مضت عقود طويلة جدا على العلاقة التاريخية التي تربط العلماء الأجلاء في الأزهر الشريف ، مع المراكز الدينية الإسلامية في مختلف أنحاء العالم ،ومن بين هذه المراكز الحوزات العلمية في النجف الأشرف في العراق وقم في إيران ، انطلاقا من الرؤية الوسطية والمنفتحة للأزهر الشريف على مختلف المذاهب الإسلامية.
لا اعتقد أن هناك من لم يقرأ من المثقفين كتاب “المراجعات” ، الذي يتضمن رسائل تبادلها جهبذان من جهابذة العلماء في عصرهم، وهما السيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ سليم البشري ، وكان نقاشا علميا وتاريخيا في غاية الادب والاحترام ، وتحول هذا الكتاب إلى مدرسة في طريقة النقاش العلمي بين علماء الامة ومثقفيها.
أما الإمام الأکبر الشيخ محمود شلتوت ، الرائد في التقريب بين المذاهب الإسلامية ، فكان صاحب دور البارز إلى جانب كبار العلماء الشيعة من أمثال آية الله البر وجردي ، في التقريب بين المذاهب ، كان هذا العلم يقدم الدكتور القمي وهو عالم دين شيعي من إيران للإمامة في الصلاة ويصلي خلفه ، وكان العقاد محقا عندما أطلق عليه إمام التوفيق والتقريب ، فهذا الإمام هو صاحب الفتوى الشهيرة التي أجاز فيها للإنسان المسلم التعبد بمذهب أهل البيت عليهم السلام ، وقال ما نصه: إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً کساير مذاهب أهل السنة. فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلک وان يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما کان دين الله وما کانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب، فالکل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز لمن ليس أهلًا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم ولا فرق في ذلک بين العبادات والمعاملات”.
هذه مصر والأزهر قبل نحو قرن من الآن ، ولكن مصر اليوم وللأسف الشديد وبعد أن تسللت الأفكار الوهابية والسلفية إليها ، تحت مسميات مختلفة ، لاسيما في بداية السبيعينات من القرن المنصرم ، نالت هذه الأفكار المتخلفة والمتعصبة القادمة من الصحراء ، من بعض أبنائها ، وان كانوا قلة ، الا انهم اعلى صوتا واقوى مالا ، فمارست هذه القلة القليلة التضييق ، كعادة المذهب الوهابي السلفي ، على اصحاب الفكر والمثقفين والاعلاميين ، ورفعت شعار معاداة الشيعة ، وهو شعار يمثل أس وأساس عقيدتهم الجوفاء ، وشنت حروبا شعواء على كل عالم من علماء مصر يسعى للتقريب بين اتباع الدين الواحد ، وهو ديدن المصريين منذ كانوا ، فلا يمر يوم حتى تفجر السلفية في مصر قنابل إعلامية وسياسية ضد هذا وذاك لمجرد موقف أو كلمة يمكن أن يستشف منها التقريب بين المسلمين ، وآخر معاركهم العبثية التي بعثروا فيها طاقات الأمة في كل زمان ومكان ، هي الضجة التي أثاروها ضد عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر وأستاذ الشريعة الدکتور أحمد كريمة ، لمجرد أن فضيلته زار إيران “الشيعية”!!! والتقى عددًا من علماء الشيعة في مدينة قم!!.
المؤسف ليس موقف مشايخ السلفية في مصر من الدكتور كريمة ، فهذا ديدنهم ، ولا یمکن أن یتخذوا غیر هذه المواقف الإقصائية والتکفیرية والمتعصبة والمتخلفة ، بل المؤسف أن یٍسایر الأزهر الشریف السلفية في موقفها هذا ويجمد عضوية الشيخ كريمة في الأزهر.
لم تجد في مصر من طبل لهذا الإجراء فرحا إلا السلفية الوهابية ، فهذا عادل نصر، المتحدث الرسمي باسم الدعوة السلفية، أشاد كما نقلت صحيفة “الوطن” بإحالة الدكتور أحمد كريمة إلى التحقيق، وقال ” إن “الأزهر مازال حاملًا لواء الدفاع عن صحابة الرسول الكريم .. هذا من حسن ظننا بالأزهر الشريف”.
هنا من حقنا أن نسأل : لم كل هذه الغضبة المضرية على الأستاذ كريمة؟، هل زار “إسرائيل”؟، لا أعتقد فهناك الكثير من يزور “إسرائيل” دون أن تعترض الوهابية وسلفية مصر ، هل جاءت هذه الغضبة خوفا على أستاذ الشريعة واحد اكبر علماء الأزهر من أن يتشيع خلال زيارته لإيران ؟، وهل الوهابية والسلفية المتخلفة ارسخ علما من الدكتور كريمة؟، وهل هم أكثر غيرة على مذهبه منه؟، لماذا كل هذا الخوف من الشيعة؟، وهل الدكتور كريمة يجهل المذهب الشيعي ولا يمكنه الوقوف على مبادئه إلا في إيران وهو العالم بكل المذاهب الإسلامية ؟، فالرجل درس الفقة الإباضي في سلطنة عمان أكثر من ست سنوات؟، السبب ليس هذا وذاك ، السبب الرئيسي يكمن في الفكر الوهابي السلفي المبني على الفتنة والصراع والنزاع والتكفير ، وهو فكر يأكل كالأرضة كل بعد إنساني في الإنسان ، فهؤلاء الناس يختلقون ألف عدو وعدو من اجل ان يؤكدوا وجودهم القائم على النفي والرفض والتزمت والتخلف ، ويكفي مراجعة سريعة لفتاوى مشايخ الوهابية في السعودية وأذنابهم ممن يدعون بمشايخ السلفية في مصر ، حتى نستشعر حربا ضروسا تشن على الحياة والعلم والثقافة والمرأة والعدالة والمساواة ، وهي فتاوى تلصق ظلما وعدونا بالرسول الكريم (ص) وبالسلف الصالح ، دون حياء او خجل.
إن على الأزهر الشريف أن يحذر من تسلل السلفية إلى حصنه الشامخ ، مستغلة الظروف الاستثنائية التي تمر بها مصر ، وأن تستغفل السذج من خلال الدفاع عن الصحابة الأجلاء ، فأن الهجمات الإرهابية التي تشن على القوات المسلحة المصرية ، وجرائم قطع رؤوس الجنود المصريين في سيناء والتفجيرات التي تشهدها القاهرة ، والجريمة الداعشية بامتياز والمتمثلة بقتل الشيخ حسن شحاتة ، وجرائم تكميم الأفواه والتهديد بالطرد والمحاكمة للعلماء الأعلام وقراء القران والإعلاميين والمفكرين والفنانين ، ما كانت لتحصل في مصر لولا تسلل الفكر الوهابي السلفي إلى مصر.
على علماء الأزهر أن يحولوا دون تحول مصر إلى باكستان ثانية ، فالقاعدة و “النصرة” و “داعش” و”أنصار الشريعة” و بوكو حرام” و “أنصار بيت المقدس ” وكل التنظيمات والأحزاب السلفية في العالم خرجت من رحم الوهابية ، وإذا ما تباينت بعض مواقف هذه التنظيمات بين بلد وآخر ، فالسبب الظروف المحيطة بها والتي لا تسمح لبعضها ان تكشر عن أنيابها وبشكل علني ، كما هو حال السلفية في مصر.
مسؤولية علماء الأزهر الشريف جسيمة جدًّا ، فالوقت ليس في صالح الأزهر والشعب المصري ، ولابد من الوقوف في وجه الوهابية السلفية قبل فوات الاوان ، وأن ما يحدث في العراق وسوريا وليبيا وباكستان وأفغانستان ونيجيريا ومالي والصومال ، إلا جانب بعض عبث الوهابية السلفية في المجتمعات العربية والإسلامية ، التي كانت يومًا ما تستصغر الوهابية والسلفية وتقلل من شأنها.