هكذا نُكّرمُ الأعلامِ.. مصطفى جواد أنموذجًا
حيدر الجد
جدير بالأمة أن تحتفي بأبنائها الذين حفظوا لها مجدها وعملوا بكل ما أوتوا من قوة في خدمتها وصيانة تراثها فلم يفتروا في ليل أو نهار مواصلين الطريق رغم وعورته وصعوبته، فلم يثن عزمهم قول هامس أو وشاية عاذل أو ظلم حاكم، يلتمسون مواضع الإبداع فيسرعون إليها ورائدهم شوق يحدو بالنفس وأمل ينفتح في العقول وكلاهما يفضيان إلى أسمى علاقة بين الإنسان ووطنه، بين الفرع وأصله.
وعلى هذا الأساس سارت كوكبة نخبوية، تجلت فيها معاني المواطنة الصالحة، فلم تكترث لباقي المسميات ولم تخضع لحديث الشهرة والمال، بل واصلت الدرب بالعمل الجاد لتستقر في رحمة الله بعد تأدية الواجب خير أداء.
من هؤلاء برز عَلَمٌ خفّاق في سماء الأمة العربية والإسلامية، إنه الدكتور مصطفى جواد الذي خدمهما كما يخدم الولد الصالح أبويه، وجاهد فيهما جهاد الجندي الذي يدافع عن أغلى ما يملك بعقيدة راسخة وبصيرة نافذة.
لقد مثّل مصطفى جواد حالة إبداعية فاقت التصور، فلم يطرق بابًا معرفيًا إلا وفُتح له على مصراعيه، ولم يمشِ بدرب إلا قاده نحو ما كان يتطلع إليه، راغباً في تقديم ما يخدم أمته ويجعلها ترتقي في سلم المجد.
هو مصطفى جواد مصطفى البغدادي ولد ببغداد سنة 1905/1326هـ ، انتقل مع والده إلى مدينة الخالص التي كانت تعرف بـ(دلتاوه) إحدى أقضية محافظة ديالى، درس بها في المدارس الرسمية ، في سنة 1338 هـ (1920م) توفي والده فعاد إلى بغداد فأقام بها تحت رعاية أخيه كاظم أحد أدباء بغداد، عاش مصطفى حياة الفقر والحرمان ولكنه بالرغم من ذلك جدَّ واجتهد وواصل المشوار الصعب متسلحاً بالعزيمة والصبر، تتوثب فيه روح الطموح، فما لبث أن أكمل دراسته ببغداد حيث أنهى دراسته في المدرسة الجعفرية الأهلية، ثم دخل دار المعلمين وتخرج منها بعد مضي ثلاث سنين، ثم تدرج من معلم في المدارس الابتدائية إلى طالب في جامعة القاهرة ثم التحق بالسوربون في باريس لينال شهادة الدكتوراه في التاريخ عن أطروحته (الناصر لدين الله العباسي)، بعدها عاد إلى بغداد وعُيّن أستاذاً في دار المعلمين العالية (كلية التربية) ومكث بها إلى سنة 1362هـ (1943) عندها ترفع للأستاذية، ثم انصرف إلى البحث والتنقيب والتتبع، حتى أصبح حجة لا يبارى في اللغة والتاريخ والخطط(1)، أجاد اللغتين الفرنسية والإنكليزية. كتب وألف ونشر كتباً ومقالات في المجلات والصحف فكانت أعماله بارزة يُشار إليها بالبنان منها بالاشتراك مع الآخرين مثل (دليل الجمهورية العراقية) وغيره، ومنها من جهده ونتاجه الشخصي منها(2):
-
أصول تحقيق النصوص.
-
دراسات في فلسفة النحو والصرف واللغة والرسم.
-
دليل خارطة بغداد قديمًا وحديثاً.
-
المباحث اللغوية في العراق.
-
سيدات البلاط العباسي.
-
الشخصيات العربية.
-
عصر الإمام الغزالي.
-
المعجم المستدرك(مخطوط).
-
السلك الناظم لدفناء مشهد الكاظم(ع).
10ـ رباعيات حسين قدسي نخعي، ترجمها من الفارسية (مخطوط).
11ـ ألف نهار ونهار ، ترجمه عن الفرنسية (مخطوط).
12ـ الشعور المنسجم في الكلام المنتظم، ديوان شعره(مخطوط).
وغيرها كثير من المطبوع والمخطوط (3)
أما تحقيقاته فكانت للكتب:
-
مختصر الساعي لابن الدبيثي.
-
الحدود في النحو.
-
تلخيص مجمع الآداب، لابن الفوطي.
-
تكملة إكمال الكمال لابن الصابوني.
أما المجلات التي كتب فيها مقالاته وبحوثه القيمة فهي:
-
العرفان اللبنانية.
-
مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق.
-
مجلة لغة العرب.
-
مجلة المجمع العلمي العراقي.
-
مجلة الغري النجفية.
-
مجلة البيان النجفية.
أثنى عليه من انتفع من علمه خصوصاً العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني، حيث وردت أكثر من مرة في كتاب الغدير عبارة (كتب إلينا الدكتور مصطفى جواد…)(4) مما يدل على اعتماد الأميني على رأيه، فقد جعله مصدراً مهماً في تصحيح عدد من المعلومات التاريخية.
كما شكره العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني في معرض ممن آزره بالملاحظات القيمة ونبهه إلى ضرورة تقصي صحة المعلومة حينما نشر مصطفى جواد تصويباته على صفحات مجلة البيان(5).
توفي مصطفى جواد ببغداد سنة 1969م/1389هـ، وقيل سنة 1970م (6) وقد نعاه الكاتب عبد القادر البراك في مقال نشر في جريدة الجمهورية حيث قال في بعض منه: (كما يخر المجاهد الشهيد في المعركة فيرضي ربه وشعبه، خرّ الدكتور مصطفى جواد صريعاً في ميدان الجهاد العلمي والأدبي والتاريخي دون أن تصرفه أوصاب المرض وأوجاعه عن ملازمته البحث والتحقيق بروح الطالب المثابر الدءوب، وبخلق العالم المتواضع الصبور، وبتجرد الصوفي الذي يقدم ذوب نفسه وقلبه للناس وهو قرير العين مستريح الضمير، فلا غرو أن يستشعر الجميع عظم الخسارة فيه وعدم سهولة التعويض عنه ….)(7).
وقد نقل جثمانه إلى مدينة النجف الأشرف ليوارى الثرى عند سيد الوصيين أمير المؤمنين الإمام علي(ع) ليدفن في مقبرته المطلة على شارع كربلاء، في الركن المقابل لمحطة تعبئة وقود الكرار، ومقابل مطعم الواحة الجديد، بامتداد كراج النقل الداخلي الحالي، والآن مقبرة هذا العالم الفاضل ما هي إلا خربة أو لنقل مستودعًا للأتربة وبقايا الأعشاب وما يتساقط من الأشجار فتسحبه الرياح حيث فناء المقبرة، والمقبرة عبارة عن فسحة مستطيلة يحيط بها جدار قديم مهدم من بعض أركانه، وتطل على الشارع بواسطة باب حديدية أخذ الصدأ منها كل مأخذ.
يقع قبر مصطفى جواد في منتصف المقبرة وهو عبارة عن دكة تناثرت أحجارها فبقي بعضها متماسكًا بفعل ما بقي من كتلة الإسمنت التي تحيطها لتعطي إشارة على تعيين القبر قبل أن يندرس، وخلف قبر مصطفى جواد هناك خمسة قبور: لولده فائق وولديه اللذين استشهدا في بغداد إثر موجة القتل الطائفية التي اجتاحت بغداد سنة 2007 وقبرين آخرين. الشعوب التي تسكن كوكبنا ترى في العلماء قديسين فينصبون لهم مراقد تكرم أشخاصهم ويقيمون المهرجانات العامة لإبراز دورهم، أما مصطفى جواد فلم يوفِ له حتى الأكاديميون أنفسهم ممن تتلمذوا عليه وتعلموا منه واستفادوا من معارفه وكتاباته، فلم يعقدوا لفكره ودوره في خدمة العلم مؤتمراً أو حتى ندوة يجتمع فيها أقرانه وأصحابه وتلامذته فيستذكروا صفحات من عطائه، كذلك الإعلام بقنواته ومؤسساته وفضائياته التي تبحث هنا وهناك عن حديث أو حدث تحاول به ملء فتراتها الزمنية الفارغة غمطت مصطفى جواد حقه فلم تقدم فلماً وثائقياً أو حتى برنامجاً تعريفياً لسيرته ومسيرته. وإذا أغمضنا الجفن عن ذلك فما بال يد الإعمار لم تمتد لتبني فوق مقبرته البائسة ولو ما يدلل على كونها تضم هذا الرجل المفكر الذي حمل هم الأجيال ولم يحمل همه أحد؟، ولعل ثمة من يشمّر عن ساعده ويلتفت إلى المرقد لا ليكرم عظاماً بالية، أو ليجعل القبر مزاراً تستدر فيه العبرات والأرزاق، بل ليكرم العالم الذي حل فيه، أو ليجلب انتباه المارة فيذكروا صاحبنا بقراءة سورة الفاتحة ليهدوها لنفس تعبت في حياتها لأجل لغتنا وتاريخنا وديننا، ولا شك أن هذه الروح مرفرفة في وادي السلام معقل الأرواح المؤمنة تدعو لمن يؤسس ويشيد ما يعيد الذكر بالتوفيق والغفران، إنها دعوة لكل من سمع فعمل بدءًا من رئيس الحكومة ومروراً بوزيري الثقافة والتعليم العالي وبمحافظ النجف وبالمحسنين الذين يسارعون للخيرات فيحيون آثاراً على وشك الضياع.
المصادر
(1) الزركلي، الأعلام، 7/230
(2) المصدر السابق.
(3) الفتلاوي، المنتخب من أعلام الفكر والأدب، ص658.
(4)الغدير، 6/51.
(5)الذريعة، 6/399.
(6)الزركلي، الأعلام، 7/230
(7) الأمين، مستدركات أعيان الشيعة، 1/253.
المصدر: (مجلة ينابيع – العدد 51) تصدر عن مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية