شيعة العراق وإحياء الروح الوطنية
بنظرة خاطفة وسريعة على مشاهد النزوح الجماعي للشيعة من مناطق سكناهم في الموصل وكركوك ومناطق الحرب والمواجهات، تتبلور لنا الحلقة الجديدة في مسلسل المأساة التي يعيشها شيعة العراق منذ عقود طويلة من الزمن، تتلخص في عدم الاستقرار في وطنهم. فبعد ان كان هذا الوطن سبباً في سفك دماء مئات الآلاف من الشباب والرجال في حروب عبثية من اجل هذا الوطن، وسبباً في تحمل الناس وطأة الحصار الاقتصادي لحوالي ست سنوات في عقد التسعينات، وما ترك هذا الحصار من آثار كارثية على البنية الاجتماعية والحالة النفسية، بل على ثقافة وسلوك المجتمع.
كان التصور العام بعد تاريخ (9-4-2003)، أن شيعة العراق سيتحولون الى كتلة واحدة متوهجة، بناءً على نسبة الأكثرية التي يحظون بها، ويكونوا الحاضن الوطني الاكبر لسائر الطوائف والاقليات بما لديهم من تراث حضاري ورصيد ضخم من القيم والمبادئ السامية، ويتجاوزوا حقبة الماضي، إلا ان مجريات الاحداث بددت هذا الطموح، فبات اطفال الشيعة ونسائهم مشردون داخل وطنهم وفي العراء تحت أشعة الشمس اللاهبة.
انه أمرٌ يدعو الى التأمل طويلاً، والتساؤل ايضاً.. اكثرية في بلد غني مثل العراق، يتحولون الى الحلقة الأضعف في الفتن السياسية والحروب الأهلية؟.
احد المعارضين المخضرمين للنظام البائد يصف حالة الساسة القادمين من الخارج بعد الاطاحة بنظام صدام، بالاندهاش المصحوب بالغبطة العالية، فهم ربما لم يكونوا يصدقون أن تتم الاطاحة بصدام، واكثر من ذلك ان يتولون ادارة الحكم ويتسنّموا مناصب عالية يتصرفون خلالها بالأموال والامتيازات ويصنعوا القرارات المصيرية. لذا كانت النتيجة أنهم كانوا لفترة طويلة، وربما حتى الآن، يفكرون بكيفية استيعاب الواقع الجديد لديهم، قبل التفكير باستيعاب الآخرين تحت خيمة الوطن الواحد.
ولا ننسى حقيقة هامة، طالما تم حجبها او تشويهها، وهي الحالة الوطنية بامتياز لدى شيعة العراق أكثر مما لدى الآخرين، والتاريخ خير شاهد على ما نقول.. وابرز دليل، ثورة العشرين التي اجبرت الاستعمار البريطاني على الانحناء للإرادة العراقية (الشيعية) والتنازل عن السلطة والهيمنة على مصير العراقيين جميعاً، والرضوخ لإدارة عراقية – وطنية. وإن كانت الثورة لم تصب في صالح الشيعة في نهاية المطاف، بيد ان التاريخ يؤكد حقيقة فضل الشيعة في التعجيل بظهور الدولة العراقية المستقلة. ولم يثبت خلال العقود الماضية أي ارتباط لشيعة العراق، بأي جهة خارجية، كما حصل مع التيارات القومية والسياسية الاخرى في العراق.
ما حصل خلال السنوات الماضية إعطاء بعض الساسة في بغداد – إن لم نقل جميعهم- مصداقية لمروجي التهمة القائلة بان شيعة العراق لن تقوم لهم قائمة دون دعم وإسناد خارجي. ولنفترض وجود هذا الدعم والاسناد – بالضرورة- نظراً لخارطة طريق محددة لإجراء التغييرات الاساسية والجذرية في العراق قبل وبعد تاريخ (9-4-2003)، لكن لنا ان نتساءل: هل اخذ العراقيون الشيعة اوامرهم من جهة خارجية عندما قدموا الآلاف من خيرة الشباب المؤمن والمثقف بين من قضى شهيداً تحت التعذيب أو في ساحات الاعدام الجماعي؟ وكان الهدف من كل تلك التضحيات الجسام، من سجن وتشريد وتقتيل ومطاردة، هو ان تسود القيم والمبادئ، العراق كله، لا منطقة محددة فقط.
مع كل المعاناة والإسقاطات في الأرض، وهي ليست بسيطة، مع زعزعة الناس ثقتهم بحكومة شيعية، وهدر المليارات من الدولارات وفوضى أمنية وسياسية عارمة، هنالك بصيص أمل بان يعود لشيعة العراق دورهم السياسي والحضاري، فالشيعي الذي يتعرض للتهديد والتصفية الجسدية في الاقضية والمدن الشيعية مثل تلعفر وطوزخورماتو وغيرها، إنما هو عبارة عن ثلمة يتعرض لها العراق، وليس الطائفة الشيعية، وأن مظاهر النزوح الجماعي وما تصاحبه من تداعيات إنسانية وأوضاع مأساوية، هي بالحقيقة تهديد عنيف لوحدة العراق، بل وتوجيه رصاصة قاتلة الى النسيج الوطني العراقي.
هذه الصورة ينبغي ان تكون ضمن حملة ثقافية واسعة في العراق يضطلع بها المثقفون وعلماء الدين والإعلاميون وكل من يجد في نفسه التأثير بالقول والقلم في ترسيخ هذه الثقافة لدى ابناء الشعب العراقي.. ان واقع النزوح قائم في الوقت الحاضر، ولن تعود عقارب الساعة الى الوراء، وهذه حقيقة، بيد أن هناك حقائق اخرى لا ينبغي نكرانها، وهي الواقع الديموغرافي في العراق، فليس من السهل تحويل قضاء تلفعر – مثلاً- الى قضاء سنّي، كما لا يمكن إلغاء الاغلبية السنية من قضاء او مدينة معينة وتحويلها الى شيعية، ولعل المثل البارز في المناطق التي يدعيها الكرد انها تعود للإقليم، والصخب والضجيج حول ما يسمى بـ”التطبيع” خير دليل على ما نذهب اليه. فما موجود الآن ليس كل شيء، رغم فداحة الخسائر وفظاعة الاوضاع الانسانية. وهذه الخطوة لا ينتظر منها أن تغير الاوضاع وتعيد الشيعة الى اماكن سكناهم وتزيل تهديدات “داعش” عنهم، إنما تحول دون تنفيذ المخطط المرسوم للعراق بإلغاء ما كان يسمى بوجود “اغلبية شيعية” في العراق (الوطن)، واستبداله بمناطق ذات أغلبية سنية، وأخرى ذات أغلبية شيعية، مع وجود “جيوب” لشيعة هنا او سنة هناك، وهذه حالة موجودة تعيشها كثير من شعوب العالم، بيد ان الوضع مختلف لدينا في العراق، فهو بلد غني بالنفط والخيرات وذو موقع استراتيجي وعمق حضاري ترنو إليه عيون العالم بأسره، ولا يحتمل التقسيم والتصنيف بهذه الطريقة. وإن حصل – مع الافتراض- فان تداعيات التقسيم ستكون أشد وطأة على الشيعة من هذا النزوح الذي نشهده، والذي يتم استيعابه بشكل او بآخر في المدن المقدسة.