وقفة .. وتأملات
الحكمة – (خاص) :
سماحة السيد عبد الحسين القاضي (الأمين العام لمؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية)
في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات المؤيدين وتحاول من خلال ذلك كسب الموقف المضاد للحملة الجهادية في البلد اليوم.. ويعرب كلٌّ من موقعه السياسي أو الاجتماعي أن حلَّ الأزمة باتَ بيد المؤسسة الدينية التي طالما كانت تؤكد على ضرورة إيجاد الفرص الكفيلة بحفظ الأمن والاستقرار في ربوع وطننا العزيز ؛ نرى الاتهامات اللاذعة تُوجَّهُ نحو النفوس الأبيَّة – إلَّا أن تروي الثرى من دمائها الزكية – .. وتُوجَّهُ أصابعُ الاتهام صوبها بالسلب والنهب.
ليت شعري!! هل بقي مكان من الأمكنة المغتصبة يحتوي على ما يُسلَبُ أو يُنهَب؟! وهل أبقى الإجرامُ الذي نهش جسدَ الأُمَّةِ أثرًا يستحق عناءَ السلب ومؤنةَ النهب؟! ولكن كما يقول المثل الشعري: «شِنْشِنَةٌ أَعرفُها من أَخزَم ِ». حتى إذا انسحبت الأفواج محاوِلةً عدم تلويث سمعتها بعدما تخضَّبت أجسادُها بدماءِ الفضيلة والشهامة.. وانعطف من جراء ذلك ، الإرهابُ والإجرامُ على ترويعِ الأهالي والعبثِ بمقدراتهم، عادت الأصوات مرة أخرى.. وتجددت الاستغاثات بهذه الثلة من المؤمنين الذين نذروا أنفسهم خدمة لهذا الدين… وحِفظًا للمقدسات والعقيدة.. وتضحيةً من أجل المبادئ التي طالما أكدتها رسالة الإسلام العظيم.
فيا ترى ما عدا مما بدا؟! لماذا هذا الأسلوب الرخيص في زرع الفتنة وإذكاء نارها .. في الوقت الذي تحاول المؤسسة الدينية قصارى جهدها أن تحفظ الكيان العام.. وتجعلَ حصانتها الدينية والاجتماعية منعكسةً على جميع الأطياف العراقية.. لماذا هذا التلاعبُ بمقدَّرات الأُمَّةِ وإِرخاصُ كيانها؟! أسئلةٌ لم تجد أجوبةً طيلة أربعة عشر قرنًا مضت.
ولعلَّ الجواب الوحيد الذي يكمن وراء ذلك، ما نعرفه من دناءةٍ وخسةٍ وانحطاطٍ خلقيٍّ وأخلاقيٍّ ما زالت تُتوارثُ جيلاً بعد جيل من تأريخ رحيل المصطفى (ص) إلى يومنا الحاضر.. وكأنَّ الشجرةَ الملعونة في القرآن ما زالت تثمر وتزهر ويَنتفع بها من يَنتفع… ولله أمر هو بالغه.
ونحن في الوقت الذي يسوؤنا ما نراه على الساحة اليوم ونشاركُ إخواننا الألمَ والحسرةَ ونتجرع معهم مرارةً مثلَ العلقم.. نحاول دائمًا أن نذكِّر أنفسنا وأنفسهم بأن ذلك كله بعين الله تعالى، محاولين جاهدين تحسين نوايانا معه سبحانه.. فإنه عند حسن ظن عبده المؤمن{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}..
وقد حلَّت علينا الأشهر الحرم، ودعانا فيها إليه ، فينبغي استغلال الفرصة.. والعمل له سبحانه بنيات صادقة، وقلوب وجلة خائفة، تسمع الموعظة فتهابها، وتُندَبُ إلى الطاعة فتستجيب لها، وتُخوَّفُ فتخاف.. وتُنذَر فتَسمع.. وتَسمع فتعقِل.. وقد حث الله سبحانه عباده في هذه الأشهر على الطاعة وندبَ إليها، وخوَّفَ عباده من معاصيه وأنذرهم منها.. وأسمعهم مواعظه وأوامره ونواهيه… وحذرهم من الدنيا ونعيمها الزائل، ورغَّبَهم في الآخرة ونعيمها الباقي، وقد أجرى على ذلك سننه وقوانينه، ولا يتصوَّر متصوِّرٌ أنه محتاج إلى خلقه.. فلا تنفعه طاعةُ من أطاعه، ولا معصيةُ من عصاه، فهو الغني المطلق، وبيده مقاليد السماوات والأرض، لكنها الرأفة منه بعباده.. والإشفاق منه بهم، والجري على سننه في الأمم السالفة والقرون الماضية.. فلا يفوته شيءٌ، ولا يشغله شيءٌ عن شيء.. ولعل من أهم أسباب الفرج وكشف البلاء إصلاح النفوس وتهذيبها من درن الذنوب والمعاصي.. والتوجه إليه سبحانه، خصوصًا في مثل هذه الأشهر العظيمة التي نسبها إليه.. وضاعف أجر العامل فيها على العامل في سائر الشهور.. والعاقل لا تفوته الفرصة، فهي تمر مَرَّ السحاب، كما نرى في حياتنا العملية كيف يندم النادم على عملٍ أَخَّره.. وآخرَ تمنّاه ولم يفعله، كيف يندم على ذهابه بعد فوات الفرصة وانقطاع الأمل.
فكيف بنا ونحن سائرون من دون توقف… وماضون من دون رجوع، وفي كل لحظة ينقص من العمر بمقدارها… وفي كل يوم ينقص منه بمقداره… حتى إذا حلّت النازلة… وانتهت المهلة وانقطع الأمل.. نرى من الحسرة ما نعجز عن وصفه.. ونذهل عن إدراكه؟
نسأل الله سبحانه حسنَ الطاعة وبُعدَ المعصية… والركونَ إليه واللجوءَ إلى طاعته.. وعدمَ التهاون في أوامره ونواهيه… فإنَّ الدنيا دارُ عمل والآخرة دارُ جزاء.. والعاقل من خَبَرته التجاربُ، وكانت الحكمة ضالته.. يبحث عنها في كل مكان ويأخذها من كل أحد..
والحمد لله على نعمه، ونسأله العون على أنفسنا، إنه خير معين، والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(افتتاحية العدد 63 من مجلة ينابيع)
ض ح