الإرهاب الاقتصادي: العالم خائف ويرتعد
محمد الجويلي
في 4 حزيران الماضي وقبل يوم واحد من الاستفتاء اليوناني حول شروط الاتحاد الأوروبي لما سُمّي بالإصلاح الاقتصادي أطلق وزير الماليّة اليوناني يانيس فاروفاكيس(Varoufaxis) في حوار مع صحيفة الموندو(Il Mondo)”العالم” الإسبانية بعد أن ضاق ذرعا بالضغوط التي مارسها عليه وعلى بلده صندوق النقد والإقراض الدولي والبنك المركزي الأوروبي والاتحاد الأوروبي برمّته صرخة يتهم فيها هذه المؤسّسات, التي يتخلّد على اليونان ديون بذمّتها ينبغي تسديدها, بالإرهاب، حيث قال بالحرف الواحد “ما يمارسونه مع اليونان له تسمية واحدة لا غيرها هي الإرهاب”, قبل أن يضيف متسائلا: لماذا أجبرونا على غلق البنوك؟ ومجيبا: لتخويف الناس وبثّ الرعب والذعر في نفوسهم وهذا هو الإرهاب بعينه.
كان يمكن لهذا الكلام أن يمرّ دون أن يثير الكثير من الاهتمام لو كان قائله مجرّد وزير يساري راديكالي كما تصفه وسائل الإعلام الأوروبية الرسميّة يغرّد خارج السرب ومعاد بطبعه ومن منطلق إيديولوجي للرأسمالية، غير أنّ الرجل أكاديميّ معروف يحمل جنسية استرالية بالإضافة إلى جنسيته اليونانيّة ودرّس في جامعات غربيّة متعدّدة في انجلترا وبلجيكيا وفي جامعة سيدني وفي جامعة تكساس الأمريكيّة قبل أن يعود مدرّسا محاضرا في جامعة أثينا ومختصّا في نظريات الاقتصاد وخاصة في اقتصاد الألعاب واستنجدت به شركة أمريكية رأسماليّة مستشارا لها في تطوير ألعاب الفيديو(Gabe Newell) وكاتبا للعديد من المؤلّفات أشهرها “المينوتور الكوني: الأسباب الحقيقيّة للأزمات الماليّة ومستقبل العالم الاقتصادي” الذي تُرجم إلى العديد من اللّغات منها الفرنسيّة تحت عنوان مثير “المينوتور الكوني: الغول الأمريكي، التفكّك الأوروبي والانهيار العالمي”(1)، ما يمنح كلامه وإطلاقه صفة الإرهاب على الضغوط الماليّة والتهديد بالعواقب الوخيمة التي تترتّب عن عدم الانصياع لأوامر المركز المالي الأوروبي والعالمي البعض من المصداقيّة، إنْ لم تكن كلّها.
فحتّى لو افترضنا أنّ الرجل راديكالي وموقفه فيه مبالغة وغلّو ونسّبنا من توصيفه بالإرهاب سياسة التخويف والوعيد التي انتهجها المركز حيال اليونان وحيال كلّ دولة في العالم يرتهن اقتصادها للمؤسّسات الماليّة الدوليّة، فإنّه لا يمكن تجريده من بعض المصداقيّة ووصف هذه السياسة على أنّها شبيهة بالإرهاب وقريبة منه، وإنْ ليست بالإرهاب عينه.
أصدر الأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه(Marc Augé) منذ سنتين كتابا بعنوان “المخاوف الجديدة”(2) تناول فيه الإرهاب الذي لا يمكن، حسب نظره، فصله عن الخوف والرعب الذي ينتاب العالم بكلّ أنواعه، ما يعطي الانطباع على أنّ مسالة الإرهاب المسلّح الأعمى الذي يستهدف الأبرياء ما هوّ إلّا جزء من إرهاب شامل كوني، ومن ثمّة لا ينبغي معالجته بمعزل عن الأنواع الأخرى للعنف الذي يستبدّ بالعالم ويستفحل فيه يوما بعد يوم. حسب أوجيه ثمةّ ثلاثة أشكال من العنف: العنف الاقتصادي والاجتماعي لا سيما على مستوى المؤسّسة، على حدّ اعتقاده، وفيه مثلا ندرج عنف المؤسّسات المالية الكبرى في العالم التي ينعتها “فاروفاكسيس” بالإرهاب وثانيا العنف السياسي الذي يتضمّن، علاوة على العنصريّة، عنف الحركات الجهاديّة التي تتلوّن بالإسلاميّة وتضرب في كلّ أنحاء العالم وأخيرا العنف التكنولوجي وعنف الطبيعة وهما مرتبطان لكون الأوّل هو المتسبّب في الثاني والمغذّي له.
هذه الأنواع الثلاثة من العنف تفرز، كما يقول “أوجيه”، مخاوف مخصوصة: التوترّ النفسي(Stress) الفزع أو القلق. غير أنّ المخاوف، من جهة، وشتّى أنواع العنف التي وقعت الإشارة إليها، من جهة أخرى، تضاف إلى بعضها البعض وتتداخل وتتبادل التأثير فيما بينها في عصر يتسارع فيه بثُّ الصور ونشرها على نحو مذهل على وجه الكرة الأرضيّة بأكملها وتتجلىّ عموما في الحيطة الوسواسية والريبة من الآخر، مهما كانت طبيعة هذا الآخر[أثنية، دينيّة، طبقيّة…] ولكن هذا الخوف من المستقبل وهذا الوسواس الخنّاس، كما يضيف أوجيه، يحتوي على مكوّنات متعدّدة، ما يعني أنّه مركّب، بل لنقل متاهة من الخوف التي يجعلنا تاريخ العالم المعاصر نتيه في ثناياها، مركّب معقّد ينبغي أن نشرع في تفكيكه لمحاولة تحليل علله وعواقبه المحتملة في المزيد من خلق قرف شامل يبدو أنّه يستبدّ أكثر فأكثر بالمجتمعات الإنسانيّة ويهدّد توازنها( ص.12-13).
إنّ الإنسانيّة خائفة ولعلّ الذعر لم يستبد بها منذ الحرب العالميّة الثانية كما يستبدّ بها اليوم والسبب العميق لذلك اقتصادي وتكنولوجي بالأساس، فالتجديد التكنولوجي يخلق عادات استهلاكيّة لا عهد للإنسانيّة بها وهي بدورها تستوجب خلق أشكال جديدة من تنظيم العمل محلّيا ودوليّا وتقسيمه والرأسمالية نجحت في خلق سوق معولمة، ما زاد في هيمنة الشركات الكبرى التي لا تعترف بالمصلحة الوطنيّة، بحيث غلب منطق المال وفرض قوانينه الخاصة به على الدول الوطنيّة، لا سيما الضعيفة منها وهذه الهيمنة أصبحت بديهيّة ولا أحد يضعها موضع شكّ ومساءلة، ما عدا بعض الأصوات المنفردة والجماعات والأحزاب الهامشيّة والنقابات التي تصرخ ولا حياة لمن تنادي ولا تستطيع تغيير أيّ شيء جوهري، والخاسر الأكبر هي الطبقات العاملة بالساعد والفكر، الكادحة والمتوسطّة.
“الأمميّة تنتصر ولكنّها رأسمالية” وهنا بالطبع يحيل على المخاوف التي أفرزها الإرهاب الديني، ليس الإسلامي فقط، وإنّما إرهاب المركز الذي كثيرا ما يتلوّن بطابع ديني وهنا يقول أوجيه مستنكرا “في اللحظة الراهنة التي يمكن فيها لرئيس أقوى دولة في العالم أن يصرّح رسميّا لشعبه أنّه سيذهب إلى الصلاة من أجل أرواح ضحايا عمليّة إرهابيّة، دون أن يندهش أحد من طبيعة هذا الخطاب يمكن أن نتساءل إذا ما كانت إدارة الشأن العام الدولي يتحكّم فيها الهذيان الواهم الذي يتحدّث عنه فرويد”(ص.50) وهكذا ينتهي أوجيه إلى خلاصة أنّ الخوف الحقيقي في العالم يتمثّل”في كون البشر اليوم مخيّرين فقط بين التسليم بصدقية أناس مجانين مصابين بالهلوسة أو بكلام كذّابين محترفين. في الغرب يقول “مأساتنا اليوم تتلخّص في كوننا محكوما علينا بتفضيل الكذّابين على المجانين مع أنّنا متيقنون أنّ الشريحتين هما وجهان لحقيقة واحدة”(ص.51). المجانين الذين يقصدهم أوجيه بالقول هم الإرهابيون الإسلاميون أما الكذّابون فهم الساسة الغربيون الذين يتهمهم بأنّهم لم يتساءلوا يوما عن العواقب الوخيمة مثلا لإسقاط القذافي على الأمن في الساحل الإفريقي والبحر المتوسّط. أنا أقول نعم ينبغي دعم الليبراليين الليبيين ولا يجب أن نترك الإسلاميين الراديكاليين يمرحون في الأرض الواسعة”[ولكن لا حياة لمنْ تنادي] (52).
المخاوف الجديدة للإنسانيّة متعدّدة أهمّها الإرهاب المسلّح والالكتروني والنووي وتهديد الطبيعة الغاضبة التي تردّ الفعل بدورها بالإرهاب على إرهابها ولكنّ إرهاب الهامش بما في ذلك إرهاب الجماعات الإسلاميّة المسلّحة الذي وصل إلى أرقى درجاته رعبا مع القاعدة ثمّ داعش ليس إلّا تعبيرا عن إنسانيّة ليست على أحسن ما يرام، تعبيرا عن لا توازن يسم العالم بالاضطراب والفوضى ويهدّده بأفظع العواقب والأكثر من ذلك أنّه لا يمكن حلّه إلّا بطرح المسألة الإرهابيّة في شموليتها على بساط البحث والتشريح باعتبارها مرتبطة ببنية النظام العالمي برمّته، أي بوصفها، في نهاية المطاف، تعبيرا عن خلل بنيوي يعتري النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي الذي تقوده الأنانيّة والشهوة للمال فحسب.
– 1- Yanis Varoufaxis, The Global Minaotaur, London, Zed Books,2013-2014
Le Minautaure planétaire, L’ogre américain, la désunion européenne et le chaos mondial, Editions du Cercle,2014
-2 – Marc Augé, Les Nouvelles Peurs, Paris, Payot,2013
(بوابة الوسط)
س ف