لم يكد ستار الغيبة الكبرى ينسدل على شخص الامام الثاني عشر (عليه السلام) الا وكانت الترتيبات التي تضمن بقاء جماعة الشيعة وتماسكها عقائديا وسلوكيا.. تامة محكمة. وذلك طبق برنامج الهي بدأه أئمة الهدى عليهم السلام وختمه الامام الثاني عشر صلوات الله عليه وبقي مشرفا على اجرائه وقائما على سلامة تطبيقه. ذلك البرنامج الذي غفل عنه الظالمون وانشغلوا بطلب الدنيا والسلطة والجاه عن ملاحظته وتتبع خطواته. رغم حرصهم الشديد على مراقبة أهل البيت (عليهم السلام) والتجسس على اوضاعهم الخاصة ونشاطاتهم العلمية والاجتماعية. مما جعل ذلك البرنامج ناجحا بكل المقاييس، وسببا تاما لبقاء الجماعة الصالحة وحملة الرسالة النقية. كما جعله الضمانة الاولى لسلامة الدين بموازينه وكافة أصوله وقواعده. رغم ما ارتكبه فريق الحكام من جرائم في حق حملة الحق وأتباعه.
فما هي تلك الترتيبات؟
وما هي تلك الضمانات التي وفرها ذلك البرنامج الالهي لنجاح تلك الخطة ولاستمرارها؟
وما هي النتائج الملموسة في يومنا هذا لتلك الخطة؟
ماذا أراد فريق الحكم:
من الواضح لمن تتبع أحداث السقيفة وما تلتها من أمور جسام، أن أربابها لم يكونوا ليكتفوا باستلام السلطة فقط، بل أرادوا الاستحواذ على صلاحية التشريع في دين الاسلام أيضا، وبعبارة حديثة، لم يكتفوا بالسلطة التنفيذية بل طمعوا بالسلطة التشريعية أيضا. ليكون الخليفة مصدرا من مصادر التشريع في أقواله وأفعاله وقراراته، كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالضبط.
هذا ما صرح به عبد الرحمن بن عوف حينما عرض الخلافة على أمير المؤمنينَ (عليه السلام) مشترطا عليه العمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين ابي بكر وعمر(1)، في خطوة واضحة لجعل سنة الخلفاء في عرض القرآن الكريم وسنة رسول الإسلام، ومصدرا ثالثا من مصادر التشريع للإسلام. ليكون ذلك تمهيدا لجعل سيرة الخلفاء مصدرا من مصادر التشريع الأمر الذي لن يقتصر على أبي بكر وعمر، بل سيسري الى بقية خلفاء فريق الحكم، فان الخليفة (وان كان مثل معاوية أو يزيد أو الوليد) هو خليفة على كل حال، وله بحسب منصبه تلك الصلاحية التي كانت للخلفاء من قبله(2). ونتيجة لذلك.. ونتيجة لتعاقب الخلفاء وتفاوتهم في مستوى التدين والألتزام بأحكام الدين، أو قل في مستوى التهتك والاستهتار بأحكام القرآن(3)، لن نحصل بعد برهة قصيرة من الزمن، الا على صورة شريعة تسمى بالإسلام، وهي ليست سوى آراء واجتهادات وأفعال للخلفاء الذين تعاقبوا على كرسي مغتصب، لا تصدر الا عن هوى أصحابها وجهلهم بالاحكام ونزواتهم الجامحة وشهواتهم المخجلة.
وهذا ما لخصه الأمام الشهيد أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) حينما دعي الى بيعة يزيد اذ قال: (فعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع كيزيد)(4).
هذا هو بالضبط ما أراده القوم.. السيطرة على الحكم وعلى تشريع القوانين والأحكام، ليقلبوا الإسلام بتشريعاته وقوانينه وثقافته.. رأسا على عقب.
ماذا أراد أهل البيت (عليهم السلام)؟:
في إزاء ذلك.. كان أهل البيتِ (عليهم السلام)، يدركون تماما أبعاد المؤامرة على الإسلام، وأن السقيفة التي بدأت بالاستيلاء على السلطة لن تقف عند حد السلطة والحكم، بل ستمتد الى أصل الشريعة وستحاول تحريفها وتشويه حقائقها بل والتلاعب حتى بالكتاب العزيز.
فكان لاهل البيت (عليهم السلام) برنامجهم الالهي في مواجهة ذلك الكيد القرشي الجاهلي. ويمكن تلخيص ذلك البرنامج في نقاط:
أولا: اعراضهم عن السلطة وعدم جعلها هدفا بنفسها، إلا بقدر اقامة العدل، وحين توفر شرائطها.. قال أمير المؤمنينَ (عليه السلام): (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر… لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكاس أولها، ولوجدتم خلافتكم هذه أهون عندي من عفطة عنز)(5).
الأمر الذي وفر جهودهم وجهود شيعتهم وركزها في طلب العلم والحفاظ على الشريعة والصون للآثار النبوية وحمل ثقافة الاسلام بشكل تام وأمين.
هذا مع التأكيد في المناسبات المختلفة أن الحكم هو حقهم الخاص بهم والمتعين فيهم بنصب من الله تعالى ونص من نبيه(6). وإن عدم تصديهم للمطالبة انما هو بسبب تخلف الامة عن نصرتهم، وأنهم لو وجدوا أنصاراً لم يقعدوا ساعة عن القيام بالعدل بين الناس.
ثانيا: السعي الحثيث الى فصل الشرعية عن السلطة في أنظار المسلمين، سدا للطريق عليها في استغلال الحكم لفرض الأحكام المحرفة في الإسلام، وهذا ما حققه الامام الحسين (عليه السلام) بثورته وشهادته، إذ حطم الشرعية التي كان يتقمصها الخليفة ويستخدمها في التلاعب بالتشريعات والأحكام. ولم يعد بعد ثورة الحسين عليه السلام للخليفة أي وجه أمام المسلمين يتمكن به من فرض أو حذف حكم شرعي، بل عاد مضطرا الى أن يجعل الى جنبه مفتيا أو قاضيا من بطانته ليتكلم الى الناس بالاحكام ويفتي في أحكام الدين، الأمر الذي يعني بوضوح أنه فقد تلك الصلاحية التي كانت على عهد ابي بكر وعمر.
كما أنه عاد يعني عند عموم الناس، أن الخليفة لم يعد مصدرا من مصادر التشريع بل ولا مصدرا حتى للفتوى العادية التي قد يتمتع بصلاحيتها مثل عبد الله بن عمر مثلا.
وأصبح الناس يبحثون عمن يأخذون عنه دينهم وتكاليفه الشرعية. مما فتح المجال أمام حركة الفقهاء وعاد أمر الفتوى شأنا من شؤون أهل العلم والتحصيل لا من شؤون الخليفة كما اراد له فريق السقيفة.
حينذاك.. انفتح أمام أهل البيتِ (عليهم السلام) وأصحابهم المجال واسعاً للدخول الى المعترك العلمي واثبات الفقاهة والجدارة العلمية دون أن يحسب ذلك منافسة للسلطة وسعيا الى التعدي على صلاحية من صلاحيات الخليفة، بما يكفي ليكون مبررا للوقع تحت الاجراءات القمعية الحكومية، ومن الواضح آنذاك أن أئمة الهدى (عليهم السلام) تمكنوا في فترة وجيزة من اثبات مرجعيتهم العلمية لكافة طوائف الامة وعلمائها على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم. فكان الجميع يتشرف بالتلمذة على الامامين الصادقين (عليهما السلام)، ويتبرك بالرواية عنهما. هذا مع بقاء أجواء السلطة متحركة ضاغطة في هذه الحلبة العلمية أيضا(7)، اذ لم يكن من مصلحة السلطة أن تبقى الاجواء العلمية خالية من تاثيرها وصافية لأهلها من أهل العلم والبحث، ولذا زرعوا فيها أو اشتروا منها ضمائر رخيصة ارتبطت بالسلطة وعادت هي الجهة الرسمية التي تعترف بها السلطات كمصادر للإفتاء(8).
الا أن المحصلة النهائية لهذه المسألة هي الهزيمة المنكرة للخلفاء أمام الشرعية العلمية للاسلام المتمثلة بأئمة الهدى (عليهم السلام).. إذ تمنكوا من سلب الخلفاء ما تقمصوه من رداء التشريع ظلما وعدوانا. وتمكنوا من تحويل الصراع على التشريع من صراع بينهم وبين فريق السلطة.. الى خلاف بين تلامذتهم وربيبي مدرستهم من جهة، وبين فقهاء فريق الخلافة من جهة أخرى.
إن إخراج الصراع من تلك الدائرة الى دائرته الفعلية. وان كان يبدو أنه لم يغير الكثير من الأمر، فإن فقهاء الخلافة لم يهنوا في التحريف والاضلال لأتباعهم تمشيا مع رغبة الحكام(9)، الا أننا نقول: إن الفقيه منهم حتى مع كونه فقيه سلطة وعالم بلاط، لن يستطيع تعدي موازين معينة درج عليها أهل العلم وتداولتها الايدي كابرا عن كابر، الأمر الذي لا يمكن لأحد مهما كان متهتكا وتابعا للسلطان أن يتجاوزه ويهمله. وإذا حصل أن تجاوز أحدهم تلك الحدود المرسومة بين العلماء المخالفين (والتي ساهم أهل البيت عليهم في رسمها وتكونها) فلن يعود نافعا للسلطان، ولن يعود مجديا للسلطة، فعالم متهتك لا يتبعه العوام ولا يحترمه العلماء، هو أشبه بالورقة المحروقة.
ثالثاً: الانصراف بكل إمكاناتهم، إلى بث علوم الشريعة بين الناس ضمن دوائر ثلاث:
الأولى: الدائرة العامة التي تشمل مخالفيهم سياسيا وعقائديا. إذ بذلوا من علومهم بين عموم الناس بلا تفرقة بين عارف للحق أو منكر. ما جعل مدرسة الامام الصادق عليه السلام تغص بطلاب العلم من جميع المشارب الفكرية والسياسية(10).
ان مثل هذا الاهتمام من الأئمة (عليهم السلام) كان منشأ للتقليل من الفجوة الحاصلة بين المذاهب الفكرية والفقهية من جهة، وبينها وبين المذهب الحق من جهة أخرى.اذ جعل أكثر أهل العلم من تلك المذاهب أما من المستفيدين مباشرة من مدرستهم وعلومهم، أو على الأقل من المتأثرين والمراعين للموازين التي أسستها تلك المدرسة. مما جعل موازين العلم والفقه محكومة بشكل وبآخر، بضوابط عامة لا يستطيع الفقهاء مهما اختلفوا أن يفارقوها بالكلية. لأن الأئمة (عليهم السلام) فرضوا على أجواء المذاهب الاسلامية، بقوة شخصيتهم العلمية، جملة من تلك الضوابط التي تعد صمام أمان لعملية الاستنباط الفقهي ولعملية النتاج الفكري العقائدي.
من تلك الضوابط مثلا، عدم تجاوز نصوص القرآن الكريم، وعدم الاجتهاد في مقابل النص الواضح، كما كان يرتكب في زمن عمر، حيث كان يجعل لنفسه ـ تبعا لسلفه ابي بكر ـ الحق في مخالفة صريح الأوامر النبوية(11)، ونصوص الكتاب الكريم(12). حتى اذا مضى أكثر من قرن من الزمان، عاد علماء فريق الحكم الى تأويل ما ابتدعه عمر وأحدثه وصاحبه في أحكام الإسلام، وتخريجه على الأدلة القرآنية وعلى أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله). وهم يؤكدون أن ما أتى به عمر لم يكن اجتهادا في مقابل النص ولا مخالفة صريحة للقرآن الكريم، بل كان تأولا لبعض الآيات أو الروايات النبوية(13). وهذا ما يعد تراجعا واضحا عن خطط الطبقة الأولى من فريق الحكم، التي خططت لجعل تشريعات الخلفاء في عرض السنة والكتاب. لا مفسرة لهما ولا في طولهما.
وإذا بفقهاء هذا الفريق بعد أكثر من قرن من الزمان أو أكثر يعودون ليلتمسوا لأصحابهم الاوائل الأعذار والمبررات في مخالفة الأحكام القرآنية والنبوية، ويحاولون بكل ما أوتوا من بيان وقدرات عقلية تخريج أفعال وأقوال الخلفاء الأوائل على مخارج تنسجم مع الالتزام بالكتاب والسنة ومع مبدأ: (أنه لا تشريع الا ما كان من الكتاب والسنة النبوية. ولا مجال لبقية البشر أن يتدخلوا في ذلك).
وهكذا عادت للكتاب والسنة مكانتهما الطبيعية في التشريع الإسلامي. مع أن التحريفات المرتكبة من قبل فريق الحكم، لم يتم ازالتهما نهائيا ولا جزئيا من الفقه الإسلامي، إلا أن تخريج تلك التحريفات اختلف اختلافا كبيرا هو في النتيجة لصالح الكتاب والسنة، وكم سيكون الفرق كبيرا بين أن يتم الالتزام بتلك التحريفات بما أنها آراء للخلفاء، وبين أن يتم الالتزام بها بما هي فهم للخلفاء للكتاب والسنة. الأمر الذي سيحفظ موقع هذين المصدرين المقدسين للشريعة من أن يضاف اليهما عنصر غريب دخيل لا يمكن السيطرة عليه ليكون في عرضهما وقد يكون أحيانا مقدما عليهما بذريعة مصالح الزمان والمكان.
إن ما نراه الآن من مشتركات بين المذهب الحق وبين المذاهب المختلفة، إنما هو من ثمرات جهود الائمة الاطهارِ (عليهم السلام) في بث الحقائق في أوساط علماء الطوائف المختلفة وابقائهم ضمن الدوائر المعقولة التي يحفظ معها أصل عقائد الاسلام والتوحيد، وعدم تركهم سدى ليشطوا في الخلاف.
وقد ورد في الرواية عن الامام الصادق (صلوات الله عليه) أنه ما من حق في ايدي الناس الا وكان أصله من علي بن أبي طالب، وما كان من باطل فهو منهم(14).
الثانية: دائرة الشيعة بالمعنى الأعم، الذين كانوا يؤمنون بامامتهم وفرض طاعتهم، ولكنهم على مستوى لا يتحمل أكثر من بيان الأساسيات، فكانوا يخاطبونهم على قدر استيعابهم وبقدر ما يصلح دينهم ودنياهم، دون أن يكلفوا حفظ الامانة العلمية التي تتطلب مستوى خاص من القابلية والاستيعاب والإيمان. إلا أن هذه الطبقة حملت مسؤولية خطيرة من نوع آخر، وهي مسؤولية الدفاع عن ثوابت الدين والمذهب، بالمال والنفس. وقد أثبتت هذه الطبقة استعدادها الدائم للتضحية في مقاطع تاريخية عديدة. منها ما كان يجري من فتن طائفية في بغداد في القرن الخامس الهجري، كانت تطال مساجد الشيعة وعلماءهم، كالتي جرت في زمن الشيخ الطوسي. حيث كانت هذه الطبقة هي المدافع الأساسي عن الوجود العلمي والاجتماعي للشيعة.
الثالثة: دائرة مواليهم وأتباعهم المؤمنين بفرض طاعتهم والمقرين لهم بالمنزلة الخصيصة. فكانوا صلوات الله عليهم يختصون جملة منهم ـ ممن يحمل القابلية الذهنية والنفسية الكافية لتحمل أعباء العلم ـ بالعلم الموروث عن النبي الكريم (صلى الله عليه وآله). ولا شك أن ما كان يحصل عليه أولئك الخواص من علم كان في الدرجة العالية من الوضوح والدقة والشمول. إذ لم يكن بينهم وبين هذه الطبقة من الاصحاب أي حاجب من تقية أو غيرها، من العوامل التي قد توجب الاجمال في البيان أو الاعراض عن بيان بعض التفاصيل.
فاستطاعوا (صلوات الله عليهم) أن يربوا أجيالا من حملة الفقه النبوي الصحيح نقلت الأمانة كابراً عن كابر. ويكفي أن تراجع ما ذكره الكشي عن طبقات أصحابهم الذين وصفهم الامام الصادق (عليه السلام) بأنهم أمناء الله على حلاله وحرامه.