زفات الأعراس كبت اجتماعي أم تعبير عن فرح
تحقيق: محمد الشريفي – الحكمة
ظاهرة انتشرت مؤخرًا بشكلٍ أصبحت فيه تمثل عبئًا يثقل كاهل المجتمع العراقي عمومًا والنجفي خصوصًا لما عُرف عن مجتمعنا من تمسك بالعادات والتقاليد والأعراف ، تلك هي ظاهرة (الزفات ).
و(الزفة) هي موكب السيارات الذي يسير مع العروسين إلى مكان زفافهما، فلماذا أصبحت هذه المظاهر خطرًا يتربص بالشارع النجفي؟
قبل أيام قلائل رُزق جاري (أبو فاطمة ) بمولوده الثاني حيث منَّ الله عليه ببنت أسماها زهراء، جعلها الله من أبناء السلامة ، ولأنه جاري والرسول (صلى الله عليه وآله) أوصى بسابع جار فقد قمت وعائلتي بزيارة إلى بيته لأداء الواجب وتهنئتهم بالمولود الجديد وسلامة والدتها، وبدلًا من إمارات الفرح وجدت (أبو فاطمة ) وقد علت محياه إمارات التذمر، فاعتقدت للوهلة الأولى أن مرد ذلك يعود إلى أنه لم يرزق بالولد الذي كان يتمناه وينتظره، فحاولت التخفيف عنه وتذكيره بأن ذلك رزقٌ من عند الله، وأن الله أعلم بصالحه. تبسم جاري العزيز بطريقة أشعرتني بالخجل من نفسي وأفهمتني تلك الابتسامة وتلك النظرات أن رجلًا مؤمنًا مثله لا يمكن أن يعترض على ما قسمه الله له، وأن ما يؤلمه أمر آخر غير الذي جال في مخيلتي . لم أسأله وتركت له حرية التعبير عما يجول في خاطره، فراح الرجل يحدثني عن سبب امتعاضه قائلًا: لا أدري ما الذي حلَّ بالناس ! فيوم أمس توجهت بزوجتي إلى المستشفى بعد أن بدت عليها علامات الطلق، وكان الوقت قبل أذان المغرب بقليل، ومع أن كل ما يفصل البيت عن المستشفى لا يتعدى 4(كم ) إلا أن الوقت الذي لزمني للوصول إلى المستشفى دام لأكثر من ساعة ؟ هنا سألته: أيعقل هذا ؟ أجاب : نعم فهل تصدق ؟ وقبل أن أساله لماذا ؟ ولأنه قرأ الدهشة في عيني استرسل قائلًا : المشكلة يا أخي أنه صادفتنا ونحن في الطريق إلى المستشفى ( زفة )، والتي تحولت إلى نقمةٍ علينا بعد أن قطعوا الطريق على جميع السيارات وراحوا يعيثون في (الشارع فسادًا) فكلا جانبي الطريق مقطوع ..ورقص وغناء وقت أذان المغرب.. والمحزن في كل ذلك هو تحول الشباب إلى ما يشبه ( راقصي الغجر )، فالموسيقى بأعلى صوت.. وشباب يُخرجون نصف الجسد من نوافذ السيارات، ويرقصون بطريقة مستهجنة، ويتمازحون بينهم بكلمات بذيئة لا تمت إلى واقعنا الإسلامي بصلة، خصوصًا ونحن في النجف مدينة العلم والدين، قصّات شعر ما أنزل الله بها من سلطان حتى بات الواحد يجد صعوبة في التمييز أحيانًا إذا كان الذي أمامك بنتًا أم رجلًا ؟؟؟ استوقفني كلامه كثيرًا، ومع أني أعيش وسط المدينة، إلا أنه لم يدر في خلدي من قبل أن أتابع وأراقب هذه الحالة بطريقة مباشرة ، حتى حين كانت تصادفني (زفة ) لم أكن أنتبه لهذه الأمور بشكل دقيق، لذا فقد خطرت في رأسي فكرة أن أخوض التجربة بنفسي وأقوم بدور المراقب، ومع أول فرصة أُتيحت لي توجهت بسيارتي الشخصية إلى شارع الكوفة، وهو شارع رئيسي ولابد لأغلب الأعراس إن لم تكن جميعها أن تمر فيه ، توقفت قرب ساحة الصدرين، وركنت سيارتي جانبًا وجلست هناك أراقب وأسجل ملاحظاتي وهالني ما رأيت! شباب يتمايلون بأجسادهم من نوافذ السيارات ، أصوات أبواق السيارات متواصلة ومتزامنة بالشكل الذي يصيبك بالتوتر، وسيارات تحاول المرور، واجتياز تلك الزفات دون فائدة، ولعل أغرب ما رأيت – ونحن مجتمع إسلامي محافظ وفي مدينة لها قدسيتها- أن بعض الشبان يستغل فترة التوقف المروري في الساحة التي لا تتجوز الدقيقتين، لينزل من السيارة ويبدأ بالرقص ريثما يعاود السير حركته الطبيعية !! طبعًا وللأمانة فلا يمكن التعميم بطبيعة الحال، بل أستطيع القول بثقة تامة أن الصور التي نقلتها للقارئ لا تمثل أكثر من معشار -وربما أقل من ذلك- من صورة أبناء النجف الحقيقيين، لكن لأننا نبحث عن التكامل لهذه المدينة المقدسة نرى أن تسجيل ولو حالة واحدة مثل هذه هي مأساة ومشكلة كبيرة للمجتمع النجفي . . وهنا يخطر في البال سؤال يدور في الأذهان : أين الجهات الرقابية والسلطات التنفيذية من هذا الحال ؟ أين دور مديرية المرور في المحافظة؟ أين دور مجلس المحافظة من محاسبة المتسببين بتشويه صورة هذه المدينة العظيمة ؟ أين دور الإعلام في تسليط الأضواء على هذه الظواهر ومحاولة إيجاد الحلول لها ؟ أين دور الباحثين في علم الاجتماع في التوجيه لخطورة هذه الحالات والتحذير من انتشارها مستقبلًا؟ أين دور الخطباء ورجال الدين من الإشارة لهذه الحالات ؟ أين دور الآباء في تربية أبنائهم التربية الإسلامية الصحيحة ؟ .
أسباب نفسية
الأستاذ كريم الجياشي (باحث اجتماعي) يرجع أسباب ذلك إلى الكبت النفسي الذي يعانيه الشباب، فالشاب من وجهة نظره، خصوصًا في المناطق ذات الطابع المحافظ، يعاني من نقص في حرية التعبير، حيث إنه يخشى أن توجه إليه أصابع النقد في تصرف ما، فمنذ الصغر يُحذَّر من والديه: هذا عيب! وذاك حرام! فتراه يستغل مثل هذه المناسبات للتعبير عما يعتمر في صدره من مشاعر، وكأنه يحاول أن يجد منفذًا يزيل من خلاله الهم الجاثم على صدره، وبطبيعة الحال فهذا ليس مبررًا ولا مسوغًا لأن يتجاوز الشرع والعرف، فيعمد إلى الرقص والغناء وسط الشارع، أو يكون سببًا في زحمة السير، لذا فالكل مدعوٌّ للقضاء على هذه الظاهرة التي استشرت في مجتمعاتنا بشكل أصبحت فيه وكأنها قاعدة أو جزءًا لا يتجزأ من مراسيم الزواج .
كدت أفقد ابني؟
أبو كرار (صاحب مطعم) شاركنا بالقول : قبل أيام دعينا لحضور مأدبة عشاء وزفاف أحد معارفنا وبالفعل ذهبت مع ولدي البكر الذي كان يقود السيارة، وبعد الانتهاء من مأدبة العشاء التي أُعدت بالمناسبة ألحَّ علينا العريس ووالده لمرافقتهم في (الزفة)، وهناك ونتيجة التهور والسياقة الخاطئة والازدحام كدت أفقد حياتي وحياة ولدي الذي اصطدمت سيارته بسيارة أخرى بطريقة بشعة. لم يصدق أحد أننا خرجنا منها سالمين، وحتى ساعة حديثي معكم مازال ابني في الحبس بعد أن تعرض(الركاب) في السيارة الأخرى التي اصطدمت بها سيارتنا إلى أضرار وكسور ورضوض، الأمر الذي دعاهم لتسجيل دعوى قضائية ضد ولدي، فهل هذا أفضل ؟ أتمنى أن يتنبه الشباب إلى خطورة هذا الأمر ويتذكروا أننا نعيش في بلد مسلم، وتحكمنا أعراف وتقاليد يجب ألا نحيد عنها أبدًا .
ماذا قال سواق المركبات ؟
أبو جعفر (سائق كيا) يقول : منذ عام 1984 وأنا أمتلك إجازة سوق، وقد مارست مهنة السياقة لسنوات طويلة فاقت العشرين عامًا، وكثيرًا ما كان يتم استئجاري للذهاب في مناسبات الأعراس. يقول مبتسمًا( من أيام 18 راكبًا ) وكثيرًا ما تعرضت لمشاكل بسبب التهور الذي يصاب به السوّاق في الزفة، وكأن هناك شيئًا يختلف، وهذه مشكلة كبيرة، خصوصًا إذا كان في السيارة (نساء) حيث يبدأ السائق يستعرض أمامهن مهاراته وقدرته على التحكم في السيارة، الأمر الذي يوقعه في مطبات كثيرة !! المسألة لا تنتهي عند هذا الحد؛ فأحيانًا يلحُّ أصحاب المناسبة على السائق أن يسوق بسرعة، أو أن يعمد إلى بعض المجازفات التي قد لا تكون محسوبة، وعليه، وبعد كل هذه السنوات ومن رجل خبر السياقة لسنوات طويلة، أوجه الدعوة لكل سائق ، خصوصًا الشباب منهم، لضرورة أن يتنبهوا، وأن لا يندفعوا في السياقة، لأن أي خطأ يمكن أن يفسد المناسبة ويفسد فرحة المحتفلين .
حيدر عادل (سائق كيا أيضًا) : يقول المشكلة ليست في السائق فقط، ففي كثير من المرات يطلب الركاب من السائق أن يسير بسرعة وأن لا يبقى متخلفًا في آخر الزفة، وأحيانًا تردد أهازيج لحث السائق على السرعة (ياسايقنة دوس دوس خلي انلحگ بالعروس)، يقول ضاحكًا لكن بشكل عام أنصح كل السواق بعدم الرضوخ لهذه المطالبات والسير بتعقل حتى لا يتسبب بكارثة تفسد الفرح وتؤذي الآخرين .
كلمة رجل المرور
وقفتنا الأخيرة كانت مع رجال المرور ويقول أحمد سعدون( رجل مرور ) نحن لا نملك حق محاسبة هؤلاء المتجاوزين بحجة أنها فرحة، وثانيًا إن أي تدخل من هذا النوع قد يثير مشكلة، ويدخلنا في متاهات عشائرية وعرفية كثيرة، ناهيك عن أننا قد نتعرض لمحاسبة من الجهات العليا بحجة أننا تسببنا بمشكلة كان بالإمكان تفاديها ! وقد حصل ذلك ذات مرة مع أحد الزملاء؟ المشكلة تكمن في عدم تفهم المجتمع إلى خطورة هذه المظاهر، سواء من ناحية الذوق العام، أم من ناحية سلامة الأشخاص المتواجدين في الزفة، ودعني أضيف لك ظاهرة أخرى تكاد تكون انعدمت إلى حدٍ ما، فإلى وقت قريب كان البعض يتباهى بإطلاق العيارات النارية، الأمر الذي يشكل خطرًا كبيرًا على حياة الآخرين، لكن هذه الظاهرة تقريبًا لم تعد موجودة بعد أن بدأت السلطات المسؤولة تحاسب هؤلاء .
كلمتنا
نحن ومن خلال منبر مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية نناشد أبناء النجف الكرام خصوصًا والعراقيين الأصلاء عمومًا، بضرورة العمل المشترك على إنهاء هذه الظاهرة الخطرة، بالإضافة إلى توجيه أبنائنا توجيهًا حسنًا، وتربيتهم تربية إسلامية قائمة على أساس احترام المفاهيم الإسلامية، واحترام العرف المحافظ الذي نشأنا وتربينا عليه، كما نوجه نداءنا إلى السادة المسؤولين كافة، لمحاسبة هؤلاء، وقطع الطريق أمام من يعبث بواقع مدينتنا المحافظة، سواء أكان بقصدٍ منه أم بجهل ، كذلك ندعو الأمهات الفاضلات إلى ضرورة متابعة ومراقبة ما يشاهده الأولاد من برامج تلفزيونية، سواء أكانت محلية أم عربية أم عالمية، لأن بعض القنوات الفضائية أصبحت تمثل مرضًا أخطر من السرطان، يمكن أن ينخر جسد مجتمعنا المحافظ، وهنا يبرز دور الأم العزيزة، والأخت المحترمة، لأن الثقافة لا تعني بالضرورة التوافق مع ما هو خاطئ.