موتوا كي نصوِّركم

245

004_355

ملأت صور أطفال يفارقون الحياة، الشاشات المحلية والفضائية، ومواقع التواصل الاجتماعي بالأمس. كنا جميعاً مسمّرين أمام التلفزيون، لنتفرّج عليهم يموتون. أجساد طرية متلاصقة، وسط أصوات مستغيثة ألفها سمعنا منذ بداية الأزمة في سوريا. للحظةٍ، لا يعود الموت هو الخبر الوحيد. تصير الصورة بكلّ بشاعتها حدثاً آخر، موازياً. هل يحق لنا أن نستبيح تلك الأجساد من خلف الشاشات في كل مرة؟ بات هذا السؤال الذي يستعاد مع كلّ مجزرة، مفرغاً من معناه، بعدما صارت صورة الموت أشبه بأيّ صورة عاديّة، تعاد عشرات المرات، كأن خلف ذلك «متعة» ما. المجزرة وقعت.

       الصورة كما بثّتها الشاشات بالأمس، لم تكن وثيقة لنفيها أو تأكيدها، بل وسيلة للإمعان في خنق الضحايا. لنتخيَّل لو أن الحدث تصدّر النشرات الإخباريّة، من دون تلك الصور… هل كان ذلك يعني أنّ المجزرة لم تحصل؟ مئات (أو حتى الآلاف) من الأطفال والمدنيين، قتلوا اختناقاً بالغاز السام في الغوطة الشرقية لدمشق. الخبر بفظاعته، لا يحتاج الكثير من الشرح، والتفصيل، والتصوير. كل شرع وأخلاقيات مهنة الصحافة، تنصّ على تحاشي عرض صور العنف، والموت، فكيف بصورة طفل يفارق الحياة. لكنّ الواقع لا يشبه النظريات الأكاديمية. واقعنا يقول: لا مكان للعقل في الإعلام بعد اليوم، الكلمة الأولى والأخيرة لتلك الرغبة بالتلذذ بصور الموت.

      تسجّل «رويترز» 494 قتيلاً في مجزرة الغوطة. ثمّ تنقل بعض الشاشات المحلية والعربية، مثل «المستقبل» و«أم تي في» و«العربية» عن شبكة «شام» رقم 6000 مصاباً في الغوطة الشرقية والغربية. ثمّ تعود تلك الشاشات لتنقل عن لجان التنسيق رقم 1200 ضحية.

      تجزم القنوات المعارضة أنّ النظام السوري قصف الغوطة مستخدماً السلاح الكيماوي. ثمّ تتوالى أخبار ومواقف الدول من المجزرة، وتغرق مواقع التواصل في تحليل الأبعاد والمواقف. كلّ يتسابق على الإدانة، وسط عجز تام. كلّ ذلك بعيداً عن أيّ معلومة دقيقة، حول أرقام الضحايا، وأسباب الوفاة. هذا يقول غاز سارين، وذلك يقول غاز أعصاب… ذلك التضارب في المعلومات، تحوّل إلى خلفيّة للكثير من التحليلات، والخطابات، والردح، والبكائيات، وتقاذف التهم، وبات «خدمةً إعلاميّة» تتفوّق على مهمة القنوات التلفزيونيّة الخبريّة.

     صور المجزرة، تعيدنا إلى صور الثورة الرومانية في كانون الأول العام 1989 التي أطاحت بالرئيس الشيوعي نيقولا تشاوتشيسكو. في تلك الحقبة، انتشرت صورةٌ من أحداث العنف في مدينة تيميشوارا غرب البلاد، لجثة امرأة وابنتها الرضيعة، قيل آنذاك إنها من مقابر جماعية اكتشفت في المدينة. الصورة البشعة أثرت في مجرى أحداث أول ثورة تُنقل مباشرةً على الهواء، وأتت وسط تضارب في أرقام الضحايا في الصحافة الغربية لتجيّش الرأي العام العالمي ضد «الطاغية الشيوعي»، ولتعجّل في سقوطه ثمّ إعدامه. بعد ذلك، تبيّن أن الصورة مزورّة وأن المرأة في الصورة قد ماتت قبل الأحداث بشهرٍ بسبب مرض في الكبد، وأن الطفلة لم تكن طفلتها، وقد ماتت هي أيضاً ميتة طبيعية. تدرّس تلك الصورة، كأحد أبرز الأمثلة على التلاعب الإعلامي بصورة الجثث، واستخدامها في البروياغندا السياسيّة.

      نموذج «صورة تيميشوارا» يتكرّر بأكثر من شكل، لكن في سياقات أفظع. فالمجازر حقيقيّة، وصورة الضحايا ليست مركّبة. ما شهدته الشاشات بالأمس، وما تشهده يومياً منذ عامين، لا يتطابق بالضرورة مع الفضيحة الإعلامية التي جرت في رومانيا قبل 24 عاماً. لكن يكمن وجه الشبه في كيفيّة استخدام صورة الموت، حيث لا يعود الضحايا محور الحدث، بل عناصر من لعبة إعلاميّة متوحشّة، عاجزة عن الحؤول دون موتهم.. لا بل تنتظر موتهم لتسلّط عليهم الكاميرا.

        جوي سليم  /”السفير”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*