها الكثير، بل إن ثمَّة ألفاظا قد تجدها استحالت نسقا تركيبيا في بناء الجملة  وصارت أكثر تداولا في عالمنا العربي اليوم مثلا: يقال عن الشاب الجميل الوسيم اللطيف “كيوت أو كيوتي”وفي الإعلام يقال: اعمل لفلان “تيست”: أي اختبار

ويقول الناشط على مواقع التواصل الاجتماعي مصطفى اكرم وعلى وجهه علامات الاحباط :

“اكاد اجزم ان اغلب الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي هم اناس اميون لكن الصدمة الكبرى عندما اكتشف انهم من حملة الشهادات ، فطرق الكتابة واستبدال الحرف وعدم التفريق بين بعضها وطرق استخدامها توحي انهم لم يكملوا حتى دراستهم الابتدائية، كيف وصل من يقول (شكرن جزيلن ) للتعبير عن الامتنان الى المرحلة الجامعية ؟ وهو يحتاج الى اعادة النظر في كيفية حصوله على الشهادة .وقبل ان يكمل مصطفى حديثه يقاطعه صديقه وئام الفيلي  بنبرة غضب قائلا:

 “ هنالك الكثير ممن يعانون بسبب الاخطاء الاملائية فأنا شخصيا حصلت لي مشكلة في احدى الدوائر الرسمية بسبب خطأ املائي في اسمي من قبل الموظف المسؤول ما جعلني اضاعف جهدي من اجل تصحيح الخطأ الذي لم يكن ضمن مسؤوليتي “، ويطالب وئام باقامة دورات املائية في مؤسسات الدولة لتجنب الوقوع بالخطأ خصوصا في الكتب الرسمية التي يقع ضحيتها المواطن “.

أسباب واضحة

ويظن مدرس اللغة العربية علي جاسم ان:

“ انتشار الاخطاء الاملائية وتدني المستوى التعليمي يقعان على عاتق المعلمين والمدرسين بالدرجة الاولى ، فالمعلم في المدارس الابتدائية اصبحت طريقة تعليمه قائمة على التلقين والحفظ او الاعتماد على الملازم دون التركيز على كيفية كتابة الحرف تلو الحرف لبناء الكلمة، وفي المدارس المتوسطة والإعدادية فان الخطأ أكبر، لان أغلب المدارس بكوادرها التدريسية تبحث عن تحقيق نسب نجاح وبأي طريقة كانت دون النظر لتحقيق الفائدة العلمية واللغوية والتربوية، أما مدرسو اللغة العربية فهم أنفسهم ضائعون بين محاولة تصحيح أخطاء السنوات السابقة لتعليم الطالب وبين محاولة إكمال المناهج الدراسية لاسيما في ظل الاعتماد الكلي من قبل مدرسي المواد الاخرى على مدرسي اللغة العربية في تصحيح اخطاء الطلبة وتعليمهم الكتابة الصحيحة وكأن اللغة تخص مدرس اللغة العربية لوحده”.

ويعود الدكتور محمد الواضح في ختام حديثه ليؤكد:

“ضرورة المحافظة على اللغة العربية ونسيجها وترصين نظامها النحوي والصرفي والكتابي الإملائي بالنحو الرائق الذي يشعر بأننا أهل لغة وحضارة يمتد عمرها لآلاف السنين ولاسيما في بلد مثل العراق أكثر من غيره معني باللغة وحمايتها وإحياء مفرداتها من أحشاء القواميس بعد أن نالها نصيب من الاندثار والموت السريري، وأنه لأمر جلل أن يكون حظ العربية عاثرا في بلد احتضن المدرستين (البصرة والكوفة) ويتغنى بميلاد الحرف الأول وهو لا يسعى إلى  الحفاظ على العربية سليمة ومعافاة من كل زيغ وانحراف” .

الصباح

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*