لماذا هدم القبور؟!
السيد محمد علي الحلو
ثقافة التخريب .. وسايكولوجية الانتقام عند الآخر
لم تعد فاجعة هدم قبور أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بأعظم من فاجعة قتلهم وتصفيتهم بشتى الطرق، فقتل المعصوم أعظم من هدم قبره والاعتداء عليه.
لكن الذي يوقفنا في هذا المضمار هو دواعي هذه الظاهرة اللاإنسانية، حيث تميز أعداء آل البيت بتحويل سخطهم بعد موتهم على قبورهم الطاهرة دون أدنى مراعاة لأي خلق إنساني نبيل، ولم أجد فيما أملك من المصادر ما يشير إلى سابقة قبل هذه الظاهرة، تميز بها أعداء آل البيت (عليهم السلام)، فلعلها وراثة من ثقافة أخرى اكتسبها هؤلاء وأحسب إن العربي شديد الأنفة من ذلك لمنافاته مع غيرته العربية وشيمته، ولعل ذلك جاء من ثقافات غير عربية وقد اتخذها أعداء أهل البيت (عليهم السلام) موقفاً خاصاً يميزهم في تعاملهم في أعدائهم، وهو دليل على انتساب ثقافتهم غير العربية كأحسابهم الهجينة.
ويمكن أن نجد هذه الثقافة (ثقافة التخريب) في فلسفة العداء اليهودي الذي يدعو أصحابه إلى تخريب معابد الآخرين لأنهم مخالفون لهم في العقيدة، ففي (بروتوكولات حكماء صهيون) نجد هذه الوصايا ضمن ثقافة تسيرها أطروحة الانتقام من المخالف بالاعتداء على دور عبادته تنكيلاً منهم به ففي وصايا حكماء صهيون لأتباعهم تجد مثل هذه العبارات (كنائس المسيحيين كبيوت الضالين ومعابد الأصنام فيجب على اليهود تخريبها…)(1) ولم نملك من المصادر القديمة ما يشير إلى هذه الظاهرة وتطبيقها عملياً، إلا أن التثقيف عليها دليل على تأصل هذه الثقافة في نفوس اليهود، ولعلهم لم يزاولوها في ذلك الوقت حتى حاولوا تسريبها في أرجاء الجزيرة العربية وتأثر المشركين يكشف عن مدى بذل هؤلاء اليهود مساعيهم من أجل تصدير هذه الثقافة وتأصيلها في الغير، وبالفعل فقد ظهرت أولى بوادر هذه الثقافة آنذاك على هند زوجة أبي سفيان حينما حاولت التنكيل بالنبي (صلى الله عليه وآله) بأن قامت بنبش قبر أم النبي (صلى الله عليه وآله) السيدة آمنة بنت وهب ثم أقدمت بعد ذلك بالتمثيل بجسد حمزة عم النبي (صلى الله عليه وآله) ولم تزل هذه الظاهرة تتصاعد وتائرها لدى النفسية الأموية الحاكمة ويبدو أن هناك إصرار على محاولات التنكيل بالآخر، وربما امتاز العداء الأموي لأهل البيت (عليهم السلام) ملاحقة قبورهم وتخريبها متوخين بذلك فرض الهيمنة على المعارضة العلوية الصامتة المتمثلة بالأئمة المعصومين (عليهم السلام) ومحاولة السيطرة على تحركات شيعتهم من خلال عدم التواصل بين أهل البيت (عليهم السلام) وقواعدهم الشعبية سواء كانوا أهل البيت (عليهم السلام) على قيد الحياة فيأخذون تعاليمهم وتوجيهاتهم منهم (عليهم السلام)، أو من خلال استشراف النصر والثورة من قبورهم، أي هناك حيوية في العلاقة بين قبورهم وبين شيعتهم تذكي قيم روح الثورة وخيار التحرير هذه هي صفة قبور أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وليست هي قبور مجردة عن أية حياة بل قبورهم تحكي أرواحهم ونفوسهم وتكمن فيها طبائعهم كما كمنت في أجسادهم المطهرة.
إذن قبورهم عليهم السلام بمثابة أجسادهم الطاهرة تكمن فيها طبائعهم المستجنة بها أرواحهم الزكية، لذا فإن علاقة الزائر والمزور عندهم تتعدى أكثر من معنى، فهي غير مقتصرة على تعظيمها فحسب، بل تكمن فيها علاقة الانفعال بين الزائر والمزور، لذا فإن زيارتهم تشعر بنشوة الراحة والاطمئنان، ومن ثم تبعث في الزائر روح الحركة والحيوية، ومعنى ذلك تتولد لديه امكانية الثورة والرفض للذل والهوان كما كانوا هم (عليهم السلام) في حياتهم، أي تبعث زيارتهم في النفس الخاملة النشاط لا على الصعيد الروحي فحسب بل على الصعيد العملي كذلك، إذن فقبورهم تستنهض همم القادمين إليها والواقفين عليها، هذه هي خاصية زيارة قبورهم أو قل هذه هي صفة قبورهم (عليهم السلام) حيث الحركة والحيوية أي ديناميكية الإبداع والتغيير، من هنا نقف على ماهية التعامل مع قبور أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من قبل أوليائهم ومن قبل أعدائهم، فأوليائهم يستشرقون فيها الحياة، وأعداؤهم يستشعرون منها الموت، وشتان بين هؤلاء وأولئك لذا تجد حرص الفريقين في التعامل مع قبورهم (عليهم السلام)، فأوليائهم يحرصون على بقائها حية في ضمائرهم شاخصة في وجدانهم، وأعدائهم يحرصون على فنائها وتخريبها بشكل يضمن لهم إبعاد هاجس الخوف الناشئ من الهزيمة والانكسار، أي أن انهزامية أعدائهم توحي لهم بخطورة هذه القبور الماثلة، والقباب الشامخة، لذا فإنك تجد تحري الأئمة (عليهم السلام) في محاولة إخفاء قبورهم لعلمهم بتوجهات أعدائهم من محاولة المبالغة في التنكيل بهم حتى بلغ الأمر أن يوصي علي بن أبي طالب (عليه السلام) أولاده بالتمويه على قبره بعد دفنه، وأن تضع له قبور رمزية لإخفاء قبره عن عدوه فيعمدون إليه لينبشوه مبالغة منهم في إظهار حقدهم وبغضهم.
روى السيد ابن طاووس بسنده عن محمد بن الحسن الجعفري قال: وجدت في كتاب أبي، وحدثتني أمي عن أمها أن جعفراً بن محمد حدثها: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أمر ابنه الحسن بن علي أن يحفر له أربعة قبور في أربعة مواضع، في المسجد، وفي الرحبة، وفي الغري، وفي دار جعدة بن هبيرة، وإنما أراد بهذا ألا يعلم أحد من أعدائه موضع قبره(3).
وفي حديث مولىً لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) في حديث دفنه (عليه السلام) إلى أن قال: … فلحقنا قوم من الشيعة لم يشهدوا الصلاة عليه، فأخبرناهم بما جرى وبإكرام الله تعالى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالوا: نحب أن نعاين من أمره ما عاينتم، فقلنا لهم: إن الموضع عفا أثره بوصية منه (عليه السلام) فمضوا وعادوا إلينا فقالوا: إنهم احتفروا فلم يروا شيئاً(4).
هذه هي دواعي إخفاء قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبقي كذلك حتى أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يتعاهدون زيارته سراً وكانوا يحرصون عند زياراتهم هذه أن يصطحبون معهم خواص شيعتهم ليوقفوهم على قبر جدهم أمير المؤمنين (عليه السلام).
ولم يكد الحسن بن علي (عليهما السلام) أن يدفن عند جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى كانت معارضة المرأة التي تؤول إلى أن ترمى جنازة الحسن بن علي (عليهما السلام) بالسهام لتمنعهم من مزاولة حقه وهي دفنه عند جده رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ولم تزل هذه الثقافة ـ أي ثقافة التخريب لقبور أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ـ تتنامى في ظل سياسة الملاحقة لأشخاصهم حتى تصل ذروتها والتنكيل لآل البيت (عليهم السلام) وفي الوقت نفسه يشعر المنصور العباسي بالهزيمة في داخله، فهو حينما ينصحه أحد المقربين له بالكف عن سياسة البطش لآل علي (عليه السلام) فإنه يكشف عن هذه الهزيمة بقوله: إنه يلاحق أناساً يرونه بالأمس سَوَقَه، ومعنى ذلك أن الدونية التي يعيشها المنصور العباسي تدفعه باتجاه الانتقام من آل علي (عليه السلام) والتنكيل بهم فيحاول أن يتعرض لهم بشتى أساليب المطاردة وأهمها تعفيه آثارهم وتهديم قبورهم لذا فإنه حرص كثيراً على هدم قبر الحسين (عليه السلام) ظناً منه أن يحيل أمر معارضة العلويين إلى تراجع، في حين تسجل حالات التعرض لقبر الحسين (عليه السلام) أعلى مستويات الانكسار في نفسية المنصور الذي كان يقتات على فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام) قبل توليه لهذا المنصب، وهكذا هي دواعي الانتقام من قبر الحسين (عليه السلام) فإن الرعب الذي يداخل المنصور وعدم الأهلية التي يتوجسها تدفعانه إلى تغطية هذه الدونية فيعمد إلى محاربة هذه المعارضة المتأججة من قبر الحسين (عليه السلام) والعمل على إيقاف جذوتها، ولم تقتصر حالة هدم قبر الحسين (عليه السلام) وتخريبه على سياسة المنصور الانهزامية حتى تترجمها إلى عدة انتهاكات من قبل سياسة الرشيد التوسعية، فإن هارون عمد إلى التوسع في سياسته العدوانية ضد أهل البيت (عليهم السلام) الذين كانوا معارضين صامتين بتوجسهم الرشيد العباسي في كل لحظة، لذا فقد أمر بهدم قبر الحسين (عليه السلام) ومطاردة زائريه ولم يكتف بذلك حتى عمد إلى قطع سدرة كان يستظل بها الزائرون لقبر الحسين (عليه السلام) وقد توارث الناس حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلعن قاطع السدرة فقال: لعن الله قاطع السدرة، ولم تتحقق هذه النبوءة إلا في عهد الرشيد الذي أوغل في محاربة آل علي (عليه السلام) ومحاولة إيقاف تقدم أمرهم فضلاً عن تصفية رموزهم بدس السم وقتلهم.
وإذا توقفت هذه المطاردات أبان عهود الأمين والمأمون والمعتصم والواثق لسياسة استعطاف العلويين وذلك على خلفيات الحركات العلوية المتوالية فضلاً عن سياسة تخالف أسلافهم فكرياً وأيديولوجيا، فإن سياسة المتوكل العباسي تراجعت إلى أدنى مستوياتها في حفظ حقوق العلويين ومحاولة التحرك باتجاه سياسة تخالف أسلافه منطلقاً من رؤية عقائدية متشددة حيال أهل البيت (عليهم السلام) والعمل على إيقاف هذا المد الآخذ بالتوسع شعبياً، وفكرياً ولم يجد المتوكل من نفسه أهلية الحكم والخلافة، فقد كان الصراع محتدماً في البيت العباسي بين تيارات متنافسة تحاول أن تحوز الحكم لصالحها، وكانت هذه التيارات المتنافسة تقرر مصير الخليفة وإمكانية توليه منصبه، لذا فمن الممكن أن يتشبث الخليفة بما تمليه ظروف الصراع وإمكانيات إرضاء بعض أطرافه فضلاً عن كونه يحاول إشغال الرأي العام بصرفه عن قضية الصراع التنافسي وضعف صلاحيات الخليفة بإشعال حالة الفوضى والاضطراب في الأوساط العامة فضلاً عن إضعاف القواعد الشعبية للإمام عليه السلام، فيتحرى المتوكل على خلفيات ذلك التنكيل بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم والحد من اتساع رقعة التأييد الشعبي الذي يتمتع به أهل البيت (عليهم السلام) فيعمد إلى التركيز على هدم قبر الإمام الحسين (عليه السلام) ويجرف أرضه المباركة ويشدد على مواصلة زيارة قبره الشريف، فيأمر بتهديم قبر الحسين (عليه السلام) ومنع الناس من زيارته تعبيراً عن فشله في إدارة دفة الصراع الناشب بين الأتراك تارة، وبينهم وبين العباسيين تارة أخرى.
واستمرت هذه الظاهرة حتى تفاقمت لتكون ثقافة العامة للتنكيل بالآخر وكانت فتنة المسترشد بالله العباسي يوم العاشر من محرم الحرام سنة (517هـ) أسوأ ما شهدته بغداد على صعيد الأحداث، فقد تجرأ العامة على نهب محتويات ضريح الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) والعبث في ممتلكاته ـ وقد ذكرنا ذلك في مقال نشر في العدد السابق ـ في حين يذكر ابن الأثير أن الفتنة انبثقت سنة (443هـ) وكانت مروعة على ما يصفه ابن الأثير، حيث جرأة العامة دفعتهم إلى ارتكاب أشنع الأعمال في حق ضريح الإمامين موسى بن جعفر ومحمد الجواد (عليهما السلام) حيث يذكر ابن الأثير ما صورته (فدخلوا ـ أي العامة ـ ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضة وستور وغير ذلك ونهبوا ما في الترب والدور وأدركهم الليل فعادوا، فلما كان الغد كثر الجمع فقصدوا المشهد وأحرقوا جميع الترب والأراج واحترق ضريح موسى وضريح ابن ابنه محمد بن علي والجوار والقبتان الساج اللتان عليهما، واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من قبور ملوك بني بويه معز الدولة وجلال الدولة … فلما كان الغد خامس الشهر عادوا وحفروا قبر موسى بن جعفر ومحمد بن علي لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر…(5).
وأغلب الظن أن السياسة العباسية كانت تدفع الاتجاه وتسخر هؤلاء للاعتداء والإساءة.
وفي تعليقه على هذه الأحداث ذكر الباحث رشيد خيون أن فتنة العامة كانت تحركها الحنابلة فقال: لم يكن كل العامة حنابلة… غير أن حضور الحنابلة المنتظم والموجه بين سواد الناس جعلهم قادرين على تحريكها ضد من يشاؤون ـ ويقصد باتهام الحنابلة لكل من يعارضهم بأنه ينتسب إلى القرامطة ـ لذا ولقوة تأثيرهم على الناس ببغداد بالذات فلا يذكر لهم نشاط في المدن الأخرى، حاول عدد من الخلفاء التقرب إلى الحنابلة…(6).
وهذا يؤكد لنا أن دفع الخليفة العباسي لهذه الأحداث أو على أقل تقدير السكوت عنها يفضي إلى مثل هذه الأحداث الجائرة. كان لامتداد الحنابلة عقائدياً أثره السلبي في تنضيج فكرة التصحيح للعقائد الإسلامية على يد شرذمة من النفعيين أتباع محمد بن عبد الوهاب الذين عزموا على محاولاتهم الإصلاحية بشكل أثار المسلمين سنة وشيعة، حيث عمدوا إلى هدم قبور أئمة البقيع (عليهم السلام) في الثامن من شوال سنة (1344هـ) وقبر سيد الشهداء الحمزة بن عبد المطلب وألحقوا قبوراً أخرى تعرضت للهدم كذلك منها قبر فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقبر إبراهيم ابن النبي (صلى الله عليه وآله) وقبر إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وقبور بنات النبي (صلى الله عليه وآله) وقبر حليمة السعدية مرضعة النبي (صلى الله عليه وآله) وقبور عدد من الشهداء.
هذه (ثقافة التخريب) تتصاعد وتائرها اليوم لتشهد على هزيمة الآخر وانكسار نفسيته وفشله الذريع.
وآخر ما تطالعنا ظاهرة التخريب بكل أبعادها وتداعياتها غير الإنسانية أن تطال يد الغدر والخيانة مرقدي العسكريين (عليهما السلام) في سامراء والذي يمثل منعطفاً خطيراً في تدني الوعي الإسلامي والأخلاقي لدى هؤلاء الذين يدعون الإسلام، والإسلام منهم براء، ولسوف تبقى قبتاهما شاهدة على إرادة الله في أوليائه ليزيدهم نوراً وتألقاً وتوهجاً، وفي أعدائه خسراناً مبيناً، ولم يزد أئمة الهدى إلا نوراً وأتباعهم إلا بصيرة (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين).
_________________________
(1) بروتوكولات حكماء صهيون وتعاليم التلمود، 340، منشورات دار الفنون، بيروت.
(2) شرح الزيارة الجامعة الكبيرة، الشيخ أحمد الإحسائي، 4/60.
(3) فرحة الغري، 61.
(4) نفس المصدر.
(5) الكامل لابن الأثير أحداث سنة (443هـ).
(6) الأديان والمذاهب بالعراق، 411.
المصدر: مجلة ينابيع