عقل عربي أم إسلامي؟ .. قراءة حول مشروع محمد عابد الجابري
326
شارك
يحيى محمد .. مبدئياً، وقبل الدخول في تحديد دقيق للمسألة، قد يقصد بالعقل العربي الإسلامي ما يمثل النتاج الفكري لكافة نواحي العلوم العربية والإسلامية كالفقه والكلام والتفسير وغيرها. كما قد يقصد به ما يمثل الطريقة التي تتشكل عليها عملية الإنتاج المعرفي لتلك العلوم. وواضح أن الموقف الأخير ليس منفصلاً عن الموقف الأول، فهما مربوطان برباط التوليد والإنتاج. ولأول وهلة، قد يرى الناظر أن التساؤل عما إذا كان العقل الخاص بتراثنا عربياً أو إسلامياً، هو تساؤل ليس له معنى ولا جدوى، فهو عقل عربي إسلامي، لاستحالة التفكيك بينهما مثلما يستحيل التفكيك بين الماهية والوجود في الفلسفة. إذ الثقافة العربية هي في غالبها ثقافة إسلامية، والثقافة الإسلامية غالباً ما تكون ثقافة عربية هي الأخرى، وبالتالي فإن العربية بما تكنّه من خصوصية لغوية وثقافية هي بمثابة الإسلام كشريعة. حتى أن بعض القدماء صوّر هذه العلاقة كما هو الحال مع أبي عمرو بن العلاء بقوله: «علم العربية هو الدين بعينه»(1). لكن بالرغم من الصورة التي تشهدها حقيقة عدم التفكيك بين طبيعة الزوج الثقافي الديني العربي؛ فإن معرفتنا لطبيعة العامل الذي يتحكم في العقل العربي الإسلامي ويشكّل بنيته العامة، إن كان يعود إلى الحقل الديني أو إلى الحقل العربي، كواقع أو لغة أو جنس.. كل ذلك سيحدد لنا حقيقة هذا العقل، لا بما يعبّر عما يحمله من ثقافة التراث التي سبق أن انتهى تكوينها، بل والأهم من ذلك بما يشكل من أداة فاعلة؛ لها القابلية على إنتاج الفكر حاضراً ومستقبلاً، مثلما كان لها القابلية على عملية الإنتاج المعرفي لتكوين التراث ذاته. لقد كان من المفروغ منه، أن العقل العربي الإسلامي يستمد روح موضوعه الأساس من النص المقدس كمادة خام، فأداته تنهج نحو توظيف النص في تشكيل الثقافة العلمية وإنتاجها. وحيث أن النص المقدس يمتلك في حد ذاته اعتبارين أساسيين، فهو من جهة يمثل ذات اللغة العربية، لكنه من جهة أُخرى له قدسية شرعية خاصة أضفاها الشارع الإسلامي عليه، وبالتالي فهو ليس كأي لغة ولا كأي نص كان، بل هو نص لغوي محمّل ومشحون بالقدسية الدينية.. لذا فإن العقل العربي الإسلامي يصبح ذاته حاملاً لمادة ذات طبيعة مزدوجة، فهي من جهة مادة لغوية قد تساهم بدرجة ما في حمل صورة الواقع العربي وعكسه على صعيد العقل، لكنها من جهة أُخرى عبارة عن مادة دينية ذات صبغة معيارية قائمة في الأساس على نظرية التكليف بما تعبّر عن علاقة المكلِّف بالمكلَّف. فإذا كان هذا الازدواج قائماً في ذات النص والذي ينعكس بدوره على العقل الذي يستمد غذاءه من النص؛ لذا يصبح من الواضح ضرورة التمييز والكشف عن حقيقة البنية الأساسية للعقل وطبيعة العامل الفاعل في النشاط الابستمولوجي الذي يقوم به في عملية الإنتاج المعرفي. وحقيقة الأمر أننا ما زلنا نفتقر افتقاراً مطبقاً لأي محاولة تسعى إلى وضع الحدود الفاصلة بين البنيتين اللغوية والمعيارية داخل العقل العربي الإسلامي، بل ولا نمتلك دراسة جادة تسعى للكشف عن صميم بنية هذا العقل إلا لدى مشروع (نقد العقل العربي). فهذه الدراسة رغم أنها لم تهتم في البحث عن الحدود الفاصلة بين البنيتين، ولم تستهدف التمايز بينهما، ولا حتى التعرض للكشف المفصل عن طبيعة البنية المعيارية، إذ كان غرضها ينصب مباشرة وبشكل واضح نحو إثبات الطبيعة العربية للعقل الذي تشكّل ولا زال يمارس دوره من خلال بنيته اللغوية.. رغم ذلك يُلاحظ أنها يمكن أن تعرفنا ولو بطريقة السلب عن حدود الاعتبارات المعيارية في قبال اعتبارات (الخاصية القومية) المضفاة على العقل العربي الإسلامي، ما دام هذا الأخير يقع بين أن يكون إما محكوماً بسلطة المزيّة الأُولى أو الثانية.
مبررات الأخذ بعروبة (العقل)
لا شك أن هناك بعض المبررات التي فرضت نفسها على المفكر محمد عابد الجابري لجعل مشروعه موسوماً بـ (العقل العربي) بدلاً عن (العقل الإسلامي). وهو وإن لم يتعرض صراحة إلى علة هذا الترجيح والتفضيل ضمن طيّات مشروعه الضخم، إلا أن كثرة إلحاح السائلين عن ذلك حدتْ به إلى أن يقدّم لنا عدة مبررات. فذكر في بعض المناسبات أن ذلك يعود إلى ما في اللغة العربية وعلومها من دور كبير وحاسم في تشكيل آليات المعرفة وبناء أُسسها. كذلك فلأن عبارة (العقل الإسلامي) لا يمكن أن تدل في حقل الثقافة العربية إلا على مثل ما تدل عليه عبارة (العقل المسيحي) في الثقافة الأوروبية، مع أنه ـ كما يذكر ـ ليس من اهتمامه ولا من اختصاصه التحرك في إطار (العقل الديني) إسلامياً كان أو مسيحياً(2). وفي مناسبة أُخرى أوضح أن اختياره هو اختيار استراتيجي، مبدئي ومنهجي، وذلك لاعتبارين؛ أحدهما يتعلق بحدود إمكاناته الخاصة، إذ يتصور أن عبارة (العقل الإسلامي) من المفروض أن تضم كل ما كتبه المسلمون أو فكروا فيه، سواء باللغة العربية أو غيرها، مع أنه ـ كما ذكر ـ لا يتقن في هذا المجال إلا اللغة العربية. أما الاعتبار الآخر فيتعلق بطموحاته، ذلك لأنه لا يطمح إلى إحياء وإنشاء علم كلام جديد، وعبارة (العقل الإسلامي) لا تتجرد من المضمون اللاهوتي، في حين أن مشروعه قائم على البحث الابستمولوجي في أدوات المعرفة وآلياتها، وهو متوفر في اللغة العربية ذاتها، خاصة وأن هذه اللغة وعلومها لها الدور الكبير والحاسم في تشكيل آلية المعرفة ورسم صورة العالم، بعيداً عن مجال الدراسات اللاهوتية الكلامية وغيرها(3). على أن الاعتبار الأول غير مقنع تماماً. إذ لو آمنا به لكان من الصعب أن نجد شخصاً يحق له التحدث باسم (العقل الإسلامي) والثقافة الإسلامية بما هي ثقافة علمية، مادام ليس بقدرته معرفة جميع اللغات التي تتناول الفكر الإسلامي، وهو الأمر الذي يفضي إلى تضييع الثقافة الإسلامية والخصوصية التي تحملها. والحقيقة إنه لما كانت اللغة العربية تمثل العمود الفقري للثقافة الإسلامية بما هي ثقافة علمية، فأغلب ما كُتب عن الفكر الإسلامي علوماً ومناهج واتجاهات كان بتلك اللغة، لذا فأيّ كتابة أُخرى عن الثقافة الإسلامية أو (العقل الإسلامي) لا يمكنها أن تستغني عن اللغة العربية وثقافتها ولو بصورة غير مباشرة، إذ إن أيّ دراسة علمية تهدف للتعرف على (العقل الإسلامي) فسوف تتعرف عليه من خلال روح النص المقدس، أو من خلال ثقافة الاجتهادات الفكرية التي تتحرك في دائرة النص أو على مقربة منه، وجميع ذلك قد تمّ انجازه من خلال اللغة العربية ذاتها. أما الاعتبار الثاني فصحيح أن الاستناد إلى آلية اللغة العربية كأساس للبحث الابستمولوجي يجعل من التفكير دائراً في حدود (العقل العربي)، لكن ليس من الصحيح أن البحث في إطار (العقل الإسلامي) يتضمن بالضرورة الطابع اللاهوتي، مثلما لا يصح أن يقال أن البحث في إطار (العقل العربي) يتضمن الطابع العرقي بالضرورة. فلا مانع من أن يكون أساس البحث في (العقل الإسلامي) هو البحث الابستمولوجي بعيداً عن اللاهوت، مثلما هو الحال في دائرة التفكير اللغوية. ومع ذلك فإنه لا توجد حدود فاصلة بين الأمرين، إذ البحث الابستمولوجي يؤثر على البحث اللاهوتي، والعكس صحيح. كما أن البحث في حدود العلاقات اللغوية له مداخل في المضامين اللاهوتية، والعكس صحيح أيضاً.
مهما يكن فإن إجلاء الفارق بين عبارة (العقل العربي) و(العقل الإسلامي)؛ لا تتضح من نفس طبيعة البحث إن كان ابستمولوجياً أو لاهوتياً، مادام البحث في (العقل الإسلامي) يمكن أن يكون ابستمولوجياً بعيداً عن اللاهوت. وعليه فإن الفارق بينهما وتمييز أحدهما عن الآخر؛ يتحدد بملاحظة مقومات البحث إن كانت تدخل في الطرح القومي أم الديني. فمن أهم مقومات الطرح القومي هي اللغة والجغرافية والجنس والتاريخ. في حين أن من أهم مقومات الطرح الديني هي العقيدة والشريعة بما تحملان من طابع معياري تحدده أساساً نظرية التكليف باعتبارها قطب التفكير الديني.
فالطرح القومي يجعل من العقل مبنياً على بحث اللغة من جهة اللفظ والمعنى، أو على الجغرافية من جهة تأثر الانسان بمحيطه الخاص، أو على أساس الجنس من جهة عرقية، أو على التاريخ إن كان له خصوصية فريدة؛ فلا يكون مسبوقاً بتاريخ آخر لقومية أُخرى، ولا يكون مقترناً مع خصوصية منافسة ليست ملحقة ضمن حقل الاعتبارات القومية، كما هو الحال مع خصوصية (المعيار) التي لا تتماهى مع مزية الإطار القومي.
قبلاً كانت هناك العديد من الدراسات التي استهدفت التمييز بين الأنظمة الفكرية أو عقول العالم؛ على أساس العرق والجنس. إذ ظهر العديد من المفكرين الغربيين يحملون نظرية تقسيم شعوب العالم إلى جنسين أُطلق عليهما بالجنسين الآري والسامي. وقد تولّدت فكرة الجنس الآري أساساً من ملاحظة بعض التشابه بين اللغات الهندية واللغات الآرية في أوائل القرن الماضي. ففي عام 0 8 8 1م قارن (شله جل) بين اللغتين السانسكريتية والألمانية فوجد بعض المشابهات في أُصولها واستدل بذلك على وجود قرابة نسلية بين الأقوام الهندية والأقوم الجرمانية، فأوجد بذلك فكرة العرق الهندوجرماني. وهناك من استدل على القرابة حتى بين الأقـوام الهندية وسائر الأقـوام الآرية(4). وتبعاً لـهذا التقسيم جاء الفيلسوف المستشرق ارنست رينان (2 3 8 1م ـ 2 9 8 1م) ليوظف نظرية الجنس في النظام المعرفي والعقلي، بل وأقام التفاضل العرقي بين الجنسين، حيث جعل من الجنس الآري متفوقاً على الجنس السامي. وقد تُوّجت هذه النظرية أخيراً لدى بعض أتباع رينان من المستشرقين، كما هو الحال مع (ليون غوتييه) في أوائل القرن العشرين، حيث ميّز العقل السامي عن العقل الآري، معتبراً أن العقل الأول عاجز عن أن يرى الأشياء مترابطة، فرؤيته تجزيئية إنفصالية ينقصها الانسجام والارتباط، بخلاف ما هو الحال في العقل الآري الذي له القدرة على الربط بين الأشياء والعقد فيما بينها بعقدة الاتصال والانسجام بوسائط تدريجية. لهذا فهو يرى أن الفلسفة اليونانية على خلاف تام مع الدين العربي الإسلامي، فالأُولى ترجع إلى الجنس الآري وهي لهذا قائمة على الوصل والارتباط، بينما يرجع الثاني إلى الجنس السامي، وهو يقوم على الفصل والتجزئة(5).
وقد راجت هذه النظرية لدى عدد من المتغربين العرب، من أمثال أحمد ضيف وأحمد أمين وأمين الخولي وإسماعيل أدهم وسلامة موسى ولويس عوض، كذلك لدى رينان مصر الضرير (طه حسين) كما نعتته بعض الصحف الفرنسية، حيث إنه طبّق التقسيم العرقي على الأدب العربي، وقال في تمييزه بين الأدبين العربي والفرنسي: «الفرق بين الأدب الفرنسي والأدب العربي هو في الواقع فرق ما بين العقل السامي والعقل الآري. فالأدب العربي سطحي يقنع بالظواهر، والأدب الفرنسي عميق دائم التغلغل. وفي الأدب الفرنسي وضوح وتحديد لا وجود لهما في الأدب العربي، والأديب الفرنسي إذا عالج موضوعاً ألمّ بالتفصيلات وهو مع ذلك لا ينسى الكل والمجموع. أما الأدب العربي فيجتزىء، يأخذ وردة من البستان أو لوناً من الوردة ولا يفكر في البستان. فالمزاج العربي هو المزاج السامي الذي لا يحيط بالموضوع أجزائه وكلياته، ولا ينزع إلى التحليل ودرس التفاصيل..»(6).
البيئة وتكوين العقل العربي
تكاد النتائج الرئيسية التي توصل إليها الجابري في اعتبار تفاوت العقول المعرفية وتفاضلها واعتبار العقلية العربية (البيانية) عقلية فصلية تجزيئية؛ تتشابه تماماً مع النظرية العرقية التي نظّر لها رينان وأتباعه. مع هذا فمن الخطأ الفاحش إتهام نظرية الجابري بالعرقية استناداً إلى وحدة النتائج، ذلك أن طرحه لا يتعالى على الحقيقة الإنسانية، فلا يذهب إلى صياغة العقل بالارتداد إلى الجنس كجنس، بل يربط بنية العقل وتكوينه بالجغرافية أساساً، ومن ثم باللغة كجهاز استلام وإرسال يضمر في داخله حقائق البيئة ذاتها. لهذا كانت مفاهيم اللفظ والأعرابي والصحراء والنحو والبلاغة وغيرها هي من أهم المفاهيم الموظّفة في مشروعه للتعرف على كنْه العقل العربي. فالجغرافية هي أهم ما في المشروع من أساس لتحليل تكوين العقل وبنيته، منهجاً ورؤية.
بادىء ذي بدء، يرى الجابري أن أداة المعرفة العربية التي يطلق عليها (العقل العربي) هي نتاج الثقافـة العربية حتى في مظهرها الفاعل(7). فهي عبارة عما خلّفتـه وتخلفـه الثقافـة العربية في الإنسان العربي بعد أن ينسى ما يتعلمه في هذه الثقافة من الآراء والمعتقدات والآيديولوجيات. فما يبقى هو (الثابت)، وما ينسى هو (المتغير).. فما يبقى هو ذات العقل أو الأداة بعد نسيان ما أفرزته من آراء ومذاهب، مستلهماً ذلك من التعريف المشهور للثقافة بأنها عبارة عن «ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء»(8). واستناداً إلى بعض الغربيين اعتقد الجابري أن التعريف العلمي المعاصر للعقل هو عبارة عن «القدرة على القيام بإجراءات حسب مبادىء»، أو هو «لعب حسب قواعد»، مؤكداً أن «العلم لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غير الواقع»، وبالتالي فإن العقل هو جملة قواعد مستخلصة من موضوع ما، أي من الموضوع الذي يتعامل معه الإنسان، فتعدد أنواع المنطق والقواعد العقلية يأتي من تعدد أنماط الحياة الاجتماعية. فمثلاً أن اليونان لم يتعاملوا مع الكون والطبيعة إلا بإسقاط نفس القواعد التي استخلصوها من حياتهم الاجتماعية عليها، وإن أرسطو قد صاغ منطقه المتمثل بمبادئ العقل من اعتبار الخصائص المشاهدة في الأجسام الصلبة، كالحضور والغيابـ (مبدأ الهوية) والترابط والجوار (مبدأ السببية)، لذا كان المنطق الأرسطي ـ كما يقول كونزيت ـ عبارة عن فيزياء اتخذت الجسم الصلب موضوعاً لها، بخلاف ما حصل في الوقت المعاصر من منطق جديد لاختراق الأجسام والوصول إلى عالم الذرة، وإنشاء أنواع جديدة من المبادئ والعلاقات كاللا حتمية التي بشّر بها هايزنبرج وغيرها(9).
إذاً فالتعامل مع الفكر العربي الإسلامي عند الجابري لا يتخلّف عن قاعدة إسقاط البيئة عليه، فهو ليس بأكثر بداهة من المبادئ الضرورية للمعرفة البشرية التي صاغها أرسطو، كمبدأ الهوية والسببية العامة، ومع ذلك فقد جعلها مرتدة إلى بيئة الأجسام الصلبة في الحياة اليونانية. لكن إذا كانت الأجسام الصلبة والحياة الاجتماعية هي التي أدت إلى تكوين العقل اليوناني؛ فإن اقتران الفكر العربي بالصحراء الرملية والحياة البدوية هو الذي أدى إلى تكوين (العقل العربي)، سواء على صعيد المنهج أم الرؤية: «فالفكر العربي.. هو عربي، ليس فقط لكونه تصورات أو آراء ونظريات تعكس الواقع العربي أو تعبّر عنه بشكل من أشكال التعبير، بل أيضاً لأنه نتيجة طريقة أو اسلوب في التفكير ساهمت في تشكيلها جملة معطيات، منها الواقع العربي نفسه بكل مظاهر الخصوصية فيه»(0 1).
لقد صوّر الجابري عملية خضوع (العقل العربي) لسلطان البيئة بأنها تتخذ طابعاً مركباً وقائماً على الحمل والإرسال. فالبيئة العربية عكست صورتها مباشرة على اللغة وعلى العقل العربي بوصفه يمثل ثقافة ساذجة عامية، لكنها من جهة أُخرى أثرت على الثقافة العلمية بصورة غير مباشرة، وذلك عبر اللغة التي سبق لها حمل صورة الواقع العربي بشكل مباشر. وإذا ما كانت عملية التأثير للبيئة العربية تتحكم بكل من الرؤية أو المنهج؛ فإنه في الثقافة العامية التي سبقت الثقافة العلمية كان التحكم أولاً ببناء الرؤية أو المضمون الفكري قبل عملية بناء المنهج ذاته، وفي هذه الحالة كانت الرؤية هي المباشرة في تأسيس المنهج وليس العكس، خلاف ما حصل في الثقافة العلمية، حيث أن الرؤية أصبحت من إفرازات المنهج الاستدلالي ذاته(11).
النشأة العامية والدلالة الصحراوية على عروبة العقل
طبقاً لمشروع (نقد العقل العربي) لو حاولنا التعرف على التكوينات الأولية لـ (العقل العربي) لتطلب الأمر أولاً السفر عبر التاريخ لنشرف على كيفية خضوع الثقافة العامية للبيئة العربية الصحراوية. فـ «إذا نحن فحصنا بيئة الأعرابي الجغرافية والاجتماعية والفكرية من زاوية الاتصال والانفصال، وجدنا الانفصال يطبع جل معطياتها: فالطبيعة رملية، والرمل حبّات منفصلة مستقلة، مثلها مثل الحصى والأحجار والطوب المؤلف منها.. كل الأجسام في الصحراء وحدات مستقلة والعلاقات التي قد تربطها هي علاقات المجاورة لا التداخل، وهذا يصدق على النبات والحيوان أيضاً.. وتلك أيضاً حال الإنسان فيها، فهو فرد، وحدة ضائعة في أرض شاسعة.. والمباني غير موجودة، وإنما خيام منفصلة متمايزة ومتنقلة. أما القبيلة فهي مجموعة من الأفراد المتفردين، مجموعة من أجزاء لا تتجزأ، تجمعهم علاقة خفيّة، علاقة الدم التي تضيع مع مرور الأيام لتحلّ محلها علاقة الجوار، وهي في كلتا الحالتين علاقة قرابة، والقرابة ليست اتصالا، وإنما هي تخفيف من الانفصال وتقليص من مداه، وسواء تعلق الأمر بالعشيرة أو القبيلة أو الحي، فالفرد دوماً (جوهر فرد)، وحدة مستقلة في إطار من التبعية.. وبالجملة فالعلاقات في مجتمع رعوي هي علاقات انفصال. أما الاتصال فهو من خصائص مجتمع المدينة ومن مميزات البيئة البحرية، إن الاتصال هو من خصائص أمواج البحر وليس من خصائص قطرات الغيث في الصحراء ومثل كائنات أرض الصحراء كائنات سمائها: السماء صافية كالمرآة، ونجومها في الليل نقط بل ذرات، بعضها متناثر كالحصى وبعضها متقارب كحبّات الرمل (المجرات) ولكن لكل منها كيانه الخاص، هو إشعاعه وحجمه وحركته وموقعه»(2 1).
ثم إن هذه الرؤية الانفصالية تجد طريقها في اعتبار المكان والزمان على أن كلاً منهما يحمل الطابع الانفصالي أيضاً. كما وإنها تجد طريقها نحو مبدأ التجويز الذي ينفي وجود علاقات سببية ضرورية بين الأشياء. إذ «إن البيئة الصحراوية بيئة تسود فيها الرتابة فعلاً ولكنها رتابة تقطعها تغيرات مفاجئة. هناك من جهة عادة مستقرة وهناك من جهة أُخرى خرق لهذه العادة بين حين وآخر. وهناك اطراد فيما يخص الحر وشظف العيش وقساوة الطبيعة.. الخ، ولكن هناك أيضاً رياح وأمطار غير دورية ولا منتظمة، وهناك الرمال التي تصل جاثمة حتى تبدو كأنها خالدة في مكانها، ولكن هناك أيضاً كثبان ترحل فتصبح أثراً بعد عين بين عشية وضحاها، وهناك الرياح والزوابع التي تهب من غير توقع. نعم هناك النجوم الثابتة التي يهتدي بها المسافر ليلاً فلا يضل سبيله، ولكن لا أحد يمكن أن يجزم، لا المسافر ولا غيره، بأنه سيصل وقت كذا.. وإذن فالمبدأ الذي يؤسس وعي سكان هذه البيئة لن يكون السببية ولا الحتمية بل سيكون: الجواز، كل شيء جائز. الاطراد قائم فعلاً، ولكن التغير المفاجىء الخارق للعادة ممكن في كل لحظة»(3 1).
على أن تلك الرؤية التي تشكّل بنية العقل لدى أعراب الصحراء والتي تؤسسها البيئة العربية ذاتها هي نفسها تعتبر علة مباشرة لقيام المنهج الاستدلالي عند أُولئك الأعراب. فالرؤية هي التي تؤسس المنهج حين تكون الثقافة عامية كثقافة أعراب الصحراء. وطبيعة هذا المنهج طبقاً لتلك الرؤية الانفصالية التجويزية هي طبيعة المقاربة والتشبيه في الاستدلال.
وتظهر هذه الآلية من إنتاج المعرفة على مستوى الشعر (ديوان العرب) وعلى مستوى معارف العرب وعلومهم، إذ يحكمها «فعل عقلي واحد هو المقاربة». وكلاهما مترابطان «فالرؤية القائمة على الانفصال وعدم الاقتران الضروري تجعل الجهد العقلي محصوراً في المقاربة بين الأشياء بعضها مع بعض لا يتعداها»(4 1) . بذلك سعى مشروع (نقد العقل العربي) لـيبرهن على أن بنية هذا العقل حاضرة في الشعر وعلوم عرب الجاهلية. فالشعر قائم على التشبيه والانفصال معاً، إذ المطلع على القصائد العربية يجد كل قصيدة قائمة على الانفصال، أي استقلال كل بيت بنفسه، وبناء البيت الواحد على تشبيه أو ما يؤول إليه، فتصبح الصورة التي تقدمها القصيدة العربية عبارة عن مشاهد منفصلة متتالية كل مشهد منها يُنسي الآخر أو يلغيه، وغالباً ما تكون المشاهد حسية، فالتشبيه يستهدف الانتقال بالمخاطب من المعقول إلى المحسوس(5 1). كما أن العلوم القائمة على الأثر والأمارة كلها تستند إلى آلية ذهنية واحدة هي المقاربة، تؤسسها الرؤية المتمثلة بالتجويز أو عدم السببية الضرورية، كما هو الحال مع النجامة والقيافة والفراسة والعيافة والكهانة والعرافة. فجميع هذه العلوم تستدل بالأثر على المؤثر، أو بالأمارة كعلامة على الشيء، استدلالاً ظنياً تخمينياً لا يقوم على يقين العلاقة التي تربط بين الأشياء كعلة ومعلول(6 1).
النشأة العلمية والدلالة اللغوية على عروبة العقل
إذا كان ما قدّمنا إنما يدور في الثقافة العامية حيث تأثير المحيط المباشر وتكوينه لبنية (العقل العربي) لا شعوراً، على صعيد كل من الرؤية والمنهج؛ فإن تأثير هذا المحيط على الثقافة العلمية لم يكن مباشراً، بل كان من خلال اللغة التي حملت صورة العالم العربي الصحراوي، باعتبارها المتأثر المباشر بالبيئة الجغرافية للعرب. لذلك قدّم الجابري عدة معطيات تبرر حق الأولوية للغة العربية في دراسة مكونات (العقل العربي)، كان أهمها ما للغة من دور في حمل صورة الواقع وعكسه على (العقل العربي) ذاته. وهو يشير إلى تلك المبررات؛ معتبراً أن الإنسان العربي «يحب لغته إلى درجة التقديس، وهو يعتبر سلطتها عليه تعبيراً ليس فقط عن قوتها، بل عن قوته هو أيضاً، فهو الوحيد الذي يستطيع الاستجابة لهذه اللغة والارتفاع إلى مستوى التعبير البياني الرفيع الذي تتميز به.. فالعربي (حيوان فصيح). فبالفصاحة وليس بمجرد العقل تتحد ماهيته». ومن هذه المبررات أن الدين الإسلامي بقي عربياً دون الاستغناء عن العربية، فلا يمكن نقل القرآن إلى لغة أُخرى دون المساس به. فالعربية جزء ماهية القرآن، كما يقول علماء أُصول الفقه. كذلك فإن هناك دوراً بالغ الأهمية للغة في الدراسات الإسلامية، حيث أن الكثير من الخلافات تنشأ عن الاعتبارات اللغوية. يضاف إلى أن الخلافات السياسية والمذهبية قد شدّدت من استغلال مطاوعة اللغة لصالحها.
يبقى أن أهم مبرر لدراسة اللغة لدى مشروع الجابري هو مساهمتها الأساسية في تحديد نظرة الإنسان إلى الكون، خصوصاً إن اللغة العربية ربما تكون الوحيدة في العالم التي ظلت دون أن تتغير منذ أربعة عشر قرناً، فلها على ذلك أثر عظيم على (العقل العربي) ونظرته للأشياء، وخصوصاً ـ أيضاً ـ إن أول عمل علمي منظّم مارسه (العقل العربي) هو جمع اللغة العربية ووضع قواعد لها، فمن المنتظر أن يكون هذا العمل نموذجاً لسائر الأعمال الأُخرى لسائر العلوم. فالمنهجية التي اتبعها اللغويون والنحاة الأوائل وكذلك المفاهيم التي استعملوها والآليات الذهنية التي اعتمدوها هي أصل لما اعتمده مؤسسو العلوم الإسلامية. وعليه فإن اللغة العربية هي «محدد أساسي ولربما حاسم للعقل العربي بنية ونشاطاً»(7 1).
من هنا نفهم أن المشروع الآنف الذكر هو محاولة جريئة لأن يجعل من الفكر العربي الإسلامي فكراً محدداً باللغة العربية البدوية الصحراوية، مؤيداً ذلك بما كان العلماء يحكّمون فيه آراءهم بالرجوع إلى الأعراب في البوادي، إخلاصا للمحافظة على أصالة اللغة من اللحن والعجمة، حتى أصبح «السماع من الأعرابي قد رسم حدود العالم الذي تنقله اللغة العربية الفصحى لأهلها»(8 1)، ذلك أن الأعرابي قد عكس البيئة الصحراوية البدوية على بنية العقل والثقافة العلمية. فالأعرابي هو صانع العالم العربي: «العالم الذي يعيشه العرب على مستوى الكلمة والعبارة والتصور والخيال، بل على مستوى العقل والقيم والوجدان»(9 1). وبقدر ما يكون عالم الأعرابي ناقصاً فقيراً ضحلاً جافاً حسياً لا تاريخي بقدر ما يعكس أن يكون (العقل العربي) الذي خضعت بنيته تحت سلطة الأعرابي متصفاً بتلك المواصفات.
هكذا إن دراسة (العقل العربي) إنما هي دراسة اللغة العربية، باعتبارها الأساس للتكوين والبناء، سواء من حيث اعتماد اللغويين على أعراب البادية في جمع الكلمات الفصحى، أو من حيث التقنين النحوي واللغوي، إذ العلماء قننوا الكلام وقعّدوه ضمن قوالب مطلقة ونهائية، أو من حيث البلاغة التي تعطي للعلوم العربية الإسلامية طابعها الاستدلالي.
فأهم ما في المشروع هو محاولته تكوين جسر يجعل من نظرة الأعرابي الساذجة وطريقته في التقريب والتشبيه تمتد إلى النظرة العلمية داخل الفكر العربي الإسلامي، وذلك عبر عملية استضمارية، يكون فيها العلماء قد استضمروا قوانين الخطاب الجاهلي والإسلامي كما يستضمر علماء الطبيعة قوانينها، أو كما يستضمر الفرد قوانين محيطه الاجتماعي(0 2). ذلك أن العلماء المسلمين قد أخذوا عن عرب الجاهلية ـ لا شعوراً ـ المبادئ الثلاثة الأساسية (الانفصال والتجويز والمقاربة)(1 2)، الأمر الذي يعنـي أنهم قد استلهموا مـنهم كـلاً مـن الرؤية والمنهج.
فعلى صعيد الرؤية إن نظرية (الجوهر الفرد) القائمة على اعتبار وجود جواهر متجاورة؛ هي التي تحدد الرؤية البيانية المتمثلة بالانفصال والتجويز(2 2)، حيث إن هذا التجاور يجعل من الأشياء منفصلة غير متصلة، فتكون بذلك خارجة عن أن يتحكم بها قانون التأثير والسببية الضرورية، بل تخضع إلى قانون آخر يقع على نقيضه، وهو (التجويز). وهذه الرؤية لم تكن مفصولة عن الرؤية العامية السائدة لدى أعراب الصحراء. فالجابري يعتبر أن ما أوقع علماء الكلام في تلك الرؤية هو رجوعهم كغيرهم من أصحاب البيان إلى المعاجم اللغوية التي تظهر فيها بصمات حياة الأعرابي وبيئته البدوية. لذلك فقد استشهد بما كان يفعله علماء الكلام من الاستعانة بتلك المعاجم لتحديد المعاني اللغوية للموضوعات الكلامية التي يريدون تحريرها، ثم بعد ذلك يقومون بعملية التأسيس النظري لهذه الموضوعات، مما يجعلها حاملة لبصمات لغة الأعرابي وحياته، كما هو الحال مع المفاهيم النظرية لكل من المـكان والزمـان والسببية وغيرها(3 2). إذ البيانيون ينطـلقـون دائـماً في تـحديد مـفاهيمهم ومصطلحاتهم من السلطة المرجعية الأُولى في حقلهم المعرفي (اللغة)(4 2).
أما من حيث المنهج فإن المحاولة البديعة التي شيّدها مشروع (نقد العقل العربي) إيفاءً بعروبة هذا العقل هو أنه جعل من أحد فروع اللغة والأدب العربي أساساً منهجياً للاستدلال، لا فقط في حدود الجانب اللغوي فحسب، بل حتى في سائر العلوم العربية والإسلامية كالفقه والكلام. لقد كان هذا العلم هو علم البيان، وهو من علوم البلاغة الثلاثة (علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع)، حيث كشف المشروع عن أن سائر العلوم العربية والإسلامية كلها فروع لعلم البيان، أو أنها على الأقل ذات موضوع واحد هو (البيان)، لذا أطلق على النظام الذي يعالج العلوم العربية الإسلامية بالنظام البياني لمبررات عديدة، فالأمر لا يتوقف على ما في اللغة من خاصية البيان والتبيان، حتى يصبح موضوع (العقل العربي) الأساسي هو البيان ذاته، كما انه لا يتوقف على ما تحمله لفظة (البيان) وما تنقله من صورة مصغرة عن العالم الذي تنتمي إليه، ولا على ما تدل عليه اللفظة لغوياً من معنى الانفصال، حيث مصدرها (بيْن) التي لها دلالة الفرق والانفصال، بل ولا كذلك اعتبار مختلف العلوم العربية والإسلامية فروعاً لهذا المفهوم كما عبّر الشافعي في رسالته للأُصول، بل الأهم من كل ذلك هو أن البيان عبارة عن منهج استدلالي بلاغي أكسب قيمته العالم البلاغي السكاكي بعد نفاد العلوم العربية الإسلامية ووصولها إلى المدى الأقصى. ذلك أن السكاكي قد جعل كتابه معنوناً (مفتاح العلوم) وليس (مفاتيح العلوم)، إذ أراد بذلك ـ كما استكشف المشروع ـ أن يجعل الأدب العربي هو الذي يمتلك صورة الاستدلال كأساس لسائر العلوم الإسلامية، خاصة وإنه قد عالج موضوعي الحد والاستدلال المنطقيين جنباً إلى جنب سائر علوم الأدب الأُخرى، الأمر الذي جعل الجابري لا يدشّن نظرية ثرية جديدة خاصة بتاريخ البلاغة العربية فحسب(5 2)، بل ويكشف في الوقت نفسه عن أن أساس العلوم العربية الإسلامية هو أساس واحد يعبّر عن المنطق الداخلي لتلك العلوم. حيث أن الصورة البيانية والبلاغية هي إما على هيئة تشبيه أو استعارة أو كناية أو تمثيل، وكلها ترجع إلى أصل واحد هو التشبيه، والتشبيه عبارة عن قياس، والمجاز هو ضرب من القياس في حمل الشيء على ما يناسبه ويشاكله.
هكذا فإن جوهر البلاغة هو التشبيه، وأن التشبيه عبارة عن قياس (لمثال سبق)، ففي البلاغة إن المثال متمثل بمعنى لشعر شاعر قديم، وحاله كحال القياس النحوي والفقهي، إذ المثال الذي يقاس عليه فيهما هو النص، ففي النحو يكون النص عبارة عن كلام عرب البادية، وفي الفقه يكون النص عبارة عن الكتاب والسنة(6 2). كما إن حال القياس الكلامي في الاستدلال بالشاهد على الغائب لا يختلف عن حال التشبيه أو المقاربة أو القياس.
وبذلك يصبح منهج القياس والمقاربة البلاغية هو الذي يؤسس الرؤية التي تكرس مبدأ الانفصال والتجويز للعالم في الثقافة العلمية، على عكس ما كانت تقيمه هذه الرؤية من تأسيس لمنهج القياس في الثقافة العامية الأعرابية. كما إنه من الناحية التاريخية أن القياس عبارة عن تشبيه، على عكس ناحية المنهج المنطقي التي بيّنتها الثقافة العلمية من أن التشبيه عبارة عن قياس(7 2).
اختلال المشروع وتناقضه هكذا إن اختيار تسمية الفكر العربي الإسلامي بـ (العقل العربي) هو اختيار معرفي استراتيجي دون أدنى شك، فهناك مبررات عديدة تجعل من تلك التسمية لائقة ومتفقة مع طبيعة البحث. فهو مكرس للكشف عن أثر اللغة والمحيط على تكوين العقل وتأسيس بنيته وآلياته الاستدلالية، فكيف لا يكون عربياً؟!
لكن تظل هذه التسمية تسمية اكسيمية. بمعنى أن التعامل مع مشروع (نقد العقل العربي) هو تعامل قائم على اعتبار النظام الكلي من ذاته وداخله، لا بفرض الاعتبارات الخارجية غير المتفقة معه. وبالتالي فإن إطلاق عبارة (العقل العربي) تتوقف على الاعتقاد بصدق هذه المنظومة، أما مع عدم التسليم بصدقها فإن تلك العبارة تصبح فاقدة لشرطها المقوم.
إن الاختيار الآخر الذي يقف أمام عبارة (العقل العربي) هو (العقل الإسلامي)، إذ فيها يكون الطرح الاكسيمي للمنظومة الفكرية مبنياً على الاعتبارات المعيارية التي تتفق مع الروح الدينية. فبقدر ما تكون أكسمة هذه المنظومة دقيقة؛ بقدر ما تحافظ على معياريتها، مثلما هو الحال مع منظومة (العقل العربي). فرغم أن مشروع (نقد العقل العربي) يعترف بوجود النظرة المعيارية العامة التي تحكم العقل العربي وتوجّهه(8 2)؛ لكنه مع ذلك يحاول الحفاظ على نظامه الكلي عن طريق تغييب العقل المعياري بادغام تلك النظرة وإهمالها، حتى وإن كان يراها مفرزة من مفرزات الجغرافية العربية. فطريقته التي رسم فيها تشكيلة بنية العقل بصورتها اللا شعورية في الثقافة العامية وبصورتها الواعية في الثقافة العلمية؛ لا تضع مجالاً لافتراض وجود بُعد معياري في التأسيس والتأثير. لذلك فهو لم يشأ أن يجعل الطابع المعياري لمفهوم (العقل) كما تمّ تحديده من قِبل العلماء والعرب عبر المعاجم اللغوية؛ ينجرّ على فهمنا لـ (العقل العربي) ذاته. فالجابري صريح في التمييز بين العقل كمفهوم ذي طابع معياري عـند العـرب، وبين (العقل العربي) نـفسه(9 2). ومع ذلـك فالأمـر لا يعني براءة هـذا الأخير من ذاك، بل اختزاله وتذويبه.
ومع هذا فالملاحظ إن مشروع (نقد العقل العربي) لم يحافظ على توازن نظامه الاكسيمي. إذ كان يعاني من التناقض الذاتي إلى الدرجة التي يمحي فيها خصوصية (العقل العربي) ذاته. فإضفاء طابع (العروبة) على العقل يعود أساساً إلى اعتبارات اللغة والبيئة العربية، وهي بالفعل متحققة تماماً في المشروع، حيث نجد الحرص الكامل لإعطائها الدور الحاسم في عملية إرساء بنية (العقل العربي) وتكوينه. إذ ظل عاملا اللغة والبيئة يواكبان مسيرة هذا العقل في نشأته وتطوره والنتائج المترتبة عليه. مع ذلك فالمشروع يضيق عن الاعتراف بأن هذا العقل هو (العقل العربي) بكليته، فهو يضعه كنظام منفصل وسط ثلاثة أنظمة متضاربة، كلها داخلة فيما يطلق عليه (العقل العربي)، وهي النظام البرهاني الفلسفي والنظام العرفاني الصوفي، مضافاً إلى النظام البياني الذي يستقل بالدلالة اللغوية المتسقة مع تنظير المشروع للغة العربية واعتبارها أساس (العقل العربي).
فمن مبررات إضفاء طابع (العروبة) على تسمية العقل؛ هو أن اللغة العربية كانت ومازالت المرجع المعرفي الأول لكل مفكر بياني، إذ اللغة هي السلطة المرجعية الأُولى والأخيرة للـنظام البياني(0 3). فتسمية النظام الذي يقوم على اللغة العربية بالنظام البياني هي تسمية في محلها. وأهم ما في هذه التسمية من دلالة هو ما وصل إليه السكاكي البلاغي من تشييد لطبيعة الاستدلال في العلوم الأدبية ـ خاصة علم البيان ـ واعتبارها أساساً لسائر العلوم الأُخرى، كالفقه والكلام وغيرهما، حيث يصبح الاستدلال قائماً منهجياً على اللغة ذاتها، من حيث إنها نحو وأدب وبيان. يضاف إلى ذلك ما للبيان من دلالة على الانفصال كما تشير إليه المعاجم اللغوية مما ينسجم تماماً مع نظرية الانفصال التي تكرسها الرؤية العلمية لعلم الكلام، ناهيك عن رؤية الأعرابي وعرب الجاهلية للعالم الخارجي. فبقدر ما كان هذا النموذج يتسق مع خصوصية (العروبة) و (العقل العربي)، إذ مردّه إلى اللغة والبيئة؛ بقدر ما كان النظامان الآخران على خلاف معهما. فهما من حيث المصدر يقعان خارج نطاق دائرة البيئة العربية، ولا علاقة لهما بلغتها، وهو ما يؤكده الجابري بنفسه إذ يقول: «.. على الرغم من الأهمية الكبرى التي نوليها لدور اللغة العربية في تشكيل الفكر العربي وتوجيه آلياته فإننا لا نعتبرها العنصر الوحيد المؤسس له. إننا ننظر إلى (العقل العربي) بوصفه نتاج الثقافة العربية الإسلامية التي تأسست على نظم معرفية ثلاثة: نظام معرفي لغوي عربي الأصل، ونظام معرفي غنوصي فارسي هرمسي الأصل، ونظام معرفي عقلانـي يونانـي الأصـل…»(1 3). علـى ذلـك اعتـبر أن شعـراء الجاهـلية والصحـابة والكلاميين والفلاسفة والعرفاء الإسلاميين والمحدثين المعاصرين وغيرهم من العرب؛ كلهم يقفون على خشبة مسرح واحد هو مسرح الثقافة العربية(2 3).
وهنا نسأل: ما هو المبرر الذي جعل مشروع (نقد العقل العربي) يضم نظامي البرهان والعرفان مع النظام البياني في بنية واحدة، رغم ما في هذه النظم من تناقض يجعل من (العقل العربي) متناقضاً في حد ذاته؟ فالنظام البياني بما هو نظام نحوي لغوي بلاغي يناقض النظام البرهاني العقلي، وقد أظهر الجابري انفجار هذا التناقض في مناظرة السيرافي النحوي مع متى المنطقي، مبيّناً أن هناك تناقضاً تاماً بين نظام النحو العربي ونظام المنطق الأرسطي. كما ان هناك تناقضاً بين النظام العرفاني القائم على (اللا معقول) وبين النظامين البرهاني والبياني. فما مبرر جعل (العقل العربي) يتناقض إلى هذا الحد؟
لا يخفى إن الجابري قد قام بتقديم بعض المبررات التي تجعل من النظامين الآنفي الذكر داخلين ضمن بنية (العقل العربي). فهو يرى أن الموروث القديم للعرفان والفلسفة ليس دخيلاً ولا أجنبياً على تاريخنا القومي، إذ كانت مواطنه عربية لمدة عشرة قرون قبل عصر التدوين، في الإسكندرية وأنطاكية وأفامية وحران والرها ونصيبين ثم في بغداد، بل ومن قبلها جميعاً في بابل ومصر واليمن، «والأهم من ذلك كله هو أن ذلك الموروث القديم قد دخل كجزء لا يتجزأ في الثقافة العربية الإسلامية التي تشكل أهم عنصر في الشخصية العربية الإسلامية منذ أن أخذت تعي ذاتها في عصر التدوين ذاته». ومع هذا فإن الجابري يستدرك ويقرر: «نعم لقد اعتبر الموروث القديم علوماً دخيلة في عصر التدوين نفسه، وهذا صحيح، ولكن بمعنى أنه داخل الدائرة العربية البيانية وضايقها..»(3 3).
والواقع إن هذا التبرير لا يخفي التناقض الذي يطال (العقل العربي). فالجابري يعي أن نماذج الفكر العربي الإسلامي هي نماذج متعارضة لا يجمعها جامع، لا من حيث الطريقة ولا الرؤية. وهذا التعارض يعني بالنتيجة تناقض (العقل العربي) ذاته، حيث يصبح الحال أن هناك عقولاً ثلاثة متخالفة فكيف يمكن ضمّها في عقل واحد؟!
لا شك إن هذا التناقض غير غائب على مشروع (نقد العقل العربي)، لذلك فهو يسعى أحياناً للتخفيف من حدّته عبر تحديده للعلاقة بين الفلاسفة الإسلاميين والثقافة العربية، حيث جعل من هؤلاء الفلاسفة يقرأون الثقافة اليونانية بواسطة الثقافة العربية. وهو يضع قاعدة (عرفية) تتحدد بموجبها (الجنسية الثقافية) لكل مفكر، من حيث إن التفكير داخل ثقافة معينة لا يعني التفكير في قضاياها، بل التفكير بواسطتها، لذا اعتبر «الفارابي مثلاً الذي فكّر في قضايا الثقافة اليونانية هو مفكر عربي لأنه فكّر فيها بواسطة الثقافة العربية ومن خلالها». وفي نفس الوقت إن «التفكير بواسطة ثقافة ما، معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكل إحداثيّاتها الأساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل، بل والنظرة إلى العالم، إلى الكون والإنسان كما تحددها مكونات تلك الثقافة»(4 3).
والواقع إن المشروع حاول أن يعكس علاقة الفلاسفة والمتصوفة الإسلاميين بالثقافة العربية الإسلامية كي يجد مجالاً لحشرهم ضمن بنية (العقل العربي) ولو أفضى ذلك إلى التناقض. فهو يجعل الفلاسفة الإسلاميين وكأنهم يفكرون في قضايا يونانية بواسطة الثقافة العربية، مع أن العكس هو الصحيح، إذ إنهم يفكرون في قضايا يونانية وإسلامية بواسطة الثقافة اليونانية ذاتها، وبواسطة (العقل اليوناني)، فهو الأساس، وإلا فكيف يعترف المشروع أن أساس ما يقوم عليه الفلاسفة الإسلاميون هو البرهان والعقل الكوني الذي هو أداة (العقل اليوناني) كما نظّمه أرسطو تأثراً ببيئته وظروفه الخاصة؟!
وكما حاول المشروع أن يعكس العلاقة في طبيعة ارتباط الفلاسفة الإسلاميين بالثقافة العربية واليونانية، لهدف ضم النظام البرهاني ضمن (العقل العربي) فإنه حاول بنفس هذا الاتجاه والهدف ليجعل من تاريخ العلوم الدخيلة المتمثلة أساساً بالنظامين البرهاني والعرفاني؛ تاريخاً قومياً مديداً، رغم أن هناك فرقاً بين اعتبار امتداد التاريخ العربي للعلوم الدخيلة وبين العلوم العربية ذاتها، إذ بقدر ما كانت نشأة العلوم العربية من نفس الوسط العربي، فإن العلوم الدخيلة كانت مكتسبة بالأساس من وسط آخر، سيما الوسط اليوناني الذي ولدت فيه الفلسفة بما تعبّر عن تنظير علمي للوجود والواقع، ثم بعد ذلك جاء العرفان كرد فعل على العقل الفلسفي.
ومع ذلك لو جارينا المشروع وقبلنا معه أن الفلاسفة الإسلاميين يقيمون ثقافتهم أساساً على الثقافة العربية، ولو قبلنا معه ـ أيضاً ـ أن تاريخ الفلسفة والعرفان عريق ومديد عند العرب منذ القدم، مما يبرر أن تكون مثل هذه الأنظمة داخلة ضمن النظام العربي.. لكن ماذا سيبقى بعدُ من خصوصية لـ (العقل العربي)؟! فهذا التصور يجعل من (العقل العربي) في حد ذاته غير عربي، أي أنه (عقل عالمي)، فليس هناك فرق بين ما هو عربي وما هو غير عربي، إذ جميع العقول الأساسية في العالم تصبح عبارة عما نطلق عليه (العقل العربي)، الأمر الذي يجعل من هذا الإثبات علامة نفي معاكسة لخصوصية العروبة للعقل.
لقد كان من المحتّم على مشروع (نقد العقل العربي) أن يقع في التناقض بنفي الخصوصية الذاتية لعروبة العقل التي كرّس ذات المشروع لإيجاد المجال الواسع لإثباتها وترسيخها، ولم يكن ذلك إلا لتهاون المشروع في تعامله غير العادل مع الأنظمة المعرفية الثلاثة التي تمثل عقولاً معرفية تختلف فيما بينها تبعاً للنظرة الاكسيمية داخل نفس المشروع وليس خارجه.
على أنه من حقنا التساؤل: لماذا وقع المشروع في عملية إفناء ذاته؟ فكما علمنا فهو قد حاول أن يثبت عروبة العقل عن طريق نفيه بنفي الخصوصية الذاتية، مما يعني أن ذات المشروع قائم على نفي ذاته، فهل كان الجابري غافلاً عن هذه الحقيقة المترتبة على مشروعه ككل؟ خصوصاً وإنه يحصر عقول العالم ـ بما تعبّر عن تنظير علمي ـ في ثلاثة هي العقل اليوناني والعقل العربي والعقل الغربي الحديث؛ معتبراً وجود الثبات والاتفاق بين العقلين اليوناني والغربي الحديث، مما يجعلهما في بنية عقلية واحدة، حيث أنهما يقومان على نقطة معرفية مركزية هي المطابقة بين العقل والطبيعة، وأن العقل يكتشف نفسه في الطبيعة ومن خلال التعامل معها(5 3) .
فإذا صحّ ما يقوله الجابري بأن (العقل العربي) يختلف عن العقلين الآنفي الذكر؛ بتمحور علاقاته حول ثلاثة أقطاب، إذ هناك قطبـ (الله) المضاف إلى قطبي (الإنسان والطبيعـة) الذين يتعامل معهما مـفكرو اليونـان والغـرب الحـديث(6 3).. فهـل كـان الفـلاسفـة الإسلاميون يختلفون في تعاملهم مع هذه الأقطاب عن اليونان والغرب الحديث؟
الواقع إنه لم تكن هذه التسوية التي اصطنعها الجابري سليمة. فمن جهة إن الفلاسفة الإسلاميين يقومون على ذات العقل الذي يقوم عليه الفكر اليوناني، ويفكرون من خلال نفس المنظار، وإن أضافوا بعض الإشكاليات النظرية التي لم يسبق لليونانيين أن فكروا فيها وعالجوها، بحكم بعض العوامل والتي منها الظرف الإسلامي الذي عاشوا في كنفه. ومع ذلك فإن هذه الإشكاليات خضعت بدورها لنفس التفكير والنهج والأساس، كما هو الحال مع إشكاليات (العقل والنص، والعقل والوحي، والعقل والكشف، والوجود والماهية.. الخ).
من جهة أُخرى هناك فارق أساسي بين العقلية اليونانية والعقلية الغربية الحديثة، لا فقط في حدود الإشكالية التي يبحثان فيها، إذ الإشكالية اليوناية هي إشكالية العقل والوجود عامة، والإشكالية الغربية الحديثة هي إشكالية العقل والطبيعة بالخصوص.. بل كذلك إنهما يختلفان أساساً حول سير المعرفة وطريقتها ونوع العلاقة التي تربط بين العقل والطبيعة. فالتفكير اليوناني يجعل من العقل أساساً في التفكير، وهو يصدر عن رؤية فوقية تؤسس نسغاً نزولياً تبعاً لطريقة البرهان القياسية. أما التفكير الغربي فهو في الغالب على العكس، إذ يجعل من التجربة الطبيعية أساساً لتفكيره، ويصدر عن رؤية دونية تؤسس نسغاً صعودياًًً تبعاً لطريقة العلم الاستقرائي(7 3). وهو في ذلك لا يجعل من (الله) قطباً مضافاً إلى قطبي العقل والطبيعة أو الإنسان والطبيعة، بخلاف ما هو الحال في التفكير اليوناني، إذ إن محور العقل مستمد بكليته من قطبـ (الله) باعتباره يمثل العقل الكلي كله، والذي عليه تتدرج قابليات سائر العقول المتنزلة عنه بما في ذلك العقل البشري أو الإنسان.
وعلى العموم يخطئ الجابري حين يتصور وجود مماثلة بين الحضارتين اليونانية والغربية تتمثل في كون العقل الغربي يتبنى كنظيره اليوناني الاعتقاد بمطابقة العقل لقوانين الطبيعة، مستشهداً على ذلك بديكارت وغاليلو والعلم المعاصر عن الذرة والفضاء، بل وبما فهمه (العلم المعاصر) عن العقل بأنه جملة من القواعد المستخلصة من موضوع ما، مما يعني ضمـنياً المطـابقة بينه وبين قـواعد المـوضوع(8 3). فـإذا صدق هـذا التصور ـ نسبياً ـ على عصور ما قبل القرن العشرين ابتداء من النهضة فعصر التنوير ثم الحداثة؛ فإنه لا يصدق أبداً مع عصر ما بعد الحداثة. فقد كاد يصبح من المسلم به أن قوانين الطبيعة الأساسية عبارة عن صياغات عقلية مفترضة لا تعبر بالضرورة عن مطابقتها للطبيعة. فعلى الأقل فيما يتعلق بالنظريات ذات التعميم العالي والنظريات التي تتناول الظواهر البعيدة عن مجال الخبرة والتجربة الحاسمة؛ تقرر أن من المستحيل إثباتها على وجه اليقين. فما من نظرية من تلك النظريات إلا وتعبر عن بعض الافتراضات التي تُعزز بالشواهد والتجارب، لكن دون أن تصل إلى مرحلة الحسم. لهذا فقد تتنافس أكثر من نظرية على تفسير ظاهرة ما، وفي هذه الحالة يميل العلم المعاصر إلى الأخذ بالنظرية التي يتوفر فـيها عنصر البساطـة والاقـتصاد والجمـال بشكـل أعـظـم(9 3)، فضلاً عـن التـعزيز بالمشاهدات والتجارب.
وعليه لا يمكن تصور أن ما عرف عن الذرة وعن الفضاء يطابق بالضرورة الواقع كلياً، فمازالت هناك فروض وتقديرات تزداد بقدر ما كانت الظاهرة بعيدة أكثر عن مجال الخبرة المباشرة. فضلاً عن أن العلم المعاصر يؤمن بأن معرفة الموضوع الخارجي كـ (شيء في ذاته) أصبح من المستحيلات مثلما كان يراه (عمانوئيل كانت)، ذلك أن تأثر الموضوع بوسائل المعرفة المسلطة عليه كالأشعة مثلاً يجعل من المستحيل على العقل البشري أن يطابق ما هو عليه الموضوع الخارجي، وهو بهذا الفهم لا يكون مؤيداً للنظرية الهيجلية التي تركز على الصيرورة التاريخية في تحقيق المطابقة بين العقل ونظام الطبيعة كـما يوهـم الجابري(0 4). أما تعـريف العقـل ـ الآنـف الذكـر ـ فـإنه لا يطابق واقـع الافتراضات العقلية البعيدة عن مجال الخبرة المباشرة، ذلك أنها ليست مستخلصة من الموضوع الخارجي ذاته. لكنّا مع ذلك نرى أن هناك مماثلة بين الحضارتين (اليونانية والغربية) من نوع آخر سبق أن فصلنا الحديث عنها في كتاب (مدخل إلى فهم الإسلام)(1 4).
مهما يكن فلو تسامحنا بعض الشيء إزاء ما فعله الجابري في ضمّه للعقلين اليوناني والغربي في بنية واحدة، وذلك باعتبارهما متوجهين نحو إشكالية مشتركة هي إشكالية الطبيعة أو العالم الخارجي بالرغم من الاختلاف بينهما في حدود هذه الإشكالية.. إلا أننا لا نجد عذراً بشأن الخطأ الخاص بضمّه للعقول الثلاثة (البياني والعرفاني والبرهاني) ضمن بنية عقلية واحدة هي (العقل العربي)، مع ادراكه أن العقل البرهاني هو العقل اليوناني ذاته، فكيف يُضم تحت طاولة (العقل العربي)؟ ومن أين نجد الفارق بينه وبين بقية العقول، كالعقل الغربي، إذا ما كان هذا الأخير متحداً مع العقل اليوناني؟ فالنتيجة تصبح أن (العقل العربي) هو ذاته متحد مع العقلين معاً.
الدافع الأيديولوجي للمشروع
لا شك أن هناك دافعاً هاماً يقف خلف مشروع الجابري ككل. فلقد سبق أن ذكر ـ وكما عرفنا ـ أن إضفاء وسام (العروبة) على مشروعه في العقل، أو العقل في العروبة؛ كان لبعض الدواعي، وليس المهم فيما ذكره من هذه الدواعي، بل الأهم هو ما سكت عنه بالذات، حيث هناك الدافع الآيديولوجي كهدف واضح في المشروع. إذ المشروع يهدف إلى نهضة، وهذه النهضة تريد أن تتكىء على نموذج صالح للانطلاق منبعث من نفس التاريخ العربي، ولما كان النظام البياني لا يفي بهذا الشرط من الصلاحية، وأن ما يراه المشروع كنموذج صالح للنهضة إنما هو الاعتماد على طريقة البرهان (العقلانية)؛ لذا فمن غير المعقول أن يكون المشروع يهدف إلى نهضة عربية من خلال عقل غير عربي، في الوقت الذي يطرد النموذج العربي البياني الأصيل. وعليه كان من الضروري أن يجعل من النموذج اليوناني عربياً حتى يتسق مع برنامج النهضة ذاتها، في الوقت الذي يحقق من خلاله إيصال تاريخنا بالتاريخ الثقافي العالمي.
وبالفعل إن الجابري عقيب ضمّه للعلوم الدخيلة ضمن تاريخنا القومي؛ أعلن عن مهمته في النظر بروح نقدية لمختلف مكونات تراثنا كسبيل صحيح يمكننا «من امتلاكه فعلاً والتحرر بالتالي من نماذجه التي تستعبدنا وبكيفية خاصة النموذج الجاهلي البدوي (الأعرابي) الذي مازال حضوره قوياً في وجـداننـا ورؤانا (العقلية) »(2 4). لذا اعتبر أن دعوتـه هـذه لا فـقـط توصل تاريخنا بالتاريخ الثقافي العالمي، بل أيضاً ـ وهو الأهم ـ «من أجل تبيان مكونات الثقافة العربية الإسلامية وفحصها ونقدها وصولاً إلى اعادة بناء الذات العربية على أُسس جديدة قوامها التخلص من رواسب النماذج السلـبية المـاضية..»(3 4). ثم إنـه جعـل رائـده في ذلك «خدمة قضية العقلانية في الفكر العربي»(4 4).
وإتماماً للمطاف يرى أن إعادة بناء الذات العربية لا تتحقق إلا من خلال النظام البرهاني الأرسطي. لذا فهو يدعو إلى قطع الصلة بالجنبة المشرقية البيانية والعرفانية من العلم العربي، وإبعاث الجنبة المغربية المغيّبة والقائمة أساساً على البرهان الفلسفي الأرسطي كما لدى ابن رشد. وقد كلّفه ذلك أن يخلط بين مفكري الأندلس والمغرب ليضعهم في قائمة أرسطية واحدة، بالرغم من أن بعضهم ينتمي صراحة إلى العرفان كما هو الحال مع ابن طفيل، والبعض الآخر إلى البيان كما هو الحال مع إبن حزم والشاطبي وابن خلدون.
كل ذلك كان من صنيع المشروع باعتباره يدعو إلى عصر تدوين جديد يعيد الحياة إلى النظام البرهـاني الذي ببنيته قـام الفكر الغـربي الحديث والمعاصر(5 4)، معتبراً أنه لا بد لـهذا العصر الجديد من بداية هي نقد السلاح، نقد (العقل العربي)(6 4). وبهذا يكون المـشروع عبارة عن بداية هذا العصر، الأمر الذي يعني أن كتاب (نقد العقل العربي) لا يمكن أن يحقق غرضه من إبعاث النهضة في الأُمة العربية ما لم يثبت أن النظام البرهاني كنموذج سليم وصالح هو نموذج عربي، أو هو داخل في بنية العقل العربي الذي يراد له النقد والإصلاح والتجديد والنهضة.
المشروع واغتيال اللغة والعقل
لو تجاوزنا ما تقدَّم من تناقض المشروع الذي شهدنا فيه إفناءه لخصوصية العروبة في العقل؛ فرغم ذلك تظل بنية (العقل العربي) حسب الأكسمة التي هندسها صاحب المشروع هي بنية قائمة في الأساس على اللغة بما تعكسه وتنشره من أثر المحيط والبيئة الصحراوية. وطبقاً لهذا الاعتبار فبقدر ما تكون اللغة غنيّة بقدر ما يكون العقل غنياً، وكذا بقدر ما تكون اللغة فقيرة بقدر ما يكون العقل فقيراً ضحلاً.
لقد استنتج مشروع (نقد العقل العربي) ضحالة اللغة بضحالة البيئة وفقرها، وقد جعل ذلك منعكساً على (العقل العربي) ذاته، فهو ضحل ضئيل لا يعرف أن يفكر خارج حدود النص، فمنه يبتدىء وإليه ينتهي، حتى لدى الذين عرفوا بالنزعة العقلية كالمعتزلة.
ونحن لو تجاوزنا الأثر المبالغ للغة على العقل إلى الدرجة التي تطوقه تطويقاً كاملاً، وغضضنا الطرف عن المحيط الصحراوي بما له من دور في تحديد معرفة الانسان، وأردنا أن نتعرف على اللغة العربية ذاتها، فسنجد أنها تمتاز بصفة لا تنافسها أيّ لغة أُخرى، وهي ثباتها وقدرتها على الصمود أمام طول تغيرات الحياة عبر القرون، فضلاً عن تاريخها المديد، إذ لا يعرف لها تاريخ محدد، فلا يعرف لها طفولة ولا شيخوخة، بل كل ما عرف عنها هو النضج والكمال، بخلاف نظائرها من اللغات التي طغت على العالم، كالاسبانية والانجليزية، إذ يقدر تاريخهما ببضع قرون محدودة. حتى أن (أرنست رينان) على الرغم مما عرف عنه بالعنصرية والتعصب؛ قد شهد لها في كتابه (تاريخ اللغات السامية) فاعتبرها قد بدأت فجأة على غاية الكمال، وانتشرت سلسة غنية وكاملة لم يدخل عليها أيّ تعديل مهم، وهو يرى أن بدايتها الكاملة هي من أغرب ما وقع في تاريخ البشر ويصعب حلّه(7 4) .
وفوق كل ذلك فإن اللغة العربية لها امتياز خاص بكثرة موادها وكلماتها، فهي من هذه الجهة تتفوق على ما سواها من اللغات العالمية المعروفة. فعدد كلمات اللغة الفرنسية (5 2) ألف كلمة، وكلمات اللغة الانجليزية مائة ألف كلمة، أما العربية فعدد موادها (0 0 4) ألف مادة، وإذا نظرنا إلى معجم لسان العرب وحده لوجدنا أنه يحتوي على (0 8) ألف مادة لا كلمة (8 4). ويكفي أن نعرف أن الخليل الفراهيدي في كتابه (العين) قد أحصى عدد كلمات العربية بما يزيد على اثنتي عشرة مليون كلمة، وأن ما يلفظ منها هو أكثر من ستة ملايين ونصف المليون كلمة، لكن لا يستعمل منها إلا أكثر بقليل من خمسة آلاف ونصف كلمة.
ومع ذلك اتهمت هذه اللغة بعدة اتهامات لها دلالة على عدم الصلاحية، ووصفت بالعي والقصور منذ القرن الماضي حتى كُللت أخيراً بيد الجابري. فالبعض اتهمها بعدم صلاحيتها للتكلم بخلاف ما في العامية، كما أن هناك من دعى إلى تمصيرها كما هو الحال مع دعوة لطفي السيد، الذي كتب عدداً من المقالات في (الجريدة) عام 3 1 9 1م؛ اتهم فيها العربية بأنها واسعة في القاموس، ضيقة في الاستعمال، مخصبة في المعاني والمسميات القديمة، مجدبة في المعاني الجديدة والاصطلاحات العلمية، وأن رقيّها قد انقطع منذ قرون طويلة، وبالتحديد منذ أيام النهضة العباسية. كما أن محرر المرأة (قاسم أمين) اعتبر اللغة العربية قد مرت عليها قرون طويلة وهي واقفة، بينما أخذت اللغة الاوروبية في التحول والرقي كلما تقدم أهلها في الآداب والعلوم. كما وكتب عبد الله حسين في صحيفة (الأهرام) عام 6 2 9 1م؛ فادعى أن العربية عجزت عن تأدية العبارة الدقيقة لحياة الصناعة وأسرار الطبيعة، وقد ظهر ذلك حين أراد المترجمون أن ينقلوا إلى اللغة العربية كتب الأدب، فاجتهد كل مترجم بتصرفه الشخصي. وهذا ما جعله يشير إلى ضرورة الأخذ باللغة العامية باعتبارها ـ حسب تعبيره ـ أداة التعبير الحقيقية عن مطالبنا وأحاديثنا(9 4).
مهما يكن من أمر فقد ظهرت دعوات لتهذيب اللغة وإصلاحها أدت إلى إنشاء عدد من المجامع العلمية، حيث بدأت فكرة انشاء أول مجمع في مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر، وتبلورت الفكرة (عام 3 9 8 1م)، إذ عُقدت عدة جلسات أُتفق خلالها على عدد من الكلمات الخاصة بتسمية بعض مظاهر الحضارة الحديثة. ثم بعد ذلك ظهرت هناك عدة مجامع لغوية أهمها المجامع الأربعة التالية: المجمع العلمي في دمشق (عام 9 1 9 1م)، والمجمع اللغوي في القاهرة (عام 2 3 9 1م) (0 5) ، والمجمع العلمي في بغداد (عام 7 4 9 1م)، وأخيراً المجمع الاردني (عام 6 7 9 1م) (1 5).
على إنا لا نجد تنظيراً دقيقاً ومنظماً في اتهام اللغة العربية، إلا لدى مشروع (نقد العقل العربي) ذاته، فهو مكلل لتلك النتائج، ذلك إنه يذكر خاصيتين للغة العربية، هما: لا تاريخيتها، أي كونها جامدة غير متطورة، وكذلك طبيعتها الحسية. فالخاصية الأُولى راجعة إلى الطريقة الاشتقاقية الصارمة للقياس اللغوي للفراهيدي، حيث صارت اللغة العربية جامدة ومحددة في إطار المجموعات الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية، دون أن يكون اللغويون قـد راعـوا وضع قواعـد تـحافظ على إمـكانية التطـور والتـجدد (2 5). إذ بدأت العملية بعملية التماس سند واقعي لفرض نظري: «فالكلمات صحيحة لأنها ممكنة وليس لأنها واقعية»(3 5). أما الخاصية الثانية، خاصية طبيعتها الحسية، فهي لأنها قد جُمعت من الأعراب البدو ذوي الحياة الحسية، مما ترك فيها بصمات الأعرابي وظروفه المحدودة، إلى درجة أن الجابري استشهد بقول الأرسوزي من أن «الكلمات العربية ذات أُصول في الطبيعة، وأن مبدأ الصحة فيها قد تعيّن من قبل الفطرة لا من قبل العرف والعادة»، بحيث إن كل كلمة لا يمكن إرجاعها إلى صورة صوتية مقتبسة من الطبيعة لهي كلمة دخيلة على اللغة العربية(4 5). على ذلك اتهمها بأنها تحمل غنى بدوي في قبال الفقر الحضاري، يتمثل في كثرة المترادفات، كثرة راجعة في جزء منها إلى الاشتقاق الصناعي على طريقة الخليل، وفي جزء آخر إلى السماع من قبائل مختلفة. فأصبح هناك تضخم في الكلمات التي لها معنى واحد ومن أصل واحد فصار هناك فائض في الألفاظ بالنسبة للمعنى. وهذا هو علة جمود العقل العربي، فكما «إن السماع من الأعرابي قد رسم حدود العالم الذي تنقله اللغة العربية الفصحى لأهلها.. فإن صناعة اللغويين والنحاة قد قولبت بدورها العقل الذي يمارس فعاليته في هذه اللغة وبواسطتها». فالنحاة فضلاً عن اللغويين قد قننوا الكلام وحجّموه بواسطة قوالب اعتبروها مطلقة ونهائية، إذ كرسوا في اللغة «صيغاً منطقية تتحكم في ديناميتها الداخلية وبالتالي تقـتل إمكانية التـطور فـيها»(5 5). وهو يعـتبر أن هـذا الفـقر المعـنوي مصحوب بغـنى سحري، إذ «النغمة الموسيقية في اللغة العربية تعوض أو تغطي فقر المعنى، وتجعل الكلام الذي يجرّ معه فائضاً من الألفاظ ذا معنى حتى ولو لم يكن له معنى»، حيث أن الأُذن أصبحت تنوب عن العقل في الرفض والقبول(6 5).
لكنه في الوقت نفسه يُلقي باللائمة في ذلك الفقر وعدم التطور على اللغويين والنحويين لانصرافهم عن النص القرآني عند جمعهم اللغة ووضع قواعدها، وكذلك لانصرافهم عن المراكز الحضارية والقبائل المتحضرة، كقبيلة قريش والمجتمع المكي والمديني على عهد الرسول والخلفاء، إذ لا تنقل المعاجم اللغوية أسماء الأدوات وأنواع العلاقات التي عـرفـها ذلـك المجتمع(7 5).
على أن نقد الجابري يلوح المعاجم بالدرجة الرئيسية أكثر مما يلوح التقنين اللغوي والنحوي. ذلك إن عملية التقنين وإن كانت قد حددت الكلام العربي ضمن قوالب ثابتة، إلا أنها لم تؤثر أبداً على ناحية الافتقار اللغوي، وذلك لوجود الوفرة اللغوية من جهة، ولكون عملية الاشتقاق في التقنين قد ساعدت بإعطاء الفائض من المعنى في غالب الأحيان. فليس من الصحيح اتهام هذه العملية بإفاضة المرادفات ذات المعنى الواحد، بل العكس هو الصحيح، حيث هناك اختلاف واضح في المعاني بين المشتقات ذاتها وبينها وبين مصادرها اللغوية، بالرغم من وجود الجامع المعنوي المشترك الذي يضمها جميعاً في خانة واحدة. فمثلاً هناك تمايز بين المصدر (خرج / خروج) وبين مشتقاته مثل (أخرج / تخرج / استخرج / مخرج / إخراج / استخراج.. الخ)، كذلك هناك فرق بين المشتقات ذاتها، فهي ألفاظ لها دلالات مختلفة وإن كانت تنتمي إلى المشترك العام من المعنى.
يظل أن حملة الجابري الأساسية شُنّت على ما جُمع من ألفاظ لغوية فقيرة المعنى قد أثرت بدورها على مختلف العلوم العربية والإسلامية، في الوقت الذي أُهملت الاصطلاحات العلمية والفلسفية دون أن تدوّن في القواميس اللغوية لاعتبارها دخيلة على لغة الأعراب الأقحاح. وعليه اعتبر اللغة العربية في القواميس لا تسعف الإنسان العربي بالكلمات الضرورية عندما يريد أن يعبّر عن أشياء العالم المعاصر، رغم أنها على درجة عالية من الرقي من حيث آلياتها الداخلية للتفكير والكتابة(8 5).
والملاحظ قبال الاعتراضات الأساسية التي أُثيرت على اللغة العربية هو أن حقيقتها لم تُثر اتجاهها بالخصوص، بل أُثيرت حول المعاجم اللغوية التي اهتمت بألفاظ أصبح الكثير منها لا يُستعمل، في الوقت الذي تخلو فيه من التعبير عن الحاجات العصرية، وهذا ليس قصوراً في اللغة، بل في الجامعين لها لأغراض تخصهم، ولإمكاناتهم المحدودة في ظرف لم يشهد تطوراً في علوم الطبيعة مثلما عليه اليوم، لهذا نجد المعاجم القديمة تخلو من أسماء آلاف النباتات والحيوانات، وهي تعاني من الاضطراب في الخلط في التسميات أحياناً وعدم الدقة في وصف تلك الكائنات وتصنيفها أحياناً أُخر(9 5). لكن بخصوص العلوم الفلسفية والإسلامية وبعض العلوم الطبيعية التي لا تحتاج إلى التسميات الكثيرة مثلما هو الحال في علمي النبات والحيوان؛ فقد كانت مثقلة بالمعاني والاصطلاحات العلمية، ولم يكن هناك شعور ما بأيّ فقر لغوي أو معنوي، إذ الألفاظ والعبارات غنيّة بالمعاني لكثرة استخدام المجاز والسعة في التعبير، وقد ساعد ذلك على كتابة الملخّصات العلمية المضغوطة دون نقص في المعنى ولا زيادة في ذكر الألفاظ. مما يعني أن هذه اللغة لا تحمل قوة في المعنى فقط، بل كذلك إن طابعها المجازي جعل من الخطأ اعتبارها لغة حسية. فلفظة اليد تعني في التعبير هذه اليد الجارحة، وفي تعبير آخر لها دلالة على القوة والقدرة، وكذلك على السيطرة، وعلى الملكية… الخ. وكذا مفهوم الرأس، كرأس دابة، ورأس مال، ورأس قوم، ورأس العين، ورأس الأمر… الخ. وعليه فالمسألة تخرج عن حدود المعاجم بما تحمله من ألفاظ، فحيثما تتحول إلى عبارة فإنها في الغالب تأخذ طابعاً آخر هو المجاز والتجرد للمرونة التي يفيضها سياق النص على الكلمة.
لهذا شهدت الثقافة الإسلامية خلافاً حاداً بين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من جهة، وبين من سبقهما من العلماء من جهة أُخرى؛ حول ما إذا كان هناك مجاز في اللغة أم لا؟ لكثرة ما وجد من الدلالات المختلفة الصور والمتباينة التجريد والمعنى للكلمة الواحدة، فمنـهـا دلالات حسية، وأُخرى غير حسية (0 6). وهو ما جعـل المتصوفـة كالغزالي وغيره يوظّفون هذه المزية لإعطاء اللفظ عدداً هائلاً من المعاني الحسية والماورائية، كما هو الحال مع لفظة (الميزان)، فكما يقول صدر المتألهين الشيرازي: إن «كل ما يقاس به الشيء بأي خصوصية كانت؛ حسية أو عقلية يتحقق فيه حقيقة الميزان ويصدق عليه معنى لفظه، فالمسطرة والشاقول والكونيا والاسطرلاب والذراع، وعلم النحو وعلم العروض وعلم المنطق وجوهر العقل، كلها مقاييس وموازين توزن بها الأشياء، إلا أن لكل شيء ميزاناً يناسبه ويجانسه، فالمسطرة ميزان الخطوط المستقيمة.. والمنطق ميزان الفكر يعرف به صحيحه عن فاسده، والعقل ميزان الكل إن كان كاملاً..»، كذلك الحال مع اللوح والقلم واليد والوجه والصورة وغيرها(1 6) .
فواقع الأمر إن هناك فرقاً بين اللفظ كمادة خام وبين استخدامه في العبارة. فمهما كان اللفظ محدوداً في مادته؛ يصبح في العبارة غنياً في المعنى بما يفيض عليه سياق النص.
وربما تكون أول ممارسة علمية إسلامية يظهر فيها ادراك التعدد في اللفظ الواحد حسب تباين السياق؛ هي تلك التي تعود إلى مقاتل بن سليمان، إذ صنف كتاباً بعنوان (الأشباه والنظائر)؛ معتبراً أن هناك وجوهاً مختلفة للفظ الواحد، أحدها يكون المعنى الأصلي، وسائر المعاني عبارة عن فروع لهذا المعنى. ثم بعد ذلك أخذت هذه الممارسة حيزها الطبيعي وسط العلماء في مختلف الدراسات، خاصة الدراسات القرآنية ضمن موضوع ما يسمى (الوجوه والنظائر)(2 6) .
وعليه لو صحّ ما ذكره الجابري من أسباب فقر المعنى التي حددها بكونها مستلهمة من الأعرابي، ولكونها مقننة من قبل اللغويين والنحاة.. لو صحّ هذا لكانت الجملة العربية في مختلف ميادين النشاط العلمي والأدبي جملة محددة محكومة بالحس والبساطة، من غير أن تكون قادرة على إعطاء الكثير من المعاني والمحتملات التي تصل أحياناً إلى تفسير نص ما من النصوص بتقديم العديد من المفاهيم والمعاني. فكل ذلك يدل على ما في اللغة من معنى، بحيث إنه لهذه الغزارة قد يصعب ضبط المعنى المطلوب وتحديده.
نعم يمكن لحديث الجابري أن يصدق بخصوص الأدب في كثير من الأحيان، كما في الشعر والنثر الموزون، إذ كثيراً ما يفتقر إلى المعنى مع احتفاظه بمزيّة النغمة الموسيقية. لكن هذا الافتقار لا ينسحب على بقية العلوم، وإلا كيف نفسّر كثافة الاصطلاحات والمفاهيم العلمية التي تزخر بها الكتب العلمية بما فيها العلوم الإسلامية؟ وكيف نفسّر رغبة العلماء من غير العرب تفضيل الكتابة باللغة العربية على لغاتهم في مختلف المجالات؟ وكيف نفسّر دخول الحضارات الأُخرى ضمن الحضارة العربية دون أن يحول ذلك من استخدام العربية ذاتها ؟ كما كيف نفسّر كثرة تعريب الكتب العلمية بدقة ومهارة، كالفلسفة والطب والفلك والكيمياء وغيرها، فضلاً عما نراه من شروحات وتنظيرات خاصة داخل وعاء اللـغة العربية لمعالجة العـديد من الموضوعات والإشكاليات العلمية؟
على أن ما ذكرناه لم يمنع كون العرب وجدوا أنفسهم بعيدين بلغتهم عن الحاجات العصرية التي فرضتها الحضارة العلمية، وذلك منذ مطلع القرن التاسع عشر. لكن هذا لا يعود إلى عيّ وقصور في اللغة، بل يرجع إلى أننا وجدنا قضايا العلم جاهزة أمامنا من دون تفكير مسبق بالعلاقة التي تربط اللغة بالعلم، خاصة وإن عملية إنتاج العلم لم تكن في دارنا العربية. ومع ذلك فهناك محاولات مثمرة للتعريب تقوم بها بعض المراكز المعنيّة في الوطن العربي؛ استطاعت أن تبلور آلاف المصطلحات في شتى فروع العلوم الطبيعية(3 6)، مما يؤكد قدرة اللغة العربية على الاستيعاب والتكيف بقوة لا تقل عن سائر اللغات إن لم تتفوق عليها، لما فيها من زيادة في المواد، ولما فيها من قابلية كبيرة على الاشتقاق.
والعجيب إن مشروع الجابري قد حكم على نفسه بنوع من التناقض. فادعاؤه السافر بقصور اللغة العربية ونقصها من أن تستوعب اللغة العلمية والمعنوية.. هذا الادعاء يناقضه نفس المشروع الضخم الذي شيّده. إذ إن هذا المشروع يعبّر لا فقط عن عبقرية (عقل عربي) قلما نجد قبالها عبقرية أُخرى طوال «قرني النهضة»، بل يعبّر أيضاً عن الكفاءة المذهلة للغة العربية التي وظفها في مشروعه وجعلها طيّعة لأن يرمي بها إلى الدخول في أبعاد عميقة وسحيقة، أدت بالنهاية إلى نوع من المفارقة والتناقض، بين التوظيف المذهل لهذه اللغة كوسيلة، وبين المعنى الذي استهدفه في اغتيالها واغتيال العقل من بعدها.
عود على بدء
نعود الآن إلى صلب موضوعنا الأساس في اختيار الوصف المناسب للعقل إن كان عربياً أم إسلاميًّا، وذلك بحسب ما تفيضه مادة العقل المسلّط عليها ضوء الدراسة من دلالات تخص طبيعتها والعوامل التي تؤثر عليها في توجهات العقل، فنحن في واقع الأمر بين فرضين محتملين، فإما أن تكون هذه الدلالات ذات مغزى معياري، أو هي ذات مغزى قومي لغوي أو جغرافي. وبقدر ما ينجح مشروع (نقد العقل العربي) من إثبات قوة تحكّم التأثير اللغوي والجغرافي على مادة العقل وتوجهاته؛ بقدر ما يكون وصفه صالحاً وناجحاً ومن ثم تكون تسميته بإضفاء صفة العروبة صحيحة. وكذا بقدر ما يثبت قوة انشداد تلك المادة إلى المفاهيم المعيارية بقدر ما يكون الوصف والتسمية لصالح (العقل المعياري)؛ متمثلاً بالاتجاه الإسلامي للخصوصية الزائدة التي يضيفها واقع الفكر الإسلامي على المعيار الديني عامة.
نقد النشأة العامية لبنية العقل
على ذلك لو عدنا مرة أُخرى إلى صياغة (العقل العربي) حسب المشروع الآنف الذكر؛ لوجدنا أن مادته البنيوية قائمة أساساً على مفاهيم (الانفصال والتجويز والمقاربة)، وهي المادة التي سعى المشروع أن يثبت أُصولها بواسطة البيئة العربية، فاعتبرها مترسخة في أعماق العقل الباطني لقدماء عرب الجاهلية. وقد علمنا أن حجج المشروع قائمة على عدة دعاوى: فمن جهة أن الجابري حاول انتزاع مفهومي الانفصال والتجويز من بيئة الأعرابي، معتبراً أن البيئة هي التي جعلت لهذين المفهومين نوعاً من الحضور والظهور في علوم العرب وأشعارهم، ثم بواسطة الاستضمار تحولا إلى الثقافة العلمية لعلماء البيان كافة.
فنحن هنا قبال فرضية ترد المفهومين العلميين إلى الجغرافية كأثر حاسم، في قبال فرضية أُخرى تردهما إلى عامل (المعيار) من حيث أقرب الطرق للتأكيد على إرادة الله وقدرته. فكيف نحدد أقرب الفرضين إلى الحقيقة؟ مع أننا لو جمعنا دلالات الفرض الأول لحصلنا على عدة قرائن تصب في محور هذا الفرض، كما فعل الجابري حيث استخلص دلالة الانفصال من خصائص الطبيعة الصحراوية لعرب البادية، مثل الرمال والحصى المنفصلة، والنباتات والحيوانات المتفرقة، وقطرات المطر المتقطعة، والنجوم المتناثرة، وغيرها.. وكذا الحال فيما لو جمعنا القرائن الدالة على الفرض الثاني، بما في ذلك نفس القضايا الفكرية التي لها دلالة الإنفصال كنظرية الجوهر الفرد وقضايا الزمان والمكان واللا سببية واللا حتمية وغيرها مما لها دوافع ظاهرة تصب في محور (المعيار)، كإثبات قدرة الله وإرادته.
فأي الفرضين أصلح للتفسير؟ هل نعلل بنية العقل ونردها إلى الجغرافية أم إلى ما ورائها؟ وهل أن العلوم الإسلامية مبعثها الحس أم الدين، البيئة أم المعيار؟
قبل كل شيء لا بد من التأكيد على أن القرائن حينما تجمع لصالح فرضية ما؛ فإن القيمة الاحتمالية الكلية عن الفرضية لا تستخلص من قيم إحتمالات تلك القرائن بصورة متساوية. فقيم الاحتمالات تختلف لاختلاف القرائن ذاتها من حيث النوع، لهذا فالأمر لا يعود إلى كثرة الشواهد، فقد تكون قرينة واحدة أقوى من عدد كبير من القرائن. وإذا ما أخذنا بهذا الاعتبار أصبح من الممكن النظر إلى نوع التأثير في القيمة الاحتمالية للقرائن المقدمة لصالح الفرضية (4 6). وطبقاً لهذه القاعدة إذا ما أردنا أن نختبر فرضية الجابري في حشد القرائـن التي تؤكد على الجذور الصحراوية لنظرية الانفصال واللا سببية التي تنتمي اليها؛ سنجد أن هذه القرائن مع كثرتها لا تحظى إلا بقيمة احتمالية ضعيفة جداً، وهذا ما يُعرف بالاستقراء وملاحظة الواقع، إذ من الواضح أن تأثير ما ذكره الجابري من رمال منفصلة ونباتات متفرقة ونجوم متناثرة وغيرها؛ لا يمتلك من القوة التي تجعله الحاسم في بناء مادة بنية (العقل العربي) بصورته الساذجة، ولا في تأسيس التصور النظري العلمي لمفهوم الانفصال ونظريته، خاصة إذا ما لاحظنا أمرين مضادين لهذا الفرض، أولهما إن هذه الأُمور المنفصلة لا تخلو منها أيّ بيئة مهما كانت متماسكة، فالانفصال موجود في جميع الأماكن. هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فهناك في قبال تلك الأُمور الانفصالية أُمور اتصالية ربما يكون بعضها ذا أثر أقوى، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي، حيث إن تأثيره أقوى من الجانب الطبيعي ذاته. فمن الواضح أن الحياة البدوية هي حياة ملتحمة بالنسب تكوّن أساس العصبية كـما يقول إبن خـلـدون(5 6)، الأمر الذي له دلالة على الاتصال بدرجة أقـوى من رمال الصحراء والنباتات المتفرقة، فالإنسان يتأثر بالعقل والحياة الجمعية بدرجة أكبر مما يتأثر بالطبيعة.
ومما يلفت النظر أن الجابري، حتى مع ظاهرة الالتحام الاجتماعي لعرب البادية، حاول أن يضفي عليها المدلول الانفصالي ليظل محافظاً على وحدة نسق مشروعه، فلم يعبّر عنها بالاتصال والالتحام، بل عبّر عنها بالانفصال المخفف.
كما ينطبق الحال السابق على مفهوم السببية والتجويز. فما استخدمه الجابري من مؤشرات عربية دالة على غياب فكرة السببية الضرورية، كما في النجامة والكهانة والقيافة والفراسة والعيافة وغيرها؛ يوجد قبالها قرائن مضادة من وجهين. فمن جهة لا يختص مبدأ التجويز بالبيئة الجغرافية الضيقة، فالعقول البشرية تمارسه في مجالات كثيرة يقتضيها الظرف والموضوع ذاته. فالنجامة والكهانة مثلاً ربما يعتبران موضوعاً مناسباً لممارسة التجويز، وهي ليست من علوم عرب الجاهلية وحدهم، بل سبقهم في ذلك غيرهم كبلاد فارس والهند والروم، حتى أن النص الذي استشهد به مشروع (نقد العقل العربي) كشاهد بخصوص النجامة على التجويز عند العرب؛ كان يتضمن وجود ذلك العلم عند غير العرب من الفرس والهند والروم(6 6)، وظاهر النص يوحي بوجود فهم قائم على أساس فكرة السببية الضرورية ولـيس التجـويز(7 6).
ومن جـهـة أُخرى فإن العـرب كـغيرهم كانوا يتحسسون بثبات الظواهر الطبيعية واطرادها. فبيئتهم لم تكن بيئة خارجة عن سنن الطبيعة، كما لا ينقصها وفرة وجود علاقات السببية. فهم يرون احتراق الأشياء بالنار وموت الحيوانات وطلوع الشمس والقمر وتناوب الليل والنهار وغير ذلك من سنن الطبيعة الثابتة. ولا شك أن كثرة هذه الظواهر وقدرتها في التأثير على تأسيس بنية عقل الانسان أعظم من الحوادث المفاجئة والطارئة، فكيف استحوذت البيئة غير المطردة على عقولهم دون المطردة منها؟!
كذا الحال مع طريقة الاستدلال التي يرجعها الجابري إلى نفس نظرية الانفصال والتجويز، فهو يذكر أمثلة خاصة ومناسبة على استخدام هذه الطريقة من الاستدلال بالشاهد على الغائب والوصول إلى نتيجة لا تحظى بدرجة اليقين القطعية، لكنه لا يلتفت إلى وجود نوعين من القرائن المضادة لتلك القرينة. فمن جهة أن استخدام تلك الطريقة وما تتضمنه من عدم الارتقاء إلى رتبة اليقين إنما هي من مقتضيات أيّ بيئة وليست حكراً على البيئة العربية، باعتبار أن علاقات أيّ بيئة لا بد وأن تكون منقسمة إلى علاقات تبرر الوصول إلى درجة اليقين، وعلاقات أُخرى لا تبرر الوصول إلى ذلك، الأمر الذي يكون فيه استخدام طريقة الظن لا غنى عنه، سواء كانت هذه الطريقة هي عين الاستدلال بالشاهد على الغائب أم غيرها. ومن جهة أُخرى إن وجود علاقات مطردة كثيرة في البيئة العربية الصحراوية تحتّم على أن يتعامل العرب معها تعاملاً قائماً على اليقين بالفطرة، سواء عزينا ذلك إلى الاعتماد على ذات طريقة الاستدلال بالشاهد على الغائب، أو كان الأمر يعود إلى طريقة أُخرى يتعامل معها الإنسان العربي القديم فطرياً لعدم توفر الثقافة العلمية.
هكذا نحن مضطرون إلى التعامل مع ذلك الفرض على هذا المقياس من الاحتمالات، حيث يظهر لنا افتقاره لقوة الاحتمال الكافية لأن يكون معقولاً أو مقبولاً بالترجيح. وما يؤيد نظرنا هو أن الجابري حينما ردّ في بعض الندوات على تهمة كونه يدعو إلى الحتمية الجغرافية، أجاب ببساطة إنه لا يدعو إلى ذلك ولا يؤمن بهذه الحتمية، بل ذكر أمثلة مظاهر الصحراء التي لها دلالة على الانفصال لتصوير بياني «يهدف إلى المقاربة قصد الإيضاح والإيحاء» دون أن يكون هناك علاقة من نوع علاقة العلة بالمعلول (8 6). وهو بهذا لا يجعل ما ذكره من شواهد لها دلالة ملزمة على المطلوب، وكأنه يتبع بذلك أسلوب البيانيين في المقاربة والتجويز، إذ من جهة يجعل شواهده المعدّة كشاهد غير مؤدي بالضرورة إلى إثبات النتيجة كغائب، مما يعني افتقارها لأن تكون منضوية تحت الطريقة البرهانية الأرسطية التي يدعو لها دون غيرها، في الوقت الذي يجعل مسلكه قائماً على طريقة التجويز التي يتبعها البيانيون، حينما ينفي أن يكون للبيئة الجغرافية طابع حتمي في تكوين وبناء بنى العقول البشرية. فهناك مسافة (تجويزية) بين العلة المتمثلة بالبيئة الجغرافية، وبين المعلول المتمثل ببنية العقل.
مهما يكن، فإن اعتبار ما ذكره من مظاهر الصحراء كشواهد بيانية تهدف إلى التصوير والمقاربة؛ تفرض عليه وضع نظريته الأساسية في التأثير الجغرافي موضع الفرض المحتمل، حتى لدى شخصه بالذات، مما يعني أن ما بناه لا يتعدى الاحتمال على وجود أصل لمفاهيم (الانفصال والتجويز والمقاربة) في دنيا العرب الأرضية، مثلما يعني إمكانية أن يكون هذا الأصل أمراً موهوماً.
نقد النشأة العلمية لبنية العقل
لو أردنا أن ندرس نظرية الانفصال بخصوص الثقافة العلمية التنظيرية؛ سنجد أنها ليست شاملة ولا مطلقة، كما أنها لا تختص بالثقافة العلمية العربية، سواء على نحو علاقة اللفظ بالمعنى في العلوم العربية، أو على نحو الرؤية العلمية للعالم في العلوم الكلامية الإسلامية. فعلى صعيد علوم اللغة إن البيانيين في مختلف علومهم قد فصلوا بين اللفظ والمعنى ككيانين مستقلين، ولم ينظروا إليهما نظرة اتحادية تعبّر عن كون الألفاظ دالة على المعاني بذواتها، الا ما ندر. وهو الموقف المعقول الذي يفسّر العلاقة اللغوية تفسيراً واقعياً منسجماً مع جريان الأمور، فضلاً عن إنه لا يختلف عن مواقف الاتجاهات الألسنية للغات العالمية الأُخرى. وفيما عدا ذلك فإن البيانيين العرب غالباً ما لجأوا إلى عملية الوصل لا الفصل في دراساتهم اللغوية.
فهذا عبد القاهر الجرجاني، البلاغي المعروف، يعتبر أن الكلمة ليس لها عطاء واضح في المعنى، بل يُفهم المعنى الواحد من مجموع الكلمات التي ينتظمها الكلام، فلا تعرف الأغراض الا من مجموع الكلام كمعنى حاصل. بل ويذهب إلى أكثر من ذلك كدلالة على الاتصال، فيرى أن البلاغة هي صنعة الجمع بين (أعناق المتنافرات المتباينات في ربقة) والعقد (بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة). فعبارات الجرجاني الدالة على الوصل والاتصال؛ هي ذاتها التي ينقلها الجابري عن كتابيه ( دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة) دون أن يتوقف عندها ويعطيها حقّها من النظر والتحليل(9 6). فلو عرفنا أن جوهر البلاغة قائم على التشبيه، والتشبيه عبارة عن قياس واستدلال كما يوظفه البلاغي السكاكي؛ فلا مناص من القبول بقيام جوهر عملية الاستدلال البياني على الاتصال لا الانفصال، إذ إنها أساساً تجمع في قياسها بين المتنافرات لوجود نوع خاص من الشبه بينها.
أما بخصوص نظرية الانفصال داخل الرؤية العلمية للعالم؛ فالملاحظ أنها لا تختص بالفكر العربي الإسلامي، بل ان امتداداتها تظهر لدى كل من الحضارة الهندية واليونانية بما هو معروف بالنظرية الذرية كما قال بها ديمقريطس والتي نافستها نظرية أرسطو في الجسم المتصل. كذلك فإن العلم المعاصر ومنذ بداية القرن العشرين أخذ يتجه صوب المفهوم الانفصالي في تحليل المادة، كما يسلم بذلك صاحب مشروع (نقد العقل العربي)(0 7). فإذا كان للتفكير اليوناني والغربي مبرراته العلمية في اتخاذ مبدأ الانفصال لتفسير الواقع الموضوعي؛ فالأمر لا يختلف مع الفكر الكلامي الإسلامي الذي يقيم نظريته وراء مبرراته المعيارية. يضاف إلى ما لنظرية الانفصال من انسجام مع التفكير الفطري للإنسان، فهي أقرب إلى البساطة والاستيعاب لدى ذهن الإنسان العادي، باعتبارها لا تفضي إلى فكرة التسلسل واللانهاية مثلما هو الحال مع النظرية الاتصالية.
وكذا الحال مع فكرة اللا ضرورة السببية أو التجويز، فهي وإن كانت تبدو غائبة لدى التفكير العقلي اليوناني تبعاً للمنظومة الفلسفية، لكنها ليست غائبة لدى الفكر الغربي الحديث والمعاصر، بل يلاحظ أن العلم المعاصر أخذ يروّج هذه الفكرة مع فكرة الانفصال والطفرة بشهادة نفس صاحب المشروع(1 7). مما يعني أنها ليست من مختصات الفكر العربي الإسلامي.
يضاف إلى أنه رغم انقسام الثقافة الإسلامية على ذاتها بعض الشيء إزاء فكرة التجويز، فالملاحظ أنه حتى القائلين بهذه الفكرة لم يقولوا بها على إطلاق، فقد حصروها ـ فقط ـ في حدود العلاقات الخاصة للسببية، ولم يسحبوها على العلاقة العامة لها. وكم تمنينا أن يضع المشروع لهذه الناحية من حساب، ويفرق بين (السببية الخاصة) التي يختلف حول ضرورتها مفكرو العرب، وبين (السببية العامة) التي لا يختلف عليها أحد، فكما أن فكرة التجويز التي تلوح (السببية الخاصة) تقوم على فصل العلة عن المعلول، واعتبار جواز عدم حدوث المعلول مع وجود العلة، وجواز إبدال العلة بغيرها في عملية إنتاج المعلول؛ فإنه لا مجال لهذه الفكرة مع (السببية العامة). إذ ليس هناك من يقول بجواز وجود المعلول من غير علة مطلقاً. وبذلك فإنهم يختلفون مع نظرية (ديفيد هيوم) التي يمتد تجويزها إلى كلا العلتين أو السببيتين، الخاصة والعامة(2 7).
هكذا إن قبول المفكرين الإسلاميين للتجويز بهيئة (السببية الخاصة) وعدم سحبه على (السببية العامة)؛ له دلالة عظمى على دافعهم المعياري. إذ إن حصر التجويز في العلاقات الخاصة مع الاحتفاظ بمبدأ (السببية العامة)؛ يجعل من الفكر العربي الإسلامي منسجماً مع مفهوم (المعيار)، من حيث الحفاظ على علة الوجود الأصلية (الله)، في الوقت الذي يجوز لهذه العلة أن تمارس عملية القهر لـ ( السببية الخاصة) وتقلب علاقات الطبيعة وسننها كيفما تشاء. وهذا التفكير كما هو واضح أقرب إلى ( المعيار) منه إلى العامل الجغرافي البيئي، وإلا فلماذا لم يُجوّز مفكرونا فصل العلة عن المعلول على سبيل الإطلاق كما هو الحال مع نظرية (ديفيد هيوم)؟! مما يعني أن التجويز وإن كان ينسجم مع فكرة الإنفصال، إلا أنه للسبب المذكور آنفا لا يصح جرّه إليه مطلقاً.
وكذا الأمر مع طريقة الاستدلال التي لا تفضي إلى القطع واليقين، فهي ليست من مختصات الفكر العربي الإسلامي، بل يشاطره في ذلك العلم المعاصر. وإذا ما كان هذا العلم قد وجد موضوعه الفيزيائي بعيداً عن متناول العقل البشري؛ فإن الفكر الإسلامي هو الآخر قد وجد موضوعه المعياري واللغوي – في الغالب – بعيداً عن أن يحدده العقل بدقة، سواء كان ذلك بالإمعان في نظرية التجويز تبعاً لروح (المعيار)، حيث الاعتقاد بأن الإرادة الإلهية هي وحدها التي يمكنها أن تجمع وتفصل بين المقدمة الاستدلالية ونتيجتها، كما يصرح بذلك بعض الأشاعرة.. أو بسبب الموضوع ذاته لعدم قابليته تحقيق اليقين، كما في القياسات الفقهية واللغوية، لطبيعة الفقه واللغة.
***
هكذا ننتهي إلى أن إضفاء خاصية (العروبة) على العقل في مشروع (نقد العقل العربي) لم يصادف بنظرنا النجاح لعلتين: فمن جهة إن (العقل العربي) وكما أوضحنا كشف عن إفنائه لذاته لضمه النماذج الأجنبية على طابعه (القومي). ومن جهة أُخرى فإن قرائن تأثير البيئة على العقل لم تكن قرائن كافية لإقناعنا بقبول تفسير تكوين وبناء بنية هذا العقل. وبالتالي فإن تطوافنا الطويل مع مشروع الجابري قد أكد لنا بأن تاريخنا وتراثنا الفكري لا يصح قراءتهما بالطريقة التي يهيمن عليها العامل البراني. بل يمكن القول إن هناك مفارقة قصوى يمكن ملاحظتها بين التحضيرات التمهيدية التي بلغت القمة في التنظيم والعقلانية، وبين النتيجة الساذجة التي انتهت إليها هذه التحضيرات. فكأن الجابري بذلك قد وصل في تحضيراته إلى منتهى (العقل البرهاني) لا لشيء، إلا لأجل تفريخ (العقل المستقيل) الذي يرميه باللا معقول، فهو كما يقول المثل: (تمخض الجمل فأولد فأرًا).
(1) زيدان، جرجي: تاريخ آداب اللغة العربية، دار مكتبة الحياة، بيروت، ج 2، ص 7 1.
(2) التراث والحداثة، ص 1 3 1.
(3) التراث والحداثة، ص 0 2 3 ـ 1 2 3.
(4) الجندي، أنور: معالم الفكر العربي المعاصر، مطبعة الرسالة، ص 2 3 2 ـ 3 3 2.
(5) عن: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، نفس المعطيات السابقة، ج 1، ص 9 1 1.
(6) الجندي، أنور: الفكر العربي المعاصر ، مطبعة الرسالة، ص 9 4 3. كذلك: الجندي، أنور: الثقافة العربية المعاصرة، مطبعة الرسالة، ص 3 3 1.
(7) تكوين العقل العربي، ص 5 1.
(8) نفس المصدر، ص 8 3.
(9) تكوين العقل العربي، ص 4 2 ـ 5 2.
(0 1) المصدر السابق، ص 2 1.
(1 1) بنية العقل العربي، ص 9 3 2 و 5 4 2.
(2 1) المصدر السابق، ص 1 4 2 ـ 2 4 2.
(3 1) المصدر السابق ، ص 2 4 2 ـ 3 4 2.
(4 1) المصدر السابق، ص 7 4 2.
(5 1) تكوين العقل العربي، ص 9 2 1.
(6 1) بنية العقل العربي، ص 5 4 2 ـ 7 4 2.
(7 1) تكوين العقل العربي، ص 5 7 ـ 6 7.
(8 1) المصدر السابق، ص 9 8.
(9 1) المصدر السابق، ص 8 8 ـ 9 8.
(0 2) التراث والحداثة، ص 1 1 3.
(1 2) بنية العقل العربي، ص 7 4 2.
(2 2) المصدر السابق، ص 9 3 2.
(3 2) المصدر السابق، ص 1 8 1و 9 8 1.
(4 2) المصدر السابق، ص 5 1 2.
(5 2) لاحظ المصدر السابق، ص 9 8.
(6 2) تكوين العقل العربي، ص 9 2 1 و 0 3 1.
(7 2) المصدر السابق، ص 0 3 1.
(8 2) لاحظ: تكوين العقل العربي، ص 1 3 ـ 3 3.
(9 2) التراث والحداثة، ص 2 9 2.
(0 3) بنية العقل العربي، ص 8 0 2 و 3 1 2.
(1 3) التراث والحداثة، ص 2 4 1.
(2 3) تكوين العقل العربي، ص 8 3 ـ 9 3.
(3 3) المصدر السابق، ص 2 9 1.
(4 3) المصدر السابق، ص 3 1.
(5 3) المصدر السابق، ص 7 1و 8 2.
(6 3) المصدر السابق، ص 9 2.
(7 3) انظر بهذا الخصوص خاتمة كتابنا مدخل إلى فهم الإسلام، كذلك مقالنا: الحضارة العربية بين الحضارة اليونانية والحضارة الغربية، مجلة الوحدة، العدد المزدوج 1 0 1 / 2 0 1، 3 1 4 1هـ ـ 3 9 9 1م.
(8 3) لاحظ: تكوين العقل العربي، ص 8 2.
(9 3) فرانك، فيليب: فلسفة العلم، ترجمة الدكتور علي علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأُولى، 3 8 9 1م، الفصل الأخير.
(0 4) تكوين العقل العربي، ص 3 2.
(1 4) يلاحظ بهذا الصدد خاتمة كتابنا: مدخل إلى فهم الاسلام.
(2 4) المصدر السابق، ص 2 9 1.
(3 4) المصدر السابق، ص 2 9 1.
(4 4) المصدر السابق، ص 3 9 1.
(5 4) المصدر السابق، ص 4 6 5.
(6 4) المصدر السابق، ص 6 6 5.
(7 4) عن: الفكر العربي المعاصر، ص 1 8 5.
(8 4) عن: معالم الفكر العربي المعاصر، ص 4 1 2.
(9 4) عن: الفكر العربي المعاصر، ص 7 6 5 ـ 9 6 5.
(0 5) الجميعي، عبد المنعم الدسوقي: مجمع اللغة العربية / دراسة تاريخية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 3 8 9 1م، ص6 1.
(1 5) مجمع اللغة العربية في عيده الخمسيني لرئيس المجمع ابراهيم مدكور، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1 8 9 1م، ص 9.
(2 5) تكوين العقل العربي، ص 2 8 و 6 8.
(3 5) المصدر السابق، ص 3 8.
(4 5) المصدر السابق، ص 6 8.
(5 5) المصدر السابق، ص 8 8 و 9 8.
(6 5) المصدر السابق، ص 0 9.
(7 5) المصدر السابق، ص 7 8.
(8 5) المصدر السابق، ص 9 7.
(9 5) لاحظ حول عيوب المعاجم العربية: المصطلحات العلمية في اللغة العربية، لرئيس المجمع العلمي العربي الأمير مصطفى الشهابي، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق، الطبعة الثانية، 5 6 9 1م، ص 3 3 ـ 0 4.
(0 6) انظر حول ذلك: إبن تيمية: الايمان، دار الكتب العلمية في بيروت، الطبعة الاولى، 3 0 4 1هـ ـ 3 8 9 1م، ص 0 8 وما بعدها. وإبن الموصلي، شيخ محمد: مختصر الصواعق المرسلة لإبن القيم الجوزية، تصحيح زكريا علي يوسف، مطبعة الامام 3 1 في مصر، ص 3 4 2 وما بعدها.
(1 6) الشيرازي، صدر المتألهين: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1 8 9 1م، ج 9، ص 9 9 2.
(2 6) أبو زيد، نصر حامد: الاتجاه العقلي في التفسير، دار التنوير، بيروت، الطبعة الثانية، 3 8 9 1م، ص 7 9 ـ 8 9 .
(3 6) كما هو الحال مع مكتب تنسيق التعريب في الوطن العربي. لاحظ: عبد الرحمن، وجيه حمد: اللغة العربية والحضارة الانسانية، مجلة دراسات شرقية، العددان الخامس والسادس، 0 9 9 1م.
(4 6) بخصوص نظرية الإحتمال اوضحنا أن القرائن المختلفة كيفاً لا يمكن اعطاؤها مقادير متساوية من القوة الإحتمالية، وبالتالي فهي لا تقبل التقدير الكمي، وذلك في كتابنا (الاستقراء والمنطق الذاتي، مؤسسة الانتشار العربي، 2005م، الفصل الثالث من القسم الثالث).
(5 6) لاحظ: الفصل الثامن من مقدمة إبن خلدون والمعنون: (في أن العـصبية انما تكون من الالتـحام بالنـسب أو ما في معناه).
(6 6) لاحظ: بنية العقل العربي، ص 5 4 2. كذلك: إبن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، الطبعة الرابعة، 2 1 4 1هـ ـ 2 9 9 1م، مادة نوء، ج 1، ص 6 7 1.
(7 6) إذ جاء في النص ما قوله: «كانت العرب في الجاهلية إذا سقط منها نجم وطلع آخر قالوا: لا بد أن يكون عند ذلك مطر أو رياح، فينـسبون كل غيث يكـون عند ذلك النـجم فيقولون مطرنا بنوء الثريا والدَّبران والشمال» (لسان العرب: مادة نوء، نفس المعطيات السابقة).
(8 6) لاحظ: التراث والحداثة، ص 9 0 3 و 1 1 3 و 2 1 3.
(9 6) لاحظ كلاً من: بنية العقل العربي، ص 6 8 ـ 9 8. والتراث والحداثة، ص 2 5 1.
(0 7) الجابري، محمد عابد: الخطاب العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، 8 8 9 1م، ص 2 6 1.
(1 7) المصدر والصفحة السابقة.
(2 7) انظر حول ذلك المـصادر التالية: مـحـمود، زكي نجـيب: ديفـد هـيوم، دار المـعارف، 8 5 9 1م، ص 1 7 ـ 2 7 و 6 8. ريشنباخ، هانز: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 9 7 9 1م، ص 5 8. بيرلين، ايسايا: عصر التنوير، ترجمة الدكتور فؤاد شعبان، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي بدمشق، 0 8 9 1م، ص 9 3 2.