حمام الحضرة أمّة تسبح اللهَ حول قبة الإمام عليٍّ (عليه السلام)
462
شارك
تحقيق: حيدر حسين الجنابي
ترفرف بأجنحتها فوق القبة الذهبية، بين الأواوين والأروقة المزينة بالزخارف والآيات القرآنية، ترتل نشيدَ الحُبِّ لعليٍّ وتشدو به هديلًا يمنحك الإحساسَ بالسلام والطُمَأْنينة، فينتابك شعورٌ بالراحة والانبهار حينما تراها.. إنها الطيور المحلقة حول المرقد المقدس لأمير المؤمنين (عليه السلام)، في المدينة التي شرَّفها الله تعالى بذلك المرقد؛ مدينة النجف الأشرف.
فالحمائم تبيتُ ليلَها وعيونها ترقب تباشير الصباح الأولى. تجوب في دنيا الأمل، وتقضي حياتها بين روحانية المكان المقدس وعبق الذكريات.
ولطالما اعتقد الناسُ أنَّ هديل حمام الحضرة عند الفجر، هو مناجاة الطيور وتسبيحها لله تعالى، حيث يتناغم الهديل بقوة وخشوع مع تسبيحات المآذن تمهيدًا لرفع الأذان .
وللحَمَام – أوحَمَام الحضرة، – كما يسميه النجفيون وزوار الإمام عليٍّ (عليه السلام)- قصص وحكايات ترويها ذكرياتهم لمنظره وهو يحلِّق بين الترابِ والذَهَبِ، ويصفقُ بأجنحته بين القبّة والمآذن وشرفات المنازل في مدينة أبي ترابٍ عليِّ الدُّرِّ والذهبِ المصفَّى .
وللهِ درُّ الشاعر النجفي سيد غياث البحراني إذ يقول :
هذا عليٌّ مُغيثُ اللاجئينَ بِهِ
بابُ الحوائجِ حامي الجارِ والحجرِ
حتى الحمامُ احتمى في طُهْرِ مَرقدِهِ
من بعد ماشرَّدته غربةُ الشجر
يقول مرتجى حسين (55 عامًا ) “يذكر لي أحد أجدادي، أن أحد أمراء الهند زار قبر الإمام عليٍّ (عليه السلام) منذ مئات السنين، وأهدى له مجموعة من الطيور، بدأت تتزاوج وتتكاثر و تبني أعشاشها وسط العتبة العلوية المقدسة، ثم انتقلت إلى البيوت المجاورة في محلات النجف القديمة كـ “البراق، والمشراق، والحويش، والعمارة، وسكنت أسطح المنازل والأبنية العالية، ثم أخذها الناس إلى المحافظات المجاورة، وخصوصًا إلى العتبات المقدسة في كربلاء والكاظمية وسامراء، فضلًا عن الأضرحة والمراقد الأخرى “.
ويوضح محمد عبد الله (60 عامًا)، وهو يعمل خادمًا في العتبة العلوية: ” منذ ستينيات القرن الماضي وأنا أُطعم الكثير من حمائم الحضرة، وأضع لها الماء وحبوب الحنطة والشعير، وكانت مجاميع الحمائم كثيرة جدًّا إلى درجة أن المجموعة الواحدة يتراوح عددها بين 40 إلى 65 طائرًا، فهي لا تغادر المكان أبدًا، بل تحلِّق في النجف، وترجع إلى أعشاشها داخل الصحن الشريف “.
ويتابع محمد : ” كنت أجد بعض الحمائم تحمل رسائلَ إلى مرقد الإمام عليٍّ، وأشاهد وجود شيء مربوط بقدم الطير أثناء وقوفه في إحدى الشرفات، أو أثناء دخوله إحدى الغرف، أو عندما يحطُّ على الأرض ، فأمسكه وأقوم بفتح الخيط المربوط في قدم الطير، ثم أفتح الورقة، واقرأ الرسالة، وغالبًا ما أجد مكتوبًا وسط هذه الأوراق أسماء نساء ورجال وأطفال، أوطلبًا لقضاء حاجة، أوتوسُّلًا للشفاء من الأمراض، بعدها آخذ الورقة وأذهب لأرميها من شباك القبر المقدَّس “.
وتؤكد الحاجة أم حسن (70 عامًا)وهي من سكنة محلة المشراق: ” كانت والدتي (رحمها الله) تزور المرقد الطاهر للإمام عليٍّ كلَّ يوم أحد، وأنا أذهب معها وأشاهد المنظر الجميل للحمائم وهي تحلِّق فوق قبة الإمام(عليه السلام)، فكنت أنتظرها حينما تنزل الأرض، وأهرول إليها لعليّ أمسك واحدة منها، وينتابني فرحٌ كبير وأنا أنظر إليها كيف تهرب مني مسرعة، وأشاهد أمي تنظر إليَّ من بعيد وتشجعني على صيد الحمائم، ولطالما انتظرت بفارغ الصبر أن يأتي يومُ الأحد المخصوص لزيارة الإمام (عليه السلام) لكي أذهب إلى مولاي أبي الحسن فأزوره وأشاهد الحمام “.
ويشير إبراهيم الحداد (47 عامًا، من سكنة محلة الحويش): “رغم أن منزلنا يبعد عن المرقد الطاهر (400) متر تقريبًا إلا أن الطيور تملأ شرفات السطح وجدرانه يوميًّا، وكان والدي يقدم لها الماء، وأمي تأمرني بإعطائها بعض فتات الطعام، وكثيرًا ما كانت والدتي تُسعَدُ بزيارة هذه الطيور لأنها طيورٌ مباركة، ووجودها في دارنا يجلب لنا السعادة والخير، فهي تعيش في مرقد الإمام عليٍّ (عليه السلام) )”.
ويوضح علاء المرعبي (37 عامًا): “تعتبر حمائم الحضرة من رتبة الحماميات ومن عائلة (columbidae)، ويطلق عليها بالإنجليزية اسم (Rocing pigeon) ، و(Fancy pigeons) وهو نوع من بين 300 نوع في العالم، وتهاجر بين أوروبا وشمال إفريقيا وآسيا ، ولها أسماء عربية كثيرة، منها الحمام ، حمام العرض ، حمام الزينة، وحمائم السباق. وقد تعارف النجفيون على إطلاق اسم ((حمام الحضرة)) عليها .
وعن سبب حُبِّ الناس لحمام الحضرة يقول إحسان جبار: ” إن ألوانها المتداخلة والممتزجة بين الأسود والرمادي والأخضر هو ما جعلها مميزةً بين الطيور ، فضلا عن ألفتِهِا، ومنظرها الذي يوحي بالأمان والسلام والطُمَأْنينة وهو يتنقل بين الزائرين “.
أما المصوِّر غسان منير فيبيِّن فيقول : “سنوات طويلة أعمل في التصوير وصورت آلاف الزوار من دول عربية وإسلامية وأجنبية، كما شاهدت الكثير من الناس يلتقطون الصور مع الحمام من وفود دينية إلى عوائل وأفراد”.
ولـ نور عباس حكاية وذكريات حدثتنا عنها :” أرمي للحمام الحبوب وبقايا الطعام، وكنت مع والدتي وأخواتي نجلس على ((دكة)) أحد الأروقة في الزاوية اليمنى من باب القبلة، وكثيرًا ما كنا نأتي لزيارة الإمام وتوزيع النذور، وبعضها كان نذرًا لحمام الحضرة يتعلق بأمنية آو طلبٍ قد تحقق، وكثيرًا ما ننذر الطعام لها “.
وتتابع نور: ” نعتبرالطيور الموجودة في مشهد الإمام عليٍّ (عليه السلام) مباركة، وهي جميلة جدًّا ،ولها خصوصية عند أبي الحسن(عليه السلام) ، فضلًا عن كونها تعبد الخالق طوال حياتها، وهذا ما ذكره القرآن الكريم، بأنها أُمَّةٌ مثلنا ولكن لا نعرف عالمها “.
أما الشيخ ياسر جاسم (15عامًا) فيرى أنه :”ليس عجيبًا أن يعيشَ الحمامُ ويسكنَ في المرقد ، فالمكان مقدَّسٌ، ووجودها في مكان مملوء بالملائكة والروحانية جعلها طيورًا مباركة تسر الناظرين ، فحمائم الحضرة تحلق في السماء وتقف يوميًّا على قُبَّةِ الذهب لتعطر روحها، وتمسحَ ريشَها في أقدس مكان، وهي تنظر إلى السماء، وتسبِّح الله ما طلعت شمس وما غربت.
يقول تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ…}الأنعام/38. كما يقول عز من قائل{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ…}الإسراء/44 . فهي أمم أمثالنا إذن، تسبِّح اللهَ لكن لا نعرَّفُ لغتَها.
وكأنَّ تسبيحًا هديلُ حَمامةٍ
في مَجْدِ ربِّكَ أُلِّفَتْ سَجَعاتُها
ويضيف أحمد حسين (44 عاما): ” هذه الطيور موجودة في العالم وسط الساحات والأماكن الأثرية والتراثية والمراقد وغيرها، إلا أن الحمائم الموجودة في النجف الأشرف هي أفضل منها كلها، لبركة وجودها في مرقد الإمام عليٍّ (عليه السلام)، فهي تعبد الله سبحانه وتسبح له، وتقضي حياتها بين تكبيرات الأذان وصلوات الزائرين، ودعوات الموحدين، وتستنشق أنفاس المؤمنين، ولعل الكثير من الزائرين قد غبط حمائم الحضرة، لأنها تولد وتموت في مرقد أمير المؤمنين، فهي تفتح أعينها فجرًا في حضرته، وتغفو في جنبه (عليه السلام).
ويشير الحاج علي (37عامًا) وهو زائر من البحرين : ” أُحسُّ بالاطمئنان والسلام حينما أنظر إليها، وأتمنى أن أكونَ حمامةً تسكنُ ضريحَ الإمامِ، وأعيشَ في جواره، لأنَّ النظرَ إلى مرقد عليٍّ (عليه السلام) عبادة “.
أما الطفلة نور الزهراء فتقول ” أراقبها كيف تطير وتتحرك، فقد أمسكتُ حمامةً واحدةً ولمستُ ريشَها الناعمَ الجميلَ، ثم تركتها تطير لأني أخافها، وأخاف الاقتراب منها وإمساكها بيدي ، وعندما أرجع من الزيارة أتمنى العودة مرة أخرى لأزور الإمامَ عليًّا وأرى حمام الحضرة “.
ولعلَّ المجتمعَ النجفيَّ كان يكرهُ أكلَ حمام الحضرة، بل يعتبرمجرّد الإمساك بإحدى الحمائم، تجاوزًا على مرقد الإمام عليٍّ (عليه السلام)، ورغم وجود الأبنية العالية إلا أن حمامَ الحضرةِ لم يسكنْ في مكان آخر، ولم يتجانس مع فصائل الحمائم الأخرى، ومازال يحتفظ بجنسه وفصيلته ولونه.
لطالما هجر النجفيون بيوتهم إلى أماكن أخرى بسبب الظلم والتعسف، لكنْ وحدها الحمائمُ في مدينة النجف لا تهاجر من وطنها، ذلك أنها اتخذت من الحضرة العلوية الشريفة وطنًا سرمديًا لها.