المثلية في البشرية .. وعصمة الأنبياء

221

قراءة في آية: ﴿إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾

 السيد عبد الستار الجابري(ماجستير علوم إسلامية)

 سؤال قد يطرح وهو: ألا يكون ادعاء العصمة منافياً لقوله تعالى: (إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ) الكهف:110. فإن ظاهر الآية أن الأنبياء كغيرهم من البشر وقد ثبت عصمتهم في تبليغ الرسالات من دليل خارج فيبقى النبي كغيره من البشر فيما سوى التبليغ.

 ولجواب هذا الإشكال نبحث عن البشرية في المصطلح القرآني ونرى هل أن الطباع التي عند الناس من مقتضى بشريتهم أم مقتضى أمر آخر فنقول وبالله الاستعانة: إن لفظة البشر وردت في الكتاب العزيز في عدة مواضيع يمكن إجمالها فيما يلي:

1ـ قول الرسل (صلوات الله عليهم) لقومهم أنا بشر مثلكم.

2ـ رفض الكفار للإيمان بالرسل لكونهم بشر.

3ـ ما ورد على لسان مريم عليها السلام من استغرابها أن يكون لها ولد ولم يمسها بشر.

4ـ إخبار الله تعالى ملائكته أنه سيخلق بشراً.

5ـ رفض إبليس السجود لبشر.

6ـ وصفن نساء مصر ليوسف عليه السلام بأنه ليس من البشر بل من الملائكة.

7ـ ما يستفاد منه من إخبارات الله تعالى لماهية البشر.

وما يخص بحثنا هو الموضع الأول والسابع لتحقيق كون البشرية نافية للعصمة أم لا؟

 القسم الأول:

1ـ قوله تعالى: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ الله يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) (سورة إبراهيم/الآية:11) فهذه الآية تدل بإضافة دلالات الآيات السابقة عليها أن الرسل إنما نفوا استقلالهم في إجابة أقوامهم إلى ما يطلبونه منه، ونفي الاستقلالية لا يثبت عدم العصمة بل إنما يثبت الحاجة إلى الله تعالى في صغائر الأمور وكبائرها وأنهم عليهم السلام لا يفعلون شيئاً إلا بأمر الله تعالى. فتلخص أن هذه الآية في مقام إثبات إمكان إرسال الرسل وتبعيتهم وعدم استقلالهم في التصرف عن الله تعالى وأي واحد من هذه الأمور لا ينفي العصمة عنهم صلوات الله عليهم.

2ـ قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (سورة الكهف/الآية:110).

إن هذه الآية الشريفة واضحة الدلالة في عدم جواز إشراك الأنبياء والرسل عليهم السلام في العبادة فيجب التوحيد في العبادة وأن لا يشرك العبد مع ربه أحداً.

فالرسول في هذه الآية يبين لمن بعث إليهم أنه عبد من العبيد اصطفاه الله بأن بعثه بالرسالة وأن الإله الذي تجب عبادته إله واحد ومن كان يرجو الفوز برحمة ربه فعليه أن يعمل الصالحات ويتجنب الذنوب وأكبر تلك الذنوب هو الشرك بالله تعالى لأن الذنب ظلم وأعظم الظلم هو الشرك بالله تعالى: (يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (سورة لقمان/الآية:13).

 

ومما يؤيد أن هذه الآية واردة في عدم جواز إشراك الرسل والأنبياء والأولياء في العبادة هو قوله تعالى في بعض الآيات المتقدمة على هذه الآية الشريفة (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) (سورة الكهف/الآية:102). فهذه الآية الشريفة أيضاً ليست في مقام نفي العصمة.

 

3ـ قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) (سورة فصلت/الآية:6).

 

إن هذه الآية الشريفة وردت بعد آيات صرح الكفار فيها بأنهم لا يريدون الإيمان بما جاء به الرسل وتحدوهم وقالوا لهم بأنهم سيستمرون على عملهم المنافي لدعوة التوحيد وتحدوا الرسل أن يستطيعوا أن يغيروا ما هم عليه بقولهم الذي حكاه الكتاب العزيز (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) (سورة فصلت/الآية:5).

 فالآية مورد البحث إنما تكشف أن الأنبياء يدعون إلى الله تعالى بدعوة الحق ولم يأذن لهم بالتصرف في المخلوقات بأعمال ولايتهم لينقلوهم من الكفر إلى الإيمان بل شاء الله أن يوجد في الإنسان دواعي الإيمان ودواعي الكفروأن يوجد في طريق الإنسان من يدعوه إلى الإيمان ومن يدعوه إلى الكفر وترك له اختيار طريقه وبعد ذلك مرجعه إلى الله فيوفيه حسابه.

 فالآية مورد البحث تظهر أن النبي (صلى الله عليه وآله) يجيب على تحدي المشركين بأنه ليس رباً ليعمل فيهم ما يشاء لأن المطلق الذي لا يسأل عما يفعل هو الله تعالى وإنما هو بشر مربوب كما هم بشر مربوبون غاية الأمر أن الله تعالى قد اختصه بالوحي وأمره بدعوة الناس إلى التوحيد فمن أجاب فاز برضا الله ومن عاند فمصيره إلى النار.

 فالآية الشريفة إذن ليست في مقام إثبات كل الصفات التي للآخرين هي للنبي وإنما في مقام إثبات جهة أنه عبد مربوب لله تعالى ليس التصرف إلا بإذن الله تعالى.

4ـ قوله تعالى: (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً) (سورة الإسراء/الآية:93).

 

فهذه الآية الشريفة تصرح أن اعتراض الرسول(صلى الله عليه وآله) بالبشرية إنما هو لنفي غير المعتاد من سيرة الناس وما عندهم من الملكات وأنه صلى الله عليه وآله وسلم في وجوده الملكي بشر مبعوث لهداية الناس وليس مكلفاً بالإتيان بالخوارق والمعجزات دائماً وهو الذي يشير إليه قوله تعالى: (هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً)(سورة الإسراء الآية:93) والرسول مبعوث من قبل غيره لإبلاغ ما أمره به المرسل فيتعين عليه العمل وفق ما رسمه له المرسل سواء كان قادراً على الاستجابة إلى ما يطلبه منه المرسل إليهم أم لا فهو صلى الله عليه وآله وسلم في الآية الكريمة يأمره الله تعالى أن يبين لهم أنه لا يخرج عن حدود ما رسمه الله تعالى إليه.

 وعدم استجابته(صلى الله عليه وآله وسلم) لهم إنما هو لعلمه بأنهم لن يؤمنوا حتى وإن أتاهم بما طلبوا لأنهم بعد أن طلبوا منه قائمة من الطلبات أضافوا إليها أنهم لن يؤمنوا لرقيه إلى السماء حتى يأتيهم بكتاب يقرؤونه، ومع ذلك فإنهم قد هيأوا لأنفسهم فيما لو آتاهم ما طلبوا إذ يرمونه بالسحر.

كما أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بل وجميع الأنبياء والرسل(عليهم السلام) منهجهم في الهداية هو إثارة الطاقة الكامنة في الإنسان للنهوض بمداركه وإيصاله إلى كماله، والمعجزة دليل على صدق المبعوث في دعواه لأن الغالب في الناس قصور إدراكاتهم عن فهم المطالب الدقيقة.

 فللآية الشريفة إيضاح ودلالة على أن إثبات البشرية للأنبياء والرسل يقتضي نفي العصمة عنهم صلوات الله عليهم أجمعين.

 وبهذا ينتهي القسم الأول من الآيات مورد البحث وكما يتبين فليس فيها آية دلالة على نفي العصمة عن الأنبياء والأئمة عليهم السلام لكونهم بشراً.

 القسم الثاني:

 إن هذا القسم من الآيات الشريفة يتحدث عن البشرية ولوازمها ومن تتبع الآيات الشريفة في هذا القسم سنجد أن البشرية في المصطلح القرآني لا يلازمها عدم العصمة.

1ـ قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)(سورة الحجر/الآية:28) الآية الشريفة في مقام الأنبياء عما جرى في العالم العلوي بين الله تعالى وملائكته حيث أنبأهم أنه سيخلق بشراً من صلصال من حمأ مسنون وأمرهم أنه إذا نفخ فيه من روحه فعليهم أن يسجدوا له، وهذا يظهر لنا عظمة آدم عليه السلام وأنه في مقام البشرية المحضة فإذا ولجته الروح يكون في درجة من العلو والقرب من المقام الإلهي تستدعي سجود الملائكة له إعظاماً وتكريماً، سجدت الملائكة وطاعة لله عز وجل معلنة بذلك خضوعها لأوامر الله تعالى، والذي يتابع سورة البقرة وما جرى هناك من إخبار الله تعالى ملائكته بجعل خليفة في الأرض وما بينه الملائكة من كونهم ذوي انقطاع في العبادة والتقديس فلم يجعل الله تعالى خليفة له في الأرض من غيرهم.

والذي يراجع تلك الآيات الكريمة يجد أن اعتراض الملائكة كان على الخليفة لا على البشر، وعندما أمرهم الله تعالى بالسجود، أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام لا للخليفة، والذي يتابع القصة هناك يجد الاعتراض كان بعد نفخ الروح وبعد السجود، ذلك لأن الملائكة لما اعترضوا طلب منهم الله تعالى إنباءه بالأسماء فلم يتمكنوا وأعلنوا عجزهم وأنبأ آدم الملائكة بالأسماء بعد أن علمه الله تعالى. وقبل نفخ الروح لم يكن لآدم أن يعلم شيئاً.

وهذا النص القرآني نبأ عن هذه الحقيقة:

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ* وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ) (سورة البقرة/الآيات:30ـ34).

 فإذن هذه الآيات الشريفة تثبت أن البشر لا تقتضي أي صفة نقص بدليل أنها عند نفخ الروح فيها استحقت سجود الملائكة ولو كانت البشرية تقضي أي صفة من صفات النقص لما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لها إذ ليس من العدل أن يأمر الله العبد المطيع الذي لا يعصي بالسجود لعبد من شأنه المعصية وارتكاب الآثام. ومثلها في الدلالة الآية (72) من سورة (ص).

2ـ قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) (سورة الفرقان/من الآية:54).

وهذه الآية الشريفة أيضاً لا تثبت العصمة للبشر بل الذي تثبته هو الطبيعة الخلقية والقدرة المخزونة في المادة، قال العلامة الطباطبائي: (و… والمعنى وهو الذي خلق من النطفة ـ وهي ماء واحد ـ بشراً فقسمه قسمين ذا نسب وذا صهر يعني الرجل والمرأة وهذا تنظير آخر يفيد ما تفيده الآية السابقة أن لله سبحانه أن يحفظ الكثرة في عين الوحدة والتفرق في عين الاتحاد وهكذا يحفظ اختلاف النفوس والآراء بالإيمان والكفر مع اتحاد المجتمع البشري بما بعث الله الرسل لكشف حجاب الضلال الذي من شأنه غشيانه لو لا الدعوة الحقة).

فيثبت من الآيات الشريفة أن مصطلح البشر في القرآن الكريم لا يقتضي نفي العصمة وأن المثلية المشار إليها في قوله تعالى: (إنما أنا بشر منكم) يراد منها المثلة في أصل الخلقة وبعبارة أخرى نفي الاستقلال الذاتي وإثبات العبودية لله تعالى.

وحينئذ لقائل أن يقول إذا لم يكن البشر هو الذي نفيت عنه العصمة فأي شيء نفيت عنه العصمة.

الجواب على ذلك أن البشرية هي حقيقة المخلوق الطيني تمييزاً له عن المخلوقات النارية الذين هم الجن والشياطين والمخلوقات النورية الذين هم الملائكة.

والبشر في نشأته الطينية كان بشراً وأما بعد أن تلجه الروح يصبح إنساناً والإنسان ذو مراتب مختلفة لذلك لم يقع في الكتاب العزيز دعوى المثلية في الإنسان فلم تأتي آية تأمر النبي7 أن يقول إنما أنا إنسان مثلكم، وعلة ذلك أن الإنسان ذو مراتب بعضها في أقصى درجات الكمال وهي مرتبة الإنسان الكامل ثم يتدرج في الهبوط حتى يصل إلى مرتبة ما دون مرتبة الأنعام.

والآيات الكريمة الواردة في نفي العصمة والذم ونحوها موجهة إلى الإنسان لا إلى البشر، وعند تتبع الآيات الكريمة نجد ذلك الفرق في مراتب الإنسانية والى هذا الفرق في مراتب الإنسانية أشارت بعض الآيات الشريفة في (سورة التين): (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (سورة التين/الآيات:4ـ6) يقول العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآيات الشريفة:

قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً* لِيُعَذِّبَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا) (سورة الأحزاب/الآيات:73،72).

الأمانة ـ أياً كانت ـ شيء يودع عند الغير ليحفظه ثم يرده إلى من أودعه فهذه الأمانة المذكورة في الآية شيء ائتمن الله الإنسان عليه ليحفظ على سلامته واستقامته، ثم يرده إليه سبحانه كما أودعه.

ويستفاد من قوله: (ليعذب الله المنافقين والمنافقات) أنه أمر يترتب على حملة النفاق والشرك والإيمان فينقسم حاملوه باختلاف كيفية حملهم إلى منافق ومشرك ومؤمن.

وأما الآيات الشريفة الأخرى التي تثبت صفات النقص للإنسان فهي كثيرة نذكر منها على سبيل المثال:

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (سورة هود/الآيات:10،9).

(إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (سورة إبراهيم/الآية:من الآية34).

(خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (سورة النحل/الآية:4).

(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ) (سورة الإسراء/من الآية:83).

(كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى) (سورة العلق/الآية:6).

وبالإضافة لها توجد آيات تثبت الكمال للإنسان مثلاً:

(خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (سورة الرحمن/الآيات:4،3).

فهذه الآية كاشفة عن كمال في الإنسان وهو الاستعداد للتعلم.

(عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (سورة العلق/الآية:5).

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (سورة الذاريات/الآية:56).

فمقتضى الجمع بين هذه الآيات الشريفة أن الإنسان جامع لصفات الخير والشر وفيه أهلية القرب والبعد من الله تعالى فصفات الكمال وصفات النقص موجودة في الإنسان فإذا بلغ الإنسان أعلى مراتب كماله كان مظهراً من مظاهر الكمال المطلق، وإن كان بذاته ليس كمالاً مطلقاً لأنه محتاج والحاجة تنافي الكمال المطلق، ولكنه مظهر لذلك الكمال المطلق الذي لا يشوبه نقص وليس كمثله شيء.

ولذا لا نجد الله تعالى يأمر رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يقول للمشركين إنما أنا إنسان مثلكم للتفاوت في درجات الكمال الإنساني، وإنما أمره أن يقول إنما أنا بشر مثلكم للتساوي من هذه الجهة وهي جهة الخلق من الطين وقبل اقتران الروح بهذا الجسد الطيني لم يكن حائزاً على أي من درجات الكمال، وإنما لحقته درجات الكمال بعد أن اقترنت به الروح.

 

وبهذا يثبت أن المماثلة في البشرية لا تقتضي أكثر من الإمكان والافتقار إلى الله تعالى وأما مراتب الفرق والاختلاف فهي في الحقيقة الإنسانية ودرجات الكمال المتحققة لكل واحد من الناس.

وبهذا يثبت أن المماثلة في البشرية لا تقتضي نفي العصمة.

وبالإضافة إلى ما تقدم نقل البخاري في صحيحه مجموعة روايات تؤكد هذا المعنى:

1ـ كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تنام عينه ولا ينام قلبه.

2ـ عن عائشة في آخر الرواية (تنام عيني ولا ينام قلبي).

3ـ عن شريك بن أبي نمر سمعت أنس بن مالك يحدثنا عن ليلة أسري بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، وقال آخرهم: خذوا خيرهم. فكانت تلك فلم يرهم حتى جاؤا في ليلة أخرى فيما يرى قلبه والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نائمة عيناه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء (عليهم السلام) تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فتولاه جبريل ثم عرج به إلى السماء).

وهذه الرواية تدل على خصوصية في الأنبياء(عليهم السلام) وحملة الرسالات وحفظتها أنهم دائماً في أقصى حالات الوعي والإدراك، ذلك لأن النوم هو حالة الاسترخاء وتعطل القوة المدركة عن العمل فالإنسان لا يستطيع ممارسة التفكير عند نومه بل لو كان له شغل شاغل لرأى في نومه كوابيس وأموراً تكشف عن اضطراب في الإدراكات، وكذلك فإن الإنسان إذا نام بل إذا أغلق عينيه لم يدرك الأمور المبصرة بالعين بينما مقتضى هذه الرواية أن الأنبياء يرون ويسمعون حتى في حالة النوم، وهذا يكشف أن الأنبياء لهم حاسة إدراكية أعلى وأرقى من الحواس العادية الموجودة عند سواهم من الخلق وبهذه الخصوصية تكون المعلومات دائمة الحضور عند حفظة الرسالة فلا تزدحم عندهم المعلومات في اليقضة ولا في المنام. بل أن البخاري يروي ويروي غيره أيضاً أن النبي(صلى الله عليه وآله سلم) يرى من أمامه كما يرى من خلفه وهذا كاشف عن وسائل الإدراك عند حملة الرسالة وحفظتها أوسع منها في غيرهم فلا تزاحم في المعلومات عند حملة الرسالة ولا يحجب عنهم شيء ولا تتعطل وسائل إدراكهم في نوم أو مرض أو هم أو غم أو فرح وبذلك يثبت لهم العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

ومثله هذا الحديث رواه المجلسي في البحار عن رجال الكشي بإسناده إلى زيد الشحام قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: طلب أبو ذر رسول الله(صلى الله عليه وآله سلم) فقيل له في حائط كذا وكذا فتوجه في طلبه فوجده نائماً فأعظمه أن ينبهه فأراد أن يستبرئ نومه من يقظته فتناول عسيباً يابساً فكسره ليسمع صوته ليستبرئ نومه فسمعه رسول الله(صلى الله عليه وآله سلم) فرفع رأسه فقال: يا أبا ذر تخدعني؟ أما علمت أني أرى أعمالكم في منامي كما أراكم في يقظتي إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) (بحار الأنوار 25/ 411)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*