المواصلات في النجف في أربعينيات القرن العشرين

660

18-9-2012-12

د. عبد الإله الصايغ المرعبي

لن ترى سيارة “خصوصي” تنفث الدخان مجتازة شارعًا نجفيًّا إلا لمامًا !. وسائل النقل وقتذاك محدودة، منها مثلا  “الربل” وهو عربة ذات أبهة بمظلة جلدية سوداء يجرها حصانان ( الحنطور )  !  والحمير والبغال ! يقول محمد علي الشبيبي  في جده الشيخ محمد الشبيبي (..وكانت عمتي وسيلة تقف بجانبه تساعده في ارتداء ملابسه. حينها كنت أخرج وأقف عند باب البيت أنتظر واسطة نقله للمجلس، وهي عبارة عن دابة (حمار)، لعدم إمكانية وصول السيارة بسبب ضيق أزقة محلة العمارة، وهذه صفة تتصف بها كل شوارع النجف القديمة). ومن وسائل النقل الداخلي عهد ذاك “الكاروك” و”الكاروك” في لهجة النجفيين هو المهد ! وهو غرفة طولها متران وعرضها متر ترتبط طوليًّا في أعلاها بحاملٍ ، وهو خشبي عادة ، مثل غصن متين صقيل بطول ثلاثة أمتار يحمله شخصان، واحد يسحب من الأمام، وثان يدفع من الخلف! والكاروك باهظ الثمن، لذلك لا يستعمله سوى الموسرين أو الموسرات، وأغلبهم يعاني من العوق أو الشيخوخة ! وإذا أردت السفر إلى النجف وأنت في ولاية الجسر (الكوفة)، فلك أن تبتاع  باصًا (تذكرة) يؤهلك ركوب العربانة الذاهبة إلى النجف ! سكة حديد ترامواي أسهم في تأسيسها موسرون من النجف وبغداد سنة 1325هـ ! العربة خشبية مدججة بالحديد من طابقين، طابق تحتاني وطابق فوقاني ترقى إليه بسلم خشبي يلتف حلزونيًّا ! و تسع في طابقيها  أربعين راكبًا سوى الواقفين.

عربة المترو أو الكَاري تسير على سكة حديد ويجرها حصانان ! ستكون في فضوة (ساحة) السكة، وهي دوار يتوسط  ثلاثة أسواق كوفية قديمة نشطة، سيضرب الـ”دريول” أو السائق جرسًا ذا رنين عال قبل أن يهز الـ”سيور” بيديه فتتحرك العربة ! ولسوف تسير وسط الناس المسالمين الذين يدفعهم الفضول للتفرس في الوجوه كأنهم يبحثون عن أحدٍ راكبٍ معنا ! ووجهتك وهي النجف تقع على مسطبة ترابية ارتفاعها مئة ياردة فكأن العربة ترتقي جبلًا !  وسيبهظ الارتفاع طاقة الحصانين فتتباطأ الخطى ! والعربة تسير ستلاحظ عن يسارك مسجد الكوفة البهي ! تجتازه لتشاهد أطلال القصر الأموي (قصر الإمارة) ثم بيت الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فميثم التمار وهو صاحب الإمام علي ! فإذا التفت صوب اليمين سترى عن بعد مسجد السهلة المحاط بمنطقة خضراء (الزركَة) وفي الثلث الأول من الطريق ستقطع العربة عرضيًّا نهر قديمًا  جافًّا يسمى “كري سعدة” نسبة إلى سعد بن أبي وقاص الذي كراه، لكن هذا  النهر تاريخي مغرق في القدم اسمه Pallocopas الممتد من هيت مارا ببابل منتهيا بالبصرة، وجرت فوق هذا النهر سفينة ملكية ذهبية حملت الإسكندر من بابل إلى الذكوات البيض (أحد أسماء النجف في العهود الغابرة) وفي منتصف الطريق ثمة بئر السيدة زبيدة ! وبعدها تخترق العربة مفازة قاحلة حتى تقترب من النجف تواجهك يمنة ويسرة مقبرة شاسعة وتواصل لتمر بالحنانة فمرقد سيدنا كميل وها إننا بلغنا النجف فهذا خان الزعيم عطية أبو كلل الذي اغتيل فيه الفيلد مارشال حاكم النجف، وشيئًا فشيئًا حتى تدخل  العربة جهة اليسار كَراج العرباين (الكَاري)، فيستقبلك المجنون هوبي بسحنته السمراء الإفريقية الداكنة وشعره العكش وملابسه الممزقة المتسخة، يستقبلك بالهذيان فلا تعبأ به ! لك أن تعطيه فلسًا أو ذات الفلسين ! ينبغي الإشارة إلى سفر النجفيين بالسفن المشتغلة بطرائق عدة، مثلًا السير بالشراع والسير بالمردي والسير بالسحب والسير بالدفع  البخاري ! وجل النجفيين وغير النجفيين يحبذون السفر المائي من الكوفة أو أبو شورة ! يقول فقيد الأدب العراقي عبد الغني الخليلي (..كنت في صباي كلما اشتقت إلى زيارة أهلي في طويريج قصدت الكوفة ومن هناك حيث ترسو مراكب خشبية صغيرة على شاطىء الفرات، أركب واحدًا منها، وكان موعد رحيله إلى طويريج يبدأ عادة عند المساء بعد الفراغ من صلاة العشاء .. أذكر كنت أسهر ليل الفرات البهيج بضوء القمر وبحداء الملاحين وبمنظر شجيرات الصفصاف وهي تلقي بغدائرها الخضر في الماء … ويقترب المركب من مدينة طويريج في غبش الصباح الباكر يعلن بصفيره  الحلو عن نهاية الرحلة) . (إ . هـ ) الخليلي .

وقد تأتى لي السفر في المركب البخاري وهو من طابقين، التحتاني لشحن البضائع مع مطبخ صغير وتنور للخبز ومرحاض ! والطابق الثاني لجلوس المسافرين على كنبات خشبية بمساند، والسفر مختلط رجالا ونساء ! ومذ كنا صغارًا كنا نسبح نحو باخرة النقل  الحربية البريطانية فاير فلاي التي أسقطها الثوار ! بما يدلل على نشاط السفر المائي عهد ذاك !  والكابتن  “مان” حاكم منطقة الشامية حين يزور النجف كان يتجشم عناء سفر مائي من أم البعرور إلى أبو شورة ومن هناك يستقل سيارة إلى النجف. ( .. ذهبت إلى النجف عصر يوم الخميس فكانت السفرة متعبة لقد كان مستوى مياه النهر منخفضًا، وقد جنح مركبي في النهر ما يقارب ست مرات ولم أصل إلى أبو شورة حتى حلول الظلام ، ومركبي يحمل بضاعة وحارسي وخادمي وثلاثة شرطة عجم من النجف وسجينًا، لذا فقد كان مركبي يحمل أكثر من المعتاد بقليل، لقد قمت بنفسي بقيادة السيارة من أبو شورة إلى الكوفة أربعة أميال والطريق رديء جدًّا، ثم تأتي بعدها سبعة أميال من الأرض الصحراوية إلى النجف، وقد دخلت النجف في الساعة السابعة والنصف سليمًا وسعيدًا جدًّا لوصولي ).

 (الشامية وقتها شاميتان الشامية الغربية ومركزها أبو صخير قريبًا من النجف، والشامية الشرقية ومركزها أم البعرور  قريبًا من الكوفة).

18-9-2012-10

18-9-2012-13

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*