يوم من أيام النجف ..رائعة مكي زبيبة.. رواية خَلَّدت مبدعها فأوصى بدفنها معه
عبد اللطيف الموسوي ..
هل يمكن أن يوصي مؤلف ما بدفن كتاب معه ؟ في مدينة مثل النجف الأشرف وإزاء أديب إنساني حد النخاع ينتسب لتلك المدينة ، مثل الراحل مكي زبيبة، يمكن أن يحدث هذا الأمر ،ولعمري إن رواية مثل “يوم من أيام النجف “، لتستأهل أن تدفن مع مؤلفها ،وقد نفذت وصيته بالفعل.وكيف لا ، وقد قال عنها المرجع الديني السيد عبد الأعلى السبزواري (قدس سره) إنها (أحلى ما كتب عن النجف).
مكي زبيبة روائي خلد رواية، و”يوم من أيام النجف “رواية خلدت كاتبها ،فعندما كان زبيبة يكتب روايته، كان”كأنه يكتب من داخل أسوار الصحن الشريف والفسيفساء والريازة والبلاط المرمري والاستدارات المذهلة للأقواس الأخاذة والذهب الذي ينساب على كل شيء والمآذن التي يكبر عليها اسم الله العظيم والحمام الذي يرسم بأجنحته واحة الأمان ( اللهم إن قلوب المخبتين إليك والهةٌ) وتستمر الصلاة، ليستمر النشيد ينساب بداخله أولاً ثم يتفجر من تحت جلد النجف الصخري”.
رواية “يوم من أيام النجف”هي الرواية الوحيدة التي قرأتها أكثر من ثلاث مرات ،لأنها ببساطة كانت عبارة عن سياحة في عالم تلك المدينة السحرية والآسرة ،سياحة لا تملك إزاءها ،إلا العودة إليها ثانية، حالما تفرغ منها . لقد أبدع زبيبة في روايته التي قدمها لقارئ يروم أن يعرف كل شيء عن مدينة علي بن أبي طالب “عليه السلام”،لكنها لم تكن مجرد رواية، بل كانت أشبه بلوحة أبدع في إنجازها يراع فنان متمكن من صنعته .
في كل مرة ،كنت أعاود قراءة تلك الرواية، اكتشف أشياء وأشياء ، لأنها رواية لم تؤلف لتقرأ فحسب، وإنما كتبت لتدفن مع صاحبها ، من دون أن تموت في ذاكرة قرائها، وبالفعل فقد دفنت مع كاتبها عندما توفي تنفيذا لوصيته.
تصور الرواية 24 ساعة يقضيها زائر للنجف في هذه المدينة التاريخية ،الأمر الذي يتيح للمؤلف تقديم وصف مذهل للمدينة وما تضم من مواقع تاريخية ودينية مثل الحضرة العلوية المطهرة ومقبرة النجـــــف وغيرهما بالإضافة إلى مكتباتها وسراديبها وأزقتها وكل شـــيء فيها، ولكنه ركز أكثر على الحضرة العلوية المطهرة وما تضمه من روائع وعجائب.
ويقيناً إن كتابة رواية عن النجف أمر في منتهى الصعوبة ، ذلك ” لأن النجف لا تمنح نفسها بسهولة”، كما يقول قريبه ورفيقه ناجي زبيبة ،الذي يرى أن النجف مدينة “بحاجة إلى غواصين ماهرين ليكتشفوا أسرارها، لأن الذهاب إلى هناك إلى أي مكان أسهل بكثير من المكوث هنا وأن استكشاف العوالم من خلال الحركة أسهل بكثير من استكشافها وأنت ساكن. إن التوغل في النجف توغُّل في المجهول، وقد حاول مكي وربما نجح … وربما سينجح آخرون إذ امتلكوا مهارة الغوص؛ لأن النجف مخبوءة داخل النجف وتلك مخبوءة داخل أخرى فإلى أي حد ستصل تلك هي المهمة الماجدة والنبيلة” .
عن موهبة زبيبة القصصية، يمضي ناجي قائلاً”امتلك مكي زبيبة مهارة خاصة في القصة، كان يفتش عن جزر القصة، ذلك الفن الصعب ،حتى قال أحد النقاد إن (القصة النجفية مرت بمخاض عسير وهي تنظر بعين المتتبع إلى المشهد القصصي العربي والعالمي وخطت بخطوات واثقة حتى ولدت مطلع الثمانينيات على يد مكي زبيبة ) ،وحيث ما يضع مكي الكلمة الأولى تتسع الحلقات والدوائر ليكتمل الحديث كما يلقى الحجر في الماء يرسم دوائره، إنه يخبئ أشخاصه وأحداثهم ومصائرهم داخل الكلمة الأولى كأنه يذكرنا بنظرية الكون حيث الأجيال الإنســــــــانية كلها في آدم (- عليه السلام -) ثم بدأت تتناسل ثم تبدأ القصة عنه بالانفلات حتى الكلمات الأخيرة وبعدها يصحو ليعود من سفره، يستريح من رحلته البعيدة عبر الزمان والمكان”.
وعلى عهدة ناجي ، “سمعته يوما يقول ((عرضت هذه الرواية على السيد عبد الأعلى السبزواري وقال عنها ((هي أحلى ما كتب عن النجف)). وينقل عبد الإله الصائغ عن الروائي الكبير عبد الرزاق المطلبي قوله عنها( لم أقرأ في حياتي رواية أعظم منها ، لا عراقيًّا ولا عربيًّا ).
عنوان الرواية
اختار زبيبة ،في بادئ الأمر، لروايته عندما كانت مخطوطة عنوان ( في رحاب علي بن أبي طالب”،غير انه استبدل هذا العنوان في ما بعد لتصدر بعنوان”يوم من أيام النجف” ومن دون شك، فإن أسبابًا منطقية دعته في حينه إلى استبدال عنوان روايته ، في مقدمتها ضمان أن يرى جهده النور ، وتفادي تعرضه لمضايقات من النظام السابق ، وبرغم ذلك فإن عبد الإله الصائغ يرى أن صدور هذه الرواية كان استفزازًا كبيرًا لقوى الأمن والمخابرات في النجف !
كان مكي زبيبة يعد روايته هذه بمثابة ولد من أولاده وقد صرح بذلك لصديقه ذياب مهدي آل غلام الذي يتحدث عن واقعة إهداء مكي الرواية له كما يأتي”حين التقينا مصادفة، وأنا أتخذ الطرق الفرعية للاختفاء من مطاردة الأمن البعفاشستي في (عكد خانية ) في دخلة صغيرة تؤدي إلى شارع الخورنق أمام بيت من بيوت البو زيارة ، فرحت وانسرّ هو : ذياب وينك مشتاق ؟ تلفت خلفي ومن ثم عانقته وبكينا قلت : أستاذ مكي أنا مطارد ، هؤلاء لا يريدون أن أتنفس فنًّا أو أدبًا ولا حتى عطاء للأجيال تربويا المهم “اشلونك “يا أيها القديس النجفي .
ضحك من أعماقه وكأنه طفل يتمتع بحلوى العيد :ذياب لا أخلص من تصوراتك ، ضحكت وقلت : له أقسم يا مكي أنك راهب دير (الحنانه) .ارتفعت ضحكته مرة أخرى وقال : لا يسمعك أحد فالحنانه قلت له : مكي لن أنساك . ضحك من جديد وقال “ذياب أنت أبو البلاوي فكني “
قلت له: أستاذ مكي سمعت إن كتاباًً جديداًً لك عن النجف صدر الآن .ابتسم ، وقال من يخلصني من ابن غلآم ؟ وضع حقيبته السوداء أرضًا وفتحها وأخرج كتاباً أنيقًا كأنه مصباح أخضر بغلافه الجميل ،لإيوان من الصحن الحيدري ، هكذا تراءى لي ، قلت له مازحاً:أستاذ مكي هذا كتاب لو (علك أخضر) وربما من تشابيه عاشوراء في (موكب عزاء الدروغي ) حين يرتدي الأطفال ملابس خضراً ؟ وبصوت خفيض قال: يا ملعون : إنها صورة جميلة نعم هذا طفل من أطفالي لكنه مفعم بالحياة النجفية، إنه (يوم من أيام النجف).
ولم ينسَ مكي زبيبة أن يقدم جانبا كبيراً من تجربته الضخمة في محراب الوطن.. وحتى في هذا الشأن كانت لفتته صوفية تعبر عن الانتماء الصميمي فقد كتب أربع روايات أخرى هي : “رجال الفوج الثاني، وهكذا الرجال، وتجليات في ممرات الشهادة، وممرات مضاءة”. وكانت هذه التجارب الأربع تعبر بصدق عن مكي زبيبة الإنسان فهو طيب القلب وشرطه الوحيد على صديقه أيا كان هو أن يكون طيب القلب أيضا، ومقياس الإبداع في الكتابة عنده هو أن تكون طيب القلب، فعنده أن الكاتب لا يمكن أن يكون أخلاقياً ولا أخلاقياً بوقت واحد فالطيبة عنده تكبر وتكبر حتى تصبح قانوناً عاماً في الحياة. والإعلان عن النيات الطيبة عنده هو رد فعل ضد الإعلان عن النيات الخبيثة عند الآخرين، فالموقف الأخلاقي عنده يتجسد بالشعار الأخلاقي في الممارسة الأخلاقية، فلا تجد عنده بطلاً شريراً يغلف شره ويدافع عنه، إن جميع أبطاله طيبون، فهم ربما يمتلكون خفة دم ويشاكسون ضد بعضهم ولكنه مكنهم جميعاً من أن يهرولوا فوق الســـــطر الذي كتــبوا عليه (الطيبة).
وماذا بشأن لغته؟
يرى ناجي أن زبيبة” لغة مفتوحة تكتنفها الشاعرية ،حتى تكاد الشاعرية تكون صفة ملازمة للغته في أكثر لحظات القص توترا ،التي تستدعي من الكاتب لغةً اكثر حدة، وتتصاعد لديه حتى تصل باللغة إلى مرحلة التوهيم فترسم مجموعة من علاقات مبتورة مثل (أرى صوتي يتصاعد عالياً نحو السماء) أو (إنني سأرسم عشقي) أو (ماذا يفعل أمام كتل التصميم) وتتبلور كلماته الشعرية إلى قصيدة شعر أحيانا وإن لم يعرف عنه انه كان شاعراً”. بل ويرى أن زبيبة قد “ألغى المساحة التي كانت تفصل بين القصة والشعر”.
ولد مكي زبيبة في عام 1937، وتوفي في 29 شباط 1992 .
عنه يقول قريبه ورفيقه ناجي زبيبة إن مكي ترك دراسته وهو في الصف الثالث الابتدائي ودخل معترك الحياة، فأصبح عاملاً ميكانيكيا في مثل هذا العمر المبكر، لكنه كان يقرأ كل ما تقع عليه عيناه، ثم دخل الامتحان الخارجي للدراسة الابتدائية ونجح بتفوق وهكذا كان الحال مع الصف الثالث المتوسط ، ليعود ثانيةً إلى مقاعد الدراسة، فدرس في الوجبة المسائية الصفين الرابع والخامس الأدبي واجتاز امتحانهما بنجاح. وتحول محل عمله إلى منتدى أدبي صغير يرتاده محبو الأدب وعشاق الكلمة المضيئة ثم دخل كلية الفقه وتخرج فيها عام 1970 وعين مدرساً للغة العربية.
النجف في عينيه
لماذا يؤلف زبيبة رواية بأكملها عن مدينته النجف ؟ إذا تقصينا العلاقة بينه وبين مدينته ، سنعرف حينئذ الإجابة على هذا السؤال ، عن هذه العلاقة ،يقول قريبه ناجي “هكذا عرف مكي زبيبة النجف ،أبوابها مفتوحة نحو السماء، مدينة تستحم بالضوء والصلوات، كانت هذه الكلمات أثيرة إلى نفسه يكررها دائمًا، وبتكرارها تتركز في الذاكرة كأنه يشير إلى هذه الصلوات لمن يراها”..أجل،ارتبط زبيبة بمدينته ارتباطاً وثيقاً ،وسعى إلى خدمتها ثقافياً ، ولعل روايته”يوم من أيام النجف”هي الدليل القاطع على تعلقه وولعه بها ووفائه لها …