الدولة الصفوية … حقائق تاريخية
د. حيدر نزار السيد سلمان
بعد سقوط بغداد (656هـ/1258م) بيد المغول وقعت إيران هي الأخرى تحت سيطرة هؤلاء القادمين المندفعين من آسيا الوسطى بجيوشهم العظيمة والمدربة والمسلحة والمنضبطة عسكرياً لكن اضمحلال قوة المغول وضعف دولتهم وانقسامها إلى عدة دويلات يقودها ويحكمها أحفاد هولاكو قد أزال ذلك المجد الذي تحقق وتلك السيطرة الواسعة الموحدة لتتحول هذه الدويلات إلى التناحر والصراع فيما بينها وكانت الأسر والقبائل القوية الباحثة عن السلطة والتملك قد استغلت الفرص التاريخية لتظهر على الساحة السياسية مكونة الإمارات والدويلات وهو ما يمكن أن نلاحظه في إيران في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي وبداية القرن السادس عشر الميلادي.
فقد توزعت هذه البلاد المترامية الأطراف وصاحبة الإرث الحضاري إلى مجموعة من الكيانات السياسية المتناحرة فقد كان أحفاد (تيمور لنك) يحكمون خراسان في الوقت الذي تحكم الأسرة التركمانية التي أطلقت على دولتها (الخروف الأسود) (قرة قوينلو) (قزوين) وفي (تبريز) المركز الجغرافي المهم ويصل نفوذ سلطتها إلى العراق وفي (عربستان) كانت (الدولة المشعشعية) والتي أسسها (محمد بن فلاح المشعشعي) هي الحاكمة.
وفي هذه الأجواء السياسية التي تشير إلى مدى التمزق والصراع المحتدم من أجل التوسع ومد النفوذ والسلطة كانت مدينة (أردبيل) ضمن إقليم (أذربيجان) تشهد حركة صوفية قوية متأثرة إلى أبعد الحدود بحب أهل البيت (عليهم السلام) ويسود في مراكزها نوع من التشيع وكان (صفي الدين الأردبيلي) هو المرشد المؤثر في هذه الحركة التي أخذت بالانتشار والتوسع والتقرب أكثر من التشيع وكان المناصرون والمريدون يزدادون تعلقاً وحباً بمرشدهم الذي استطاع جمع الآلاف منهم في (أدربيل) ملتفين حوله حيث حصلت المدينة على اسم جديد هو دار الإرشاد نظير ما يقوم به (صفي الدين) من إرشاد وتعليم مريديه على حب أهل البيت عليهم السلام والتعفف والتقرب من الله تعالى حتى أصبح الـ(خانقاه) وهو مكان للتصوف والاعتزال يشهد تدفق آلاف المريدين للاستماع للإرشاد والتعليم والتبرك بلقاء المرشد مثلما أخذ المحبون يقدمون من أماكن بعيدة سواء من الأناضول أو من جبال (زاغروس) إلى (أذربيجان) حيث يقيم (صفي الدين الأردبيلي).
والحقيقة أن الأتراك يشكلون العنصر الأساسي من المريدين وقد زاد من وجود هؤلاء قيام أحد أحفاد (صفي الدين) وهو (خواجة علي) بالتوسط لإطلاق سراح أعداد كبيرة من الجنود الأتراك الذين سقطوا أسرى بيد (تيمور لنك) بعد هزيمة السلطان العثماني (بايزيد الأول) ووقوعه أسيراً هو الآخر وقد شعر هؤلاء الأسرى بالامتنان والعرفان بعد إطلاق سراحهم من الأسر وأصبحوا من أشد الموالين للأسرة الصفوية وجنودها على الرغم من مذهب هؤلاء السني.
ويمكن التأكيد على إن الحجر الأول لبناء الدولة الصفوية يعود إلى (الشيخ جنيد) أحد أحفاد (الشيخ صفي الدين) الذي استطاع دمج التصوف بالتشيع معظماً الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وكذلك فإن (الشيخ جنيد) الذي جمع المتمردين والأتباع حوله منظماً قد جعل من غطاء الرأس (القلنسوة) الحمراء إحدى مميزات أنصاره الذين تحولوا من مريدين متصوفة إلى مقاتلين أشداء وكان غطاء الرأس الأحمر ذو الشقوق الاثني عشر حسب الاستناد على الأئمة الاثني عشر قد ميّز (القزلباش) وهم فرق الجيش الصفوي المحاربة والقوية، حيث اشتهر هؤلاء بغطاء الرأس الأحمر وشدة البأس والاندفاع القوي في القتال لكن (الشيخ جنيد) قتل في معارك مع الجيش الشركسي.
وقد كان هذا عاملاً مهماً في ازدياد إيمان الأنصار والمريدين وحبهم للعائلة الصفوية لما تتمتع به من مركز ديني وقدسية في نفوس القبائل التركمانية وفعلاً فقد أخذت العديد من القبائل التركمانية تعلن ولاءها لهذه العائلة التي أخذت في تكوين كيانها السياسي وتشكيل دولتها المستقلة الخاصة المستندة إلى الموالاة لأهل البيت عليهم السلام ولم تتوقف الجهود في هذا المجال بعد مقتل (الشيخ جنيد) حيث حل (الشيخ حيدر) محل والده وسار على نهجه وقد بدأ نشاطه في محاربة (الشراكسة) ونشر الإسلام في مناطق (القفقاز) حيث حصل على دعم خاله السلطان (أوزون حسن) سلطان دولة (الخروف الأبيض) الـ(آق قوينلو) ولكن هذا القائد الشجاع قد سقط قتيلاً في معاركه مع (الشراكسة) (1473م) وقد أدى ذلك إلى أسر أولاده الثلاثة وزوجته وأولاده هم الأكبر (يار علي) والأوسط (إبراهيم) والأصغر (إسماعيل) الذي كان عمره سنة واحدة.
وقد احتجز هؤلاء مع والدتهم في سجن بمدينة (اصطخر) بإقليم (فارس) وقد قضوا بالأسر أكثر من أربعة أعوام أطلق سراحهم فيما بعد نتيجة الصراعات السياسة القائمة بين ورثة السلطة في دولة (الخروف الأبيض) وكان المريدون والأنصار ينتظرون (يار علي) بوصفه زعيماً جديداً لهم وقد استقبله الآلاف من الناس حين وصوله إلى مدينة (تبريز) القريبة من (أردبيل) والتي اتخذها الصفويون عاصمة لهم.
وقد بدأ (يار علي) في وضع اللبنات لواقع سياسي جديد ولأسرة حاكمة جديدة فخاض لأجل ذلك الكثير من الحروب والصراعات من أجل تقوية سلطان الصفويين ونفوذهم والحقيقة إن هذا التقدم والتفوق أثار حفيظة المنافسين من الحكام والأسر الحاكمة وكان (رستم) سلطان (الخروف الأبيض) أكثر المتضايقين من زيادة نفوذ (يار علي) فوجه قوة لمطاردته فانتقل (يار علي) مع أنصاره إلى مقر العائلة الرئيس في مدينة (أردبيل) وقد شعر أن الخطر أصبح قاب قوسين منه لذلك فقد عمد إلى إخفاء أخويه إبراهيم وإسماعيل عند أحد أنصاره المقربين حيث نقلا عبر الطرق الجبلية الوعرة إلى مدينة (لاهيجان) تحت حماية حاكمها والذي رفض تسليم إسماعيل عند المطالبة به من قبل سلطان دولة (الخروف الأبيض) وكان خلال فترة بقائه في مدينة (لاهيجان) وهو يبلغ من العمر سبعة أعوام انشغل في تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم والتدريب على القتال والحرب حتى أصبح فتى شديد البأس قوياً صاحب شخصية جذابة، وحين بلوغه الثالثة عشر من عمره قرر العودة إلى مدينة (أردبيل) فعاد إليها جامعاً لأنصاره وأتباعه مكوناً جيشاً قوياً استطاع من خلاله تحقيق انتصارات مهمة على مناوئيه رفعت من سمعة (القزلباش) العسكرية وأدخلت الخوف والرعب في قلوب المنافسين وهذا ما ساعد على إعلان العديد من القبائل التركمانية تأييدها وانقيادها إلى سلطة إسماعيل ليمهد ذلك الطريق أمام إعلان قيام دولة جديدة وقوية هي الدولة الصفوية عام (1500م) وأصبح السلطان إسماعيل الصفوي هو حاكمها فاستمر في حكمه إلى عام (1524م).
كانت الخطوة الأولى التي سار عليها (الشاه إسماعيل الصفوي) اتخاذه المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للدولة على الرغم من اعتراضات عدد كبير من رجال حكمه إلا أن حب الرجل لأهل البيت (عليهم السلام) وتشربه بأفكارهم وعقيدتهم قد جعلته يصر على ذلك معلناً بذلك أول دولة شيعية بالتاريخ الحديث وقد عمل (الشاه إسماعيل) بحكمة وحنكة سياسية عالية في بسط سلطانه ونفوذ دولته محققاً إنجازاً عظيماً بتوحيده إيران بدولة قوية وحديثة حيث استطاع القضاء على كل الدويلات الحاكمة والتخلص من أعدائه وتوجه إلى العراق واستطاع القضاء على دولة (الخروف الأسود) ليصبح العراق تحت حكم الدولة الصفوية عام (1514م).
ونظم (إسماعيل الصفوي) أسس دولته وقانونها وسعى إلى نشر مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في كل الأرجاء كما قرب العلماء والأدباء والمثقفين والشعراء وفسح المجال لكل الأديان بممارسة عقائدها وشعائرها بحرية وهذا ما قرب الناس منه وجعله محبوباً واهتم (الشاه إسماعيل) ببناء الجيش وتطويره فامتدت فتوحاته إلى أماكن بعيدة حتى أصبح لدولته شأن عظيم ومما يمكن الإشارة إليه أن (إسماعيل الصفوي) كان شاعراً مجيداً وله ديوان شعر ولكن الملاحظات الأكثر شهرة عن هذا الرجل العظيم هو حبه وموالاته الشديدة لمذهب التشيع على الرغم من كونه محاطاً بمجموعة من الدول السنية التي ناصبته العداء وعلى رأسها الدولة العثمانية والدولة (الأوزبكية) حيث شنت الحروب المستمرة للقضاء على هذه الدولة الشيعية.
وخلف (الشاه إسماعيل) ابنه (الشاه طهماسب) الذي تقرب إلى العلماء ومنهم (علي بن الحسين الكركي) المتوفى (940هـ) والذي حصل على منصب (شيخ الإسلام) وقد عمل على إعلاء أعلام المذهب الجعفري ونشر فقه أهل البيت عليهم السلام ففوضه (الشاه طهماسب) سلطات واسعة ومنها عزل ونصب وانقياد كل الحكام والرؤساء في الأمور الشرعية وكان (الكركي) ناصحاً منتقداً لكل أخطاء الشاه ناشراً للعلوم الشرعية للمدارس الدينية بعد قدومه من مدينة النجف الأشرف حيث مقر المرجعية الدينية العليا وكذلك فقد تولى منصب (شيخ الإسلام) عند (الشاه سليمان الصفوي) (الشيخ العلامة المجلسي) صاحب كتاب (بحار الأنوار) وهذا يعطي دليلاً على مدى الانسجام بين الدولة الصفوية وعلماء الدين وارتباط الحكام الصفويين ورعايتهم لهؤلاء العلماء.
حكم الدولة الصفوية عدد من الحكام كان أبرزهم (الشاه عباس الكبير) الذي تولى السلطة عام (1639م) واشتهر بقوته وبأسه وشدته وتوطيده لأركان الدولة بعد أن أصابها الفتور والضعف وفي عهده اتخذ الصفويون من مدينة (أصفهان) عاصمة صيفية لهم وقد جعل منها (الشاه عباس الكبير) رمزاً للتطور والجمال والحداثة وأصبحت ملتقى لكل الأقوام ومن كل المذاهب والأديان وكان الشاه نفسه متسامحاً في مجال الحريات الدينية منفذاً للقانون.
وقد استمر التآمر الدولي ضد الدولة الصفوية وهذا ما جعل الشاه عباس) يتقرب من الدول الأوربية ويجلب البعثات العسكرية لتدريب وتحديث جيشه للوقوف أمام الأعداء الذين تدفعهم النزعة الطائفية المقيتة للقضاء على الدولة الصفوية ومنهم العثمانيون والأفغان والأوزبك وفعلاً فقد بلغت الدولة في عهده قمة تطورها وصعودها الحضاري وكان (الشاه عباس) قد تقرب كثيراً من علماء الدين الكبار ومنهم (الشيخ البهائي) و(الداماد) و(الفندرسكي) وكان هؤلاء يتمتعون بسلطات دينية واسعة ويوجهون الانتقادات اللاذعة (للشاه عباس الكبير).
عرف عن (عباس الكبير) موالاته وحبه لأهل البيت عليهم السلام وكان يلقب نفسه بـ(كلب أهل البيت) وهو على هذه الحال من السلطة والنفوذ وهذا ما أكسبه حب شعبه وارتياحه.
كانت الدولة الصفوية واحدة من أعظم الدول المتحضرة التي ظهرت في العصر الحديث لما امتازت به من قوة وتطور وهيبة ووقوف بوجه أعدائها الذين روجوا الإشاعات الطائفية ضدها وفي ظل هذه الدولة انتشر فكر التشيع بشكل واسع وامتد إلى مناطق بعيدة ومن الغريب أن يوجه كاتب ومفكر إيراني مثل (علي شريعتي) انتقاداته للدولة الصفوية وخاصة فيما يتعلق بإقامتها العلاقات مع الدول الأوربية ضد الدولة العثمانية متناسياً (شريعتي) أن العثمانيين أنفسهم هم أول من تعاونوا مع الأوربيين كما إن الدولة المتحضرة تقيم العلاقات فيما بينها كجزء من السياقات الدبلوماسية والمنافع السياسية والاقتصادية وهو ما حققه الصفويون من هذه العلاقات ويتناسى شريعتي قوة التآمر العثماني ضد هذه الدولة الشيعية والحقيقة إن في اتهامات شريعتي من الأخطاء الكثير.
عاشت الدولة الصفوية في مرحة من الضعف والخوار بوصول (الشاه حسين) إلى السلطة وكان هذا ضعيفاً عندما تولى عام (1694م) وساعد على انهيارها عام (1722م) الصراعات داخل العائلة الحاكمة وتدخل ومؤامرات بعض رجال الدين السنة وكذلك تدخل النساء في السياسة وتأثيرهن في اختيار الحكام، فكل ذلك ساهم في سقوط الدولة الصفوية على يد (السلطان الأفغاني محمود) الذي هاجم من الشرق في الوقت الذي كانت الدولة تصد هجوم الروس من الشمال والأتراك من الغرب وعلى العموم فإن هذه الدولة العظيمة قد تركت من الشواهد التاريخية والحضارية ما يؤكد هيبتها وقوتها ولا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل من دورها التاريخي في نشر التشيع والدفاع عن فكر أهل البيت (عليهم السلام) بالإضافة إلى قوتها الاقتصادية والسياسية والثقافية ولا يمكن التغافل عن أن هذه الدولة هي أول دولة اتخذت المذهب الشيعي مذهباً رسماً لها في العصر الحديث.
________________________
لمزيد من الإطلاع انظر:
(1) سليم واكيم، إيران والعرب.
(2) كمال السيد، نشوء وسقوط الدولة الصفوية.
(3) ستيفن لونكريك، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث.
(4) المجلسي، بحار الأنوار، الجزء الأول.
(5) محمد الحسون، حياة المحقق الكركي.