تاريخ المجالس الثقافية والأدبية في النجف الأشرف

604
خاص لموقع الحكمة
الباحث والمؤرخ: منذر جواد مرزه

للتكلم عن المجالس النجف الأدبية والثقافية، لابد لنا أن نرجع قليلا إلى التاريخ القديم للمدينة لنرى كيف تأسست هذه المجالس وكيف نشأت وكيف تطورت وما هي علاقتها بطبيعة النجف الديموغرافية.

فالنجف الأشرف منذ تحصيرها في القرن الثالث الهجري حيث هاجر إليها بعض العوائل العلوية لتكون قريبة من المرقد العلوي المطهر، ولتقوم على خدمته وخدمة زواره من الوافدين هاجر إلى البقعة المقدسة العديد من العلماء والمحدثين والمقرئين سواء من الكوفة القريبة أو من أماكن أخرى لنفس الغرض من حيث القرب من المرقد الشريف ونيل البركة والتقرب إلى الله تعالى، ولم يكتف هؤلاء بالسكن جوار أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، وأنما باشروا في عقد جلساتهم الدراسية والتدريسية في المرقد الشريف في مختلف العلوم الدينية كالشريعة وعلوم القرأن وعلوم الحديث وغيرها من العلوم الأخرى.

تطورت هذه الحلقات بتطور السكن وكثرة الوافدين إلى النجف الأشرف، وباتساع رقعة المرقد المطهر خاصة بعد أن بنى عضد الدولة البويهي الرواق حول المرقد، فأصبح هذا الرواق مسجداً من جهة ومحلًا للدراسة والتدريس وعقد الحلقات للعلماء، لذا فقد نشأ من هذه العملية مجتمع توّاق لتلقي العلوم والمعرفة، وإن كانت غير منتظمة. ظلت الحال على هذا المنوال حتى منتصف القرن الخامس الهجري حيث هاجر إلى النجف الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) بعد أن شرده السلجوقيون من بغداد، وما هو معروف عن هذا الشيخ الجليل من علم ومعرفة وتأليفات عديدة في الشريعة والقرأن والرجال وعلم الكلام، وبعد أن شاهد عدم انتظام الدراسة في حلقاتها قرر أن ينظمها وينقلها إلى صفة أحسن وأفضل، لذا قام بتنظيم الدراسة الدينية بشكل يؤدي إلى الغرض منها وبذالك نشأت المدرسة الدينية الحوزوية واعتبر الشيخ الطوسي(قدس سره)، هو المؤسس لهذه المدرسة العظيمة التي بقيت قائمة حتى الوقت الحاضر فخرّجت المئات من العلماء والمجتهدين والفضلاء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي الذين يقدمون إليه لغرض الدراسة وتلقي العلوم ومن ثم العودة إلى بلدانهم لبثها ونشرها فيها.

هذه العملية وعملية التواصل بين العلماء والدارسين أدت إلى فتح العديد منهم أبواب بيوتهم ودواوينهم، وخاصة في المساء لتكون منتديات يتطارح منها روادها مختلف الأمور من دينية وعلمية وغيرها فهي أشبه بالمجالس التطبيقية لما حدث في النهار من دراسة وتلقي معلومات.

وبما أن من أهم العلوم التي يتدارسها الطلاب هي علوم اللغة العربية وأدبها من بلاغة وبيان وبديع وأدب وشعر، لأن الدراسة الدينية لا تجوز إلا باللغة العربية، وأن على طالب العلم مهما كانت قوميته وجنسيته أن يتعلم اللغة العربية أولا، ومن ثم ينخرط في الحلقات الدراسية لذا فقد تعلم الناس الأدب والشعر ودرسوا دواوين الشعراء القدامى وشعرهم، ودرسوا عروض الخليل بن أحمد الفراهيدي والبحور الشعرية إلى غير ذلك من هذا الفن، فأخذ الموهوبون ينظمون بموجب ما تعلموه من العروض والبحور، فنشأت طبقة الشعراء كناظمين أول،ا ثم تطور شعرهم إلى التعبير المتقن والصورة الشعرية، متناولين كل فنون الشعر وبحوره، وكانت النجف بموجب هذا قد تحولت إضافة إلى بيئتها العلمية والدينية إلى بيئة أدبية وشعرية لا تضاهيها بيئة أخرى في أي بقعة من بقاع العالم الإسلامي، وبموجب هذا فقد نشأت مجالس للأدب والشعر والثقافة العامة، إضافة إلى المجالس العلمية والدينية وتعددت هذه المجالس بشكل ملحوظ وتطورت إلى مجالس مختصة بالنظم والمطاردة الشعرية وتعلم النظم أيضًا.

ونصل إلى القرن الرابع عشر الهجري حيث كانت المنتديات والمجالس الثقافية والأدبية والشعرية تتعدد من النجف الأشرف وكان للشعراء الكبار الفطاحل في نظم الشعر دواوينهم التي تغص بالأدباء والشعراء والمثقفين من كل لون وصنف.

من أهم هذه المجالس الأدبية والشعرية في هذا القرن مجلس السيد علي بحر العلوم، ومجلس السيد مير علي أبو طبيخ، ومجلس الشيخ قاسم محي الدين، ومجلس الشيخ عبد الحسين الجواهري، ومجلس الشيخ جواد الشبيبي، وغيرها من المجالس العديدة، والكثيرة التي كانت الشعراء والأدباء يرتادونها يوميًّا أو أسبوعيًا ليتطارحوا فيها صنوف الشعر ويتبارون في نظمه، وكثيرًا ماكانوا يتحاكمون إلى أنبغ الشعراء أو من يختارونه منهم ليحكم على جودة أشعارهم، هذا ما كان يمنع من أن تعقد في النجف الأشرف ومجالس أخرى. ومن نوع آخر إضافة إلى لما ذكرناه من مجالس دينية ومجالس أدبية، حيث سارع العديد من الوجهاء ورؤساء العشائر والعوائل والأسر إلى فتح دواوين لملتقى الأقرباء وأبناء المحلة والأصدقاء والمعارف، يتداول فيها أمور الدنيا والحياة، أو مجالس سمر، ومن هذه المجالس مجلس الحاج سعد عباس دوش، ومجلس الحاج محمد مرزه، ومجلس آل جريو، ومجلس آل السيد سلمان، والحاج عبد الرزاق شمسة، ومن بعده ولده الحاج محمد سعيد شمسة، وآل أبو صيبع، وآل الشمرتي، وآل نصار ومجلس الحاج عطية أبو كلل.

والمعروف أن ظروف العهد الماضي ظروف مقيتة مرت على العراق وعلى النجف بالخصوص، وأن العهد البائد كان ضد الثقافة والمثقفين وضد العلم والمتعلمين، لذا حارب هذه المجالس من أي نوع كانت، لذا فقد أغلقت الناس مجالسها والمنتديات إلى حين، حتى أنقذ الله العراق وأهله وتنفس المجتمع الصعداء، فانطلق المثقفون إلى إعادة فتح المجالس الأدبية والثقافية وبشكل غزير، يجتمع رواد المعرفة وطلاب المعرفة في هذه المجالس والاستماع لما يطرح بها من علم وفكر وتاريخ  وأدب وشعر وغير ذلك من فروع المعرفة وأهم هذه المجالس العاملة في الوقت الحاضر والتي تغص بها مدينة النجف الأشرف، مجلس مؤسسة التراث النجفي للأستاذ الدكتور حسن عيسى الحكيم، ومجلس آل مرزه الثقافي الذي يديره الباحث والمؤرخ الأستاذ منذر جواد مرزه في ديوان الأستاذ عقيل مرزه، والملتقى الثقافي لأدباء العترة، ومجلس دار الهدى لسماحة الشيخ نصير كاشف الغطاء، والمكتبة الأدبية المختصة، ومجلس الأستاذ مكي السلطاني، والبيت الثقافي، ومجلس جمعية منتدى النشر، واتحاد الأدباء والكتاب فرع النجف، وهناك مجالس أخرى غير منتظمة الانعقاد، كمجلس الدكتور عبد الكاظم الياسري، ومجلس المهندس شاكر الحمداني، ومجلس الأستاذ علي الحداد، وغيرها من المجالس والمنتديات، ويتناوب الأساتذة والدكاترة في إلقاء محاضراتهم وبحوثهم فيها.

ظهرت هناك محاولة من الملتقى الثقافي لأدباء العترة في تأسيس رابطة لكل هذه المجالس لتنظيم أمورها وأمور انعقادها والمحاضرات والبحوث التي تلقى فيها، وفعلا تكللت هذه المحاولة بالنجاح في أول الأمر، وتم انتخاب هيئة لهذه الرابطة، ولكن ضعف الدعم لهذه الرابطة جعلها تتوانى في مهمتها ولا تستمر في عملها.

إن أهم ما تعانيه المجالس الأدبية والثقافية في النجف هو عدم وجود الدعم المادي والمعنوي لها من قبل الجهات الرسمية وغير الرسمية لهذا، فإنها تعاني كثيرًا في عملها، وخاصة في إصدار المجلات والدوريات والنشرات، فمثلا توقفت مجلة العترة التي تصدر عن الملقتى الثقافي لأدباء العترة عن الصدور لعدم تمكن الملتقى من تسديد أجور طبعها، إضافة إلى معاناته في إيجاد مقر دائم له، وتصدر مجلة الأصالة عن مؤسسة التراث النجفي، كما تصدر مجلة مسار الهدى الفصلية وصحيفة الهدى الأسبوعية وصحيفة المجالس الأدبية الشعرية عن مؤسسة دار الهدى، وتصدر المكتبة الأدبية المختصة في بعض الأحيان بعض الكتب، كما يصدر الاتحاد العام للأدباء والكتاب فرع النجف أحيانا بعض الدوريات، أو يساعد على طبع بعض الكتب والدواوين الشعرية.

نتمنى ونرجو مخلصين أن تستمر هذه المجالس وتتوسع وتتطور في هذه المدينة المقدسة، مدينة النجف الأشرف لتأدية رسالتها في خلق مجتمع مثقف ومطلع وعلى درجة من المعرفة، إلى جانب مؤسستها الدينية الواسعة التي يديرها العلماء الأعلام من المرجعية الدينية الرشيدة، كما نرجو مخلصين أن تلتفت المؤسسات الحكومية المختصة كوزارة الثقافة ووزارة المجتمع المدني ومجلس المحافظة وجامعة الكوفة فتدعم هذه المجالس كي تستمر في أداء رسالتها والله الموفق على كل حال.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*