مقبرة وادي السلام في النجف صرح تاريخي يفتقد الحماية
818
شارك
النجف الأشرف ، الحكمة – (خاص من: آلاء شاكر):
تقاس حضارة الأمم بعمق آثارها وقدمها، وأي منطقة أثرية في أي بقعة في العالم تعتز بأصغر قطعة أثرية لديها ، إلا في العراق فالوضع مختلف تمامًا، فما تتمتع به النجف الأشرف من مميزاتها التي تتصدرها أنها مدينة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهذا شرف ما بعده شرف ، فكذلك تتميز النجف الأشرف بأنها تحوي أكبر مقبرة في العالم، وهي مقبرة وادي السلام التي تضم قبورًا يعود تاريخها إلى آلاف السنين، هذا الإرث التاريخي الكبير بات يفتقد للحماية الدولية التي يمكن لها أن تحافظ على ما تبقى من تلك الآثار، إذ لم تولِ الحكومة العراقية أي اهتمام بهذا الصرح التاريخي، فأصبحت الشوارع تشيَّد فوق القبور لتضيع معالم الكثير من القبور القديمة التي تمكن أن تسجل تاريخًا تتناقله الأجيال على مدى العصور .
العمق التاريخي والأدبي
الدكتور حسن عيسى الحكيم تحدث عن العمق التاريخي لمقبرة وادي السلام قائلًا: إن من يدخل إلى وادي السلام ويقوم بعملية مسح للمقبرة يجد معالم تاريخية تحدد العمق التاريخي لها، وذلك من خلال الكتابات الموجودة على القبور، فهناك قبور تعود إلى مئات السنين وهي وثيقة تاريخية مادية ، فنحن عندما نريد أن نكتب أو نؤرخ عن منطقة أثرية، فإن الأثر الموجود سيوصلنا إلى الحقيقة التاريخية التي من خلالها نستطيع أن نحدد المدة التاريخية للحدث ، فكانت توجد مقبرة للبريطانيين في النجف الذين قتلوا في ثورة العشرين على أيدي الثوار، وكذلك كانت مقبرة للهنود الذين كانوا يمكثون في النجف لمدة طويلة، ولهم مؤسسات في النجف، فكانت لهم مقبرة بين النجف والكوفة، وهاتان المقبرتان قضي عليهما من أجل توسيع الشوارع، رغم العمق التاريخي الكبير لهما، لأنهما تمثلان قِدَمًا يعود لمئات السنين، وكان بعض السلاطين من الهنود يُدفَنون في وادي السلام، فكانوا يوصون بالدفن في وادي السلام، وكانت تأتي جثثهم إلى النجف على شكل ودائع (عظام فقط )، فكان السلطان يدفن في أرضه وبعد أن تتفسخ الجثة وتصبح عظامًا تنقل إلى النجف لتدفن في مقبرة وادي السلام في كيس، وذلك لظروف سياسية أو اقتصادية أو لبعد المسافة، مع وجود وسائط النقل البسيطة جدًّا في وقتها، وهذه القبور الأَولى تاريخيًّا أن يتم الاحتفاظ بها لتبين تاريخ المنطقة.
وأضاف الدكتور الحكيم قائلًا: ومن الناحية الأدبية فمن يدخل القبور سوف يجمع منها مادة أدبية تكون دواوين من الشعر، في الرثاء الموجود على المقابر، وهذا الشعر يمثل حدثًا تاريخيًّا واجتماعيًّا، ويتم من خلاله تحديد صفة صاحب القبر من شيخ عشيرة أو زعيم سياسي، وعندما نجمع هذه المعلومات سنحفظ ثروة شعرية أدبية، وهي لن تكون موجودة في الدواوين والمصادر الشعرية الموجودة ، كما يمكن جني ثروة نثرية في الرثاء من الكلمات المكتوبة على القبر، وهذا سيعطي ثروة أدبية كبيرة.
مكانتها الدينية
أما عن العمق الديني لمقبرة النجف، فقد تحدث الدكتور حسن الحكيم قائلًا: لو أردنا أن نتحدث عن العمق الديني، فإن هناك روايات، وهذه الروايات موثقة تاريخيًّا عن قضية الدفن في أرض النجف، أولا لأن الإمام عليًّا (عليه السلام) دفن بين آدم ونوح عليها السلام، وهما نبيان، والنبي نوح قد صنع سفينته في هذا المكان، ولهذا سميت النجف بأرض الجودي وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله {واستوت على الجودي} والجودي هو المرتفع، بمعنى أن النجف مرتفع والبحر منخفض، وسفينة نوح قد رست في منطقة بحر النجف، كما أن النبي إبراهيم الخليل (عليه السلام)، في أثناء رحلته، مكث في النجف مدة من الزمن وهو في طريقه إلى الشام، لذا فإن قدسية المكان هي التي جعلت الإمام عليًّا (عليه السلام) يدفن فيها، فالإمام قبل استشهاده يأتي إلى النجف ويقف على الموضع ويقول إن شاء الله سيكون مدفني هنا، إذن الإمام حدد مدفنه بين أكثر من نبي ، كما أن النجف سميت بالغري، وقد جاء هذا الاسم من دفن اثنين من ندماء النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وكل قبر من القبرين يسمى الغري لأن القبر كان يغرَّر أي يجصَّص ، والإمام علي (عليه السلام) عندما كان يأتي إلى المنطقة يوصي بأن يدفن بين الغريين ويعني هذين القبرين، كما تعرف النجف بأرض الطور، أي طور سيناء، وهو المكان الذي وقف عليه النبي موسىع (عليه السلام) ، فالامتداد الجغرافي لهذا المرتفع ( أرض النجف ) يمتد إلى أرض الطور (طور سيناء)، وهذا الامتداد حصل فيه تقطع نتيجة زلزال، ولهذا فإن أرض النجف هي جزء من أرض الطور التي وقف عليها النبي موسى (عليه السلام) ، أما مرقدا النبيين هود وصالح (عليهما السلام)، فهناك الكثير من الروايات تؤكد على دفن النبيين في مقبرة النجف، ومنها روايات تاريخية قديمة شخصت المرقدين ، وفي مقبرة النجف يوجد مقام الإمام الصادق (عليه السلام) فقد صلى فيها ومقام الإمام المهدي (عليه السلام) أيضًا صلى في هذا الموضع ،كما يوجد في مقبرة وادي السلام مدفن (صافي صفا) وهو غثيب اليماني الذي دفن قبل الإمام علي(ع)، وقد أوصى في اليمن أبناءه، بأن يدفن في أرض الغري (النجف) إذا مات، فسأل لماذا؟ قال إن هذه الأرض سوف يدفن فيها رجل يشفع لربيعة ومضر! وفعلًا جيء به من تلك المسافة البعيدة التي تستمر لأشهر، ودفن في النجف، وقد ساعد الإمام في دفنه وصلى عليه، وكذلك مدفن خباب بن الأرد، وهو صحابي مات فدفنه الإمام علي (عليه السلام) في الثوية (أرض في النجف) وكان الإمام علي (عليه السلام) يأتي مع الصحابي كميل بن زياد النخعي أيام خلافة الإمام إلى هذه المنطقة ليحدث كميل بأحاديث الوعظ.
وكل هذه الأمور أكسبت مقبرة وادي السلام في النجف أهمية دينية، وبعدًا دينيًّا كبيرين، ولهذا فإن مقبرة وادي السلام لم يدفن فيها الشيعة فقط، بل هناك الكثير من طوائف أخرى دفنوا في مقبرة النجف، وأقرب مثال على ذلك هو أن مدير عام الشؤون الإدارية في وزارة التعليم العالي، أوصى إذا مات أن يدفن في النجف، وهو سني المذهب ، والكثير من أتباع المذاهب الإسلامية يوصون بأن يدفنوا في النجف ومقابرهم موجودة .
الفن المعماري
واستكمل الدكتور الحكيم حديثه قائلًا: أما من الجانب العمراني فإن هناك قبورًا في مقبرة وادي السلام شيدت بفن معماري لايوجد له مثيل في العالم أجمع، فقد بنى هذه القبورَ العاملون في المقبرة، وأصبح هذا البناء يتوارث من جيل إلى آخر فكان الأبناء يرثون الآباء في هذا اللون من البناء، وهذا الإتقان الفني المعماري للقبور، لو لم يكن موجودًا لكانت مقبرة النجف تصل إلى منتصف طريق كربلاء، فهناك مقابر لأسر كبيرة، حيث يكون القبر بفوهة صغيرة لكن عندما تدخل من خلال الفوهة تجد مئات المقابر في باطن الأرض، هذه المقابر لو نشرت تأخذ مساحة كبيرة، إذن فهي قد حفظت لنا أعدادًا هائلة بمساحة صغيرة، وإن من ينزل إلى هذه المقابر ينزلها عاموديًّا إلى الأعماق، علمًا أن هذه المقابر كانت المخبأ الآمن للمعارضين الذين انتفضوا في أحداث عام 1991 على نظام الحكم، وقد حيرت هذه المخابئ أزلام ذلك النظام في البحث عن هؤلاء المعارضين ، وهذا اللون المعماري للقبور انفقد في المقبرة الحديثة في النجف، فقد منعت مديرية بلدية النجف البناء العامودي للمقابر، وأصبح الدفن الأفقي هو القائم، وهذا الدفن الأفقي يأخذ مساحة كبيرة جدًّا من الأرض، فلو قدرنا عدد الأموات الذين يدفنون في النجف حوالي(100-200 ميت) في اليوم الواحد، وعندما نريد نشرها يوميًّا ستأخذ مساحة كبيرة فكيف على مدار السنوات المتعاقبة معنى ذلك ؟ إن القبور ستأخذ بقعة كبيرة جدًّا من الأرض ولابد أن تفكر الدولة بإيجاد مساحة منفتحة على أن تكون بعيدة عن السكن.
المقبرة بحاجة إلى محمية دولية
وعن حاجة مقبرة وادي السلام إلى محمية دولية تحافظ على القيمة التاريخية لتلك المنطقة تحدث الدكتور الحكيم قائلًا: للأسف الشديد إن المسؤولين في العراق عامة وفي النجف على وجه الخصوص، لم يعوا القيمة التاريخية لهذه المقبرة، وكذلك مديرية بلدية النجف، وحتى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية المعنية بالأمر، ولذلك تقوم الحكومة بفتح شوارع على القبور التي يمكن أن يعود تاريخها إلى مئات السنين، فاليوم العالم يعتز بمآثره القديمة لأنهم يفهمون قيمة التاريخ ، ومقبرة وادي السلام بحاجة إلى محمية دولية تضمنها منظمة اليونسكو الدولية، لأن هذه المنظمة ضمنت حماية العديد من الآثار التاريخية في العالم، وهذه المقبرة فيها آثار تاريخية لها عمق تاريخي مهم وكبير، ومع وجود المحمية الدولية لن يستطيع أحد أن يتجاوز على الآثار إن تمت حمايتها من قبل منظمة عالمية دولية مثل اليونسكو.
توجد قبور قديمة جدًّا
الدفان علي جبور الشمري يعمل في مجال دفن الأموات في مقبرة النجف منذ ما يقارب أربعين عامًا، أي منذ أن كان عمره (16 سنة ) فهو أقدم دفان في مقبرة وادي السلام، تحدث عن قيمة هذه المقبرة قائلًا: مقبرة وادي السلام دفن فيها أموات من كل الأطياف والأديان، فتجد الشيعي والسني واليهودي والصابئي، وما زالت مقبرة النجف يدفن فيها أموات من أغلب دول العالم، وتوجد قبور قديمة جدًّا تحمل تواريخ قديمة ولا يعرف طريقها أحد غيري، باعتباري قديم في هذه المهنة، فقد كانت المقبرة في السابق عبارة عن عمل حفرة في الأرض يوضع فيها الميت ثم تغطى الحفرة وتوضع في موضع الرأس قنينة زجاجية فيها ورقة مكتوب عليها اسم الميت وسنة دفنه، وكان الناس يستدلّون على قبورهم من خلال الورقة الموجودة داخل القنينة ، إلى أن جاءت فكرة بناء المقابر العمودية، وذلك عندما نزل الدفانون إلى قبر الإمام علي (ع) في السرداب الداخلي للقبر فوجدوه مقسمًا إلى مخارج، فطبقوا فكرة البناء، وقد نجحت معهم طريقة البناء العمودي، وكل قبر يحوي ألف ميت، ولولا تلك القبور لوصلت المقبرة إلى محافظة كربلاء، علاوة على أن النجف هي أيضًا مسكن، وهذه القبور ساعدت كثيرًا في اختصار مساحة الأرض.
وأضاف الدفان علي قائلًا: لقد ضاعت الكثير من آثار هذه المقبرة، فالشارع الذي تم فتحه على القبور أضاع أقدم آثار للقبور في النجف، فكانت فكانت هذه القبور تضم رفات الوزراء في زمن الأنظمة المتعاقبة على العراق، وحتى ثوار ثورة العشرين كانوا مدفونين فيها ، بالإضافة إلى وجود قبور لعلماء الدين القدماء منذ عصور مضت، ومنهم العراقيون وغير العراقيين، وكذلك كان فيها قبر ضابط الأمن الخاص بتعذيب السجون في زمن الرئيس عبد الكريم قاسم وهو الضابط (ناظم كزاز)، ناهيك عن الإنكليز والبريطانيين الذين كانوا يدفنون مع مقتنياتهم، ولولا تدخل المرجعية الدينية في النجف الأشرف، ربما فتحت الحكومة شوارع أخرى على باقي المقبرة.