اختلاس الأصوات وإبقاؤها في بعض ألفاظ القرآن الكريم ـ دراسة صوتية
اختلاس الأصوات وإبقاؤها في بعض ألفاظ القرآن الكريم
ـ دراسة صوتية ـ
المهندس عادل عباس هويدي
لم يكن غريباً علينا ما في لغة القرآن الكريم من عجائب، لأنها تحمل في داخلها معانيه، وهي الإطار الذي يلفّ بين ثناياه كلام الله تعالى المعجز في كل شيء، وقد أُذهل العرب حين نزوله عليهم، وهم أهل بلاغة وفصاحة، إذ أنهم كانوا يرون لغته كمالاً لما في أنفسهم من أصول تلك الفطرة البيانية وقد كانت ألفاظ القرآن تُلبس العرب حتى كانت تتركهم كالمعاني السائرة التي لا تزال تُطيف بالرؤوس([1]).
فقد كان القرآن الكريم معجزاً في ألفاظه ومعانيه وتراكيبه وأصواته وإيقاعه الموسيقي سواء كانت هذه في الحروف أو الألفاظ أو الجمل، فقد كان (قرآنا عربياً غير ذي عِوَجٍ)([2]) فلو تأملنا لفظة (العِوَج) فإننا سنجدها تصف القرآن بأنه الفطرة العربية التي فطر الله العرب عليها.
فالقرآن الكريم يحاكي فطرة العربي الأصيل في لغته وبيانه وبلاغته وفصاحته، لأن الله تعالى (خلق الإنسان علّمهُ البيان)، لذا كان القرآن فيه بيان لكل شيء بفضل تركيبته اللغوية والصوتية، فانك لم تجد فيه حرفاً زائداً أو صوتاً فائضاً، أو كلمة ليست في موضعها المناسب الصحيح، لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم.
فقوله تعالى: (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم، قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين، ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك، حقاً علينا نُنج المؤمنين) يونس/103. وقد وردت فيها لفظة (نُنج) وقد أختلس منها صوت (الياء) بينما جاء في قوله تعالى: (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين فاستجبنا له ونجيناهُ من الغم، وكذلك ننجي المؤمنين) الأنبياء/88. فهنا وردت لفظة (ننجي) وقد اثبت فيه صوت (الياء) وحيث أن كلا الفعلين على صيغة واحدة ومصدرهما (الإنجاء). فما الحكمة في ذلك؟
إن مناخ الآية (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا.. إلى قوله تعالى، (ثم ننجي رسلنا الذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين) نراه مشحوناً بالانتظار والترقب، وهذا يعني وجود تأخير وتمهل يُضفي على الجو العام للآية المباركة من خلال قوله تعالى: (فانتظروا إني معكم من المنتظرين) وبعد هذا نجد ما بعدها قد عُطف بـ(ثمَّ) وهذه تدل على التراخي والمهلة([3])، ولما كان عنصرا التراخي والتمهل موجودين فان مجيء لفظة (ننجي) هو الآخر يوحي من الناحية الصوتية إلى التراخي والمهلة تضامناً مع ما سبق في المناخ العام للآية، حيث أن صوت (النون) المكررة فيها، يوصف بأنه من الأصوات المتوسطة الشديدة ويكون فيها الهواء حينما يمرّ بمجراه لا يُلاقي في انحباساً أو احتكاكاً([4]) أي فيه انسيابية هادئة، وإن تكرار هذا الصوت يوحي بأن المدة المستغرقة ستكون أكثر مما لو كان الصوت واحداً. ثم يلحقه صوت (الجيم) وهو مكرر أيضاً ويمتاز بأنه صوت مركب أي أنه عند القراءة لا يصاحبه حين النطق به انفصال مفاجئ بل الذي يحدث أن انفصال العضوين لخروج الهواء يكون بطيئاً، فهو مرحلة بين الانسداد المطلق والانفتاح المطلق، فيحدث أن يحتك الهواء بالعضوين احتكاكاً شبيهاً بالأصوات الرخوة.. أي أنه يجمع بين عنصري الشدة والرخاوة([5]) من بين كل الأصوات الأخرى.
فكل هذه الصفات لصوتي (النون والجيم) المكررين يوحي للسامع بالبطء والتراخي، وهذا ما يتناسب مع الجو العام للآية القرآنية. ولذلك نرى أن العطف هنا جاء بالأداة (ثُمَّ) التي تعني فيما تعنيه التراخي والتمهل، ولما كان هذا الجو العام المشحون بالتباطؤ وتناسب هذه الصفات للحروف المكونة للألفاظ، كان هذا التركيب وهذا التوافق العجيب والترابط الواضح فيما بينها جميعاً.
إلا أنه لما ينتقل إلى مناخ آخر ومحطة أخرى في القرآن الكريم، نرى أن شيئاً آخر قد حدث، فالانتقال من حالة التراخي والتمهل إلى حالة نرى فيها السرعة وقلة المهلة وعدم التراخي، نرى أن الخطاب القرآني من الناحية الصوتية يبدأ بالتسارع.
ففي لفظة (نُنج) في قوله تعالى (حقاً علينا نُنج المؤمنين) يريد الخطاب القرآني أن يوضح حقيقة جديدة هي أنه من حق المؤمنين على الله تعالى الإنجاء، وهذه مسألة مفروغ منها وغير خاضعة للتأخير والتراخي، لذا جاءت لفظة (نُنجِ) خالية من صوت (الجيم) المكرر وكذلك صوت (الياء).
والياء صوت يمتاز بأنه من الأصوات المهموسة التي يجري فيها النفس، وهو من الأصوات المتوسطة الشدة، حيث أن الهواء حينما يمر بمجراه لا يلاقي انحباساً أو احتكاكاً، لأن مجراه خالٍ من المعوقات وهو كذلك في صوت (الواو)([6]). ولما كان المقام هو إعطاء الحقوق للمؤمنين من الله تعالى، فان عطاء سريع، لذا اقتضت الحالة الصوتية هنا السرعة، فاختزلت صوت (الجيم) الثانية وصوت (الياء) لأن بقاءهما يعني زيادة في الفترة الزمنية، وهذا لا يتناسب مع الجو العام للآية، لذا اقتضت المشيئة الإلهية اختلاس هذين الصوتين، فجاءت الآية المباركة بصورة (حقاً علينا نُنْجِ المؤمنين) والله أعلم.
أما قوله تعالى: (فاستجبنا له ونجيناه من الغم، وكذلك نُنْجي المؤمنين) الأنبياء/88، فإن المناخ العام لهذه الآية مشحون بالدعاء في قوله تعالى (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) الذي سبقه تقديس الله وتنزيهه وفيه من الخشوع والرحبة من الله تعالى ما فيه. فهذا المناخ الروحاني الذي عمله النبي يونس(ع) قد أنتج نوعاً من الاستجابة من قبل الله تعالى لدعائه(ع) كما أنجي يونس(ع)، وأكد تعالى أنه ينجي المؤمنين إذا دعوه([7]) حيث العطف هنا ورد (بالواو)، وهي عاطفة جامعة([8]) ومعناها مطلق الجمع فتعطف الشيء على مصاحبه([9])، فتعطف هنا بحمل الإنجاء على الاستجابة ولا أجد فيها الترتيب أو تقديم الثاني على الأول أبدأ حيث لا دليل على ذلك([10])، وعليه فان استجابة الدعاء والإنجاء لا يكونان في آن واحد والله اعلم.
إلا أنه في قوله تعالى (وكذلك ننجي المؤمنين) قد تجد فيه التأخير وذلك لأن إنجاء المؤمنين مشروط بدعائهم الله تعالى، فضلاً عن هذا يجد المؤمنين في دعائهم الله السلوة، فنرى المؤمن يستغرق في الدعاء كثيراً لأنه يكون أقرب ما يكون لله أثناء دعائه، وهذا التأخير يفرض في الإيقاع الموسيقي العام للآية نوعاً من التباطؤ، لذا نجد تكرار صوت (الجيم) في (استجبنا، نجّينا، ننجي)، وهذا التكرار يستدعي التباطؤ لأن صوت (الجيم) ـ كما علمنا ـ لا يصاحبه حين المنطق به انفصال مفاجئ، بل الذي يحدث انفصال العضوين لخروج الهواء يكون بطيئاً وبالتالي يستغرق زمناً اكبر، وهذا يتلاءم مع حالة الدعاء حيث ارتباط العبد بربه واستغراقه مع الله تعالى كثيراً، فهنا ناسب بين الزمن الطويل المستغرق في الدعاء وبين الزمن المستغرق لصوت (الجيم)، أي تناسب الإيقاع الداخلي في الآية مع هذه الأصوات المتكررة.
فضلاً عن وجود حرف (الياء) في لفظة (ننجي) هو الآخر دليلاً على زيادة الاستغراق في الزمن المخصص لها، إلا أنه لم يكن بالزمن الطويل وذلك لأن صوت (الياء) من الأصوات المتوسطة الشدة، فحين يمر الهواء بمجراه عند النطق بها لا يلاقي انحباساً لأن مجراه خالٍ من المعوقات، فيكون بالنتيجة زمن النطق للفظة (ننجي) أطول مما في لفظة (ننج) بكسر (الجيم)، لأن مقتضى السياق العام للآية يقتضي الإطالة لذا زيد حرف (الياء) فيها خلافاً لما سبق في (ننج) الذي اختلس منها لملاءمته مقتضى الحال فيها والله أعلم.
المصادر
-
إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ـ مصطفى صادق الرافعي ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت/لبنان ـ ط9 ـ 1393هـ/1974م.
-
جامع البيان في تأويل آي القرآن ـ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ت دار الفكر ـ بيروت ـ 1405هـ.
-
فقه اللغة العربية ـ الدكتور كاصد ياسر الزيدي ـ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ـ جامعة الموصل ـ 1407هـ/1987م.
-
كتاب حروف المعاني ـ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي ـ تحقيق د. علي توفيق الحمد ـ دار الأمل ـ مؤسسة الرسالة.
-
كتاب معاني الحروف ـ أبي الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي ـ تحقيق د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي ـ دار نهضة مصر للطباعة والنشر ـ القاهرة.
-
مجمع البيان في تفسير القرآن ـ الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبري ـ تحقيق السيد هاشم الرسولي المحلاني ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ 1379هـ.
-
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ـ جمال الدين بن هشام الأنصاري ـ تحقيق مازن المبارك ومحمد علي حمد الله ـ مؤسسة الصادق ـ طهران ـ ط1 ـ 1387هـ.
-
منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث ـ د. علي زوين ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ـ 1986م.
-
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ت أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي ـ تحقيق صفوان عدنان داوودي ـ دار القلم ـ الدار الشامية ـ دمشق ـ بيروت ـ 1415هـ.
([1]) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ـ 78 و80.
([2]) سورة الزمر/28.
([3]) كتاب معاني الحروف/105 وكتاب حروف المعاني/16 ومغني اللبيب ـ1/158.
([4]) منهج البحث اللغوي ـ 68 وفقه اللغة العربية ـ 441 ـ 454.
([5]) منهج البحث اللغوي ـ 68 و69.
([6]) منهج البحث اللغوي ـ 68.
([7]) مجمع البيان ـ 7 ـ 61، تفسير الطبري ـ 17/73 و81، تفسير الوادي ـ 2/722.
([8]) كتاب معاني الحروف ـ 59.
([9]) مغني اللبيب ـ 1/463.
([10]) كتاب حروف المعاني ـ 36.
——————————————————————————————-
([1]) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ـ 78 و80.
([1]) سورة الزمر/28.
([1]) كتاب معاني الحروف/105 وكتاب حروف المعاني/16 ومغني اللبيب ـ1/158.
([1]) منهج البحث اللغوي ـ 68 وفقه اللغة العربية ـ 441 ـ 454.
([1]) منهج البحث اللغوي ـ 68 و69.
([1]) منهج البحث اللغوي ـ 68.
([1]) مجمع البيان ـ 7 ـ 61، تفسير الطبري ـ 17/73 و81، تفسير الوادي ـ 2/722.
([1]) كتاب معاني الحروف ـ 59.
([1]) مغني اللبيب ـ 1/463.
([1]) كتاب حروف المعاني ـ 36.
المصدر: مجلة ينابيع العدد 4 محرم ـ صفر 1426 هـ