فتوى أمنية مثيرة للجدل .. إخلاء الكاظمية من السافرات

277

23-9-2012-1

انشغل الشارع العراقي بلافتات في شوارع الكاظمية تعلن قرار منع السافرات من الدخول إلى كل أحياء المدينة، بعدما أثار القرار ردود أفعال مختلفة، في وقت تضاربت فيه الأنباء عن الجهة التي أصدرته، نفت وزارة الداخلية والإدارة المحلية لمدينة بغداد أي مسؤولية عنه.

كان منع دخول السافرات إلى بعض أحياء مدينة الكاظمية، التي تضم ضريح الإمام موسى الكاظم (ع)، أمرًا مسلّمًا به، غير أن توسّع دائرة المنع لتشمل كل أحياء الكاظمية أثار حفيظة شريحة واسعة من المواطنين، واستغراب أصحاب المتاجر في المدينة. فقد انتشرت في الشوارع لافتات تحمل تحذيرًا للنساء السافرات والرجال غير الملتزمين بالمظهر الخارجي المحتشم من دخول المدينة، وتلوّح بمحاسبة من لم يلتزم بالقرار. كما ظهر مَن طالب بسجن من يخرق القرار، أو فرض غرامات مالية عليه.

حتى عشية صدور هذا القرار، كانت الكاظمية تسمح بتجوّل النساء السافرات والمتبرّجات في أرجائها، والتبضع في أسواقها، لكن تمنعهنّ من الدخول إلى الصحن الكاظمي إلا بعد ارتداء العباءة والتخلي عن التبرّج.

أتى قرار الحكومة المركزية والمحلية لمدينة الكاظمية منع دخول النساء السافرات إلى كل أرجاء المدينة تلبيةً لطلب أحد القادة الأمنيين، الذي زار المدينة لحضور مجلس عزاء فيها، وصادف أثناء تجواله امرأةً غير محجّبة، ما أثار حفيظته فطلب منع دخول غير  المحجبات إلى عموم مدينة الكاظمية وأسواقها فورًا.

ولم يكتفِ بهذا المنع، بل طالب باستحداث مديرية خاصة للشرطة، أطلق عليها اسم “شرطة الآداب”، مهمتها متابعة المظاهر التي لا تتناسب مع الضوابط الإسلامية، في الرجال والنساء على السواء، أكان ذلك في الحجاب أم الملبس أم حتى طريقة تشذيب الشعر.

نفي رسمي

من جهتها، نفت وزارة الداخلية منع النساء غير المحجبات والشباب الذين يرتدون الملابس القصيرة من دخول الكاظمية. وقال بيان صدر عن وزارة الداخلية أمس الثلاثاء إن “بعض وسائل الإعلام تناقلت خبرًا مفادهُ قيام شرطة الآداب في وزارة الداخلية بمنع النساء من غير المحجبات [السافرات] والشباب الذين يرتدون الملابس القصيرة وغيرها من ملابس الموضة الخاصة بالشباب من دخول مدينة الكاظمية. وزارة الداخلية تنفي هذا الخبر جملةً وتفصيلًا، مؤكدةً أن هذه التصرفات تقع ضمنَ إطار الحريات الشخصية، وأن دخول الزائرين من مسؤولية الأمانات العامة للعتبات المقدسة في بغداد والمحافظات، كما تؤكد الوزارة أنه لا يوجد ضمن تشكيلاتها ما يسمى بشرطة الآداب التي أشارت إليها بعض الصحف التي تناقلت الخبر”.

وفي السياق نفسه، نفى عامر عزيز الأنباري، مسؤول الثقافة والإعلام في الصحن الكاظمي، مسؤولية العتبة الكاظمية عن هذا القرار، مؤكدًا أنّه جاء تلبيةً لأوامر قادة أمنيين ومجلس محافظة بغداد والقوات المسؤولة عن حماية العتبة الكاظمية.

وقال الأنباري في تصريحات صحفية: “على مجلس محافظة بغداد وضع خطة مدروسة لتطبيق هذا القرار، لما يكتنفه الأمر من حساسية، إذ يؤدي إلى قطع أرزاق المحال التجارية، وغير ذلك من العواقب التي قد تؤثر في المدينة، وعلى شرطة الآداب ومجلس محافظة بغداد أن يبيّنوا للزائرين المناطق التي يُمنع على النساء الدخول إليها من غير عباءة الرأس، وأن يحددوا النطاق الجغرافي للقرار، وما إذا كان سيقتصر على المدينة القديمة أي العتبة الكاظمية، أم سيشمل كل أنحاء الكاظمية”.

وكذلك نفى صبار الساعدي، رئيس اللجنة القانونية في مجلس محافظة بغداد، أن يكون المجلس قد أصدر “أي تشريع أو قانون يُلزم النساء ارتداء الحجاب أثناء التجوال في مدينة الكاظمية المقدسة”.

وقال أحد أفراد شرطة الكاظمية إن “التعليمات التي جاءتنا تقضي بمنع النساء السافرات والشباب الذين لا يرتدون ملابس عادية، كالزي العربي الكامل أو البنطلون والقميص، من دخول المدينة. ولذلك سنمنع أي شاب يرتدي البيجامة مثلًا، أو البرمودة أو القميص الضيق والملتصق بالجسم. كما جاءتنا التعليمات بمنع دخول أي شاب قص شعره بحسب التسريحات الغريبة”.

وأكد الشرطي يقينه من “أننا سنواجه مشاكل كثيرة ما سيشتت جهدنا ما بين الحفاظ على الأمن والبحث عن السافرات والمتبرجات والسافرون”، كما  قال ساخرًا.

23-9-2012-2

استهجانٌ ورفض

وأعرب عددٌ من المواطنين عن استغرابهم الكبير لكل ما حصل، إذ من أفتى بهذا المنع ليس بعالم دين، إنما هو رجل أمن لا يحقّ له الإفتاء في هذه المسائل. فضلًا عن ذلك، يؤكد هؤلاء المواطنون تناقض القرار – الفتوى مع حرية العقيدة والممارسة الدينية التي كفلها الدستور العراقي.

وقالت المواطنة غفران الحداد: ” يتعارض هذا القرار مع الدستور العراقي الذي يضمن في مادته الثانية كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والأزيديين والصابئة المندائيين”.

وتضيف أن مدينة الكاظمية لا يدخلها المسلمون فقط، وهذا  القرار يجبر النساء من الطوائف الأخرى على ارتداء الحجاب، وهذا الإجبار باطل لأنه يتنافى مع الحرية الشخصية.

ثمة من ذهب أبعد من الاستهجان، ليصل حدّ الغضب من هذه الممارسات التي تنذر بخطر محدق يهدّد نسيج العلاقات الإنسانية والحريات العامة في العراق. فالكاتب وارد بدر السالم رسم صورة واضحة للمسألة، قائلًا: “قائد أمني عراقي عبقري يوصف بـالكبير، استفزته امرأة سافرة في السوق المحلي بمدينة الكاظمية، فأصدر أوامره المباشرة لتطويق المدينة بالمحجبات والمنقبات ذوات السراويل الإيرانية والبيجامات الأفغانية، محولًا المدينة المقدسة إلى كتلة ظلام من العباءات السود والدكنة الحالكة، ليحل ظلام الديموقراطية على وجوه الجميلات، كي يلتحقن بنظيراتهن الإيرانيات والأفغانيات والسعوديات في مواجهة الحياة من وراء نقاب وحجاب توشوش فيه الريح وأوامر عسس الدين الجدد”.

ووصف السالم القرار بالساذج، الصادر عن مسؤول أمني مهمته ضبط الأمن وليس قمع الحريات الشخصية. ورأى أنّ هذا القرار المرتجل يوضّح الكيفية التي آلت إليها الأمور في ظل ديموقراطية هؤلاء المتخلفين عن ركب الحياة. وختم السالم حديثه بقوله: “عورة الوطن في أمنه المنتهك، وليس في نسائه العظيمات”.

قرار يقمع الحريات

ومن جانبه، يعتقد المواطن شاكر حميد أن القرار خطير، لأنّ الكاظمية مدينة تجارية، يأتيها الناس من كل حدب وصوب، من داخل بغداد ومن خارجها، من مختلف الأديان والمذاهب، وهذا القرار “سيقمع الحرية المتاحة للجميع، وأنا أستغرب ممن يتحدثون بالدين كأنهم أوصياء على البشر، ويتحدثون بلسان أهالي الكاظمية في اللافتات التي علقت في أرجاء المدينة كأنهم أوصياء عليهم”. ويذكّر حميد بأن الكاظمية تشتهر بتجارة الذهب ولا بد أن تمرّ النساء على محلات الصاغة، “ولا أعتقد أن المسلمات وحدهن من يغريهن لمعان الذهب”.

وعلقت إحدى الفنانات على القرار متسائلة “ما ذنب المسيحية والصابئية، إن كان لا بد أن تدخل المدينة، لتغطي وجهها ورأسها في هذه الحرارة المرتفعة؟”.

أما إبراهيم السعيد، وهو من أهالي الكاظمية، فلا يشكك في قدسية المدينة الكاظمية المقدسة، “لكنها في الوقت نفسه مركز تجاري، ولا تقتصر زيارتها على زيارة المرقد المقدس، ولهذا أرى القرار يقيد الحريات العامة لأنه يشمل عموم المدينة”.

وأضاف السعيد أن قرار المنع ليس جديدًا تمامًا، “فقد كانت النساء اللواتي لا ينتعلن الجوارب يتعرضن للمضايقات، وكذلك اللواتي يرتدين التنورة التي تظهر أسفل الركبة، واللواتي يضعن مساحيق التجميل الملوّنة، وكثيرًا ما سمعت رجال دين يوبخون النساء وأزواجهن بصوت عال في الشارع العام”.

ممارسات سلبية مع سبق الإصرار

أما الصحافي وليد البياتي، فقال: “قرار أغرب ما فيه أن يأتي من رجل أمن أثناء تجواله في المدينة. إنه قرار فردي وشخصي، خصوصًا بعد نفي وزارة الداخلية ومحافظة بغداد أي مسؤولية عن صدوره. فربما أراد به أن يُعلن دكتاتورية ما، أو أن يتباهى أمام الآخرين بأنه يُصدر القرارات وينفّذها، لازمًا الشرطة في المدينة أن تتخذ الإجراءات ضد المخالِفات والمخالفين. ويكفي أن اللافتات التي ملأت شوارع المدينة تؤكد على أن ثمة ممارسات سلبية ستُمارس ضد النساء مع سبق الإصرار، ما يزرع الخوف في نفوس النساء حتى المحجبات منهن، إذ لا بد للمرأة أن تتزيّن، خصوصًا أن غالبية اللواتي يأتين أسواق المدينة من المتزوجات حديثًا”.

ودعا البياتي الحكومة أن تعلن في وسائل الإعلام رفضها لهذا القرار الفردي المجحف، لتعود الطمأنينة إلى الجميع، وإلا فالحريات سوف تنتهك.

واعتبر الكاتب والصحافي علي حسين أن “تطبيق فتوى الجنرال الأمني يعنى أن لا تدخل امرأة مسيحية أو سافرة إلى أي من أزقة وأسواق الكاظمية”. وسخر من القرار قائلًا: “ربما يتفتق ذهن ضابط الأمن الشجاع عن وضع حواجز إسمنتية للعزل بين المؤمنين والكفرة في كل مناحي الحياة العامة، وربما نجد يومًا وزير النقل يخصص وسائط نقل للمحجبات فقط، فيما وزارة التعليم العالي تعمم شعار (حجاب يصون أو تنهشك العيون) والذي تفردت فيه كلية التربية بجامعة بابل”، مستنكرًا عدم صدور بيان من وزارة التعليم العالي حتى هذه اللحظة يستهجن مثل هذه التصرفات.

وأضاف حسين: “ربما تصدر وزيرة المرأة، بما عرف عنها من كره لفكرة الاختلاط بين الجنسين في دوائر الدولة، “فرمانًا” للعزل بين الطائفتين المتحجبة والسافرة في كل مناحي الحياة، وليس في محيط مدينة الكاظمية فقط ، طالما أن جنرالنا الأمني أفتى بذلك”.

وكان حسين سيتقبل الأمر ويناقشه بهدوء “لو كان صاحب هذه الفتوى آية الله السيد حسين الصدر، الرجل المعروف بشدة تسامحه، واحترامه للرأي الآخر، وفهمه لطبيعة ونسيج المجتمع العراقي”، رادًّا بذلك على من يتهمه بتصوير المسألة أكبر من حجمها الطبيعي، مستغربًا دخول قادة الأمن مجال إصدار الفتاوى في حين تتعرض البلاد لموجة من الهجمات الإرهابية، يُتيحها عجز أمني واضح، وفشل حكومي في معالجة أبسط مناحي الحياة.

ويضيف: “وسط كل هذا، تستنفر الجهات الأمنية قواتها لتصول صولة رجل واحد على سافرات بغداد، فهل المعركة الآن في العراق بين السافرات والمحجبات، أم بين الدولة بمؤسساتها وعصابات الإرهاب ومافيا سرقة أموال الشعب وجيش الفساد المنتشر في كل مفاصل الحكومة”.

(*) العنوان الأصلي للتحقيق: بفتوى أمنية شخصية.. لاسافرات في كل الكاظمية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*