الحكمة – متابعة: يعتبر الواقع العراقي في السنوات المضطربة التي تلت التغيير فضاء دراميا واسعا للكثير من الحكايات، التي تعتمد في تحديد مساراتها على قدرة الكاتب في تقديم رؤيته وقراءته لنماذج لم تعد طافية على سطح الواقع العراقي فحسب، بل صارت علامات في الجغرافيا الاجتماعية، التي فرضتها ظروف الحصار والاحتلال منذ عام 2003، ضمن هذا الفضاء تدور رواية “5000” للكاتب والمخرج العراقي المقيم في بلجيكا أسعد الهلالي الذي استضافته “العرب” للحديث حول روايته الجديدة.
أسعد الهلالي روائي ومخرج سينمائي وكاتب سيناريو عراقي، ولد في العاصمة بغداد عام 1960، ودرس الموسيقى في جامعتها قبل أن ينطلق إلى العمل التلفزيوني مخرجا للعشرات من البرامج والأفلام والأعمال الدرامية في العراق، ثم في المنافي التي مرّ بها، صدر له العديد من الأعمال الروائية السردية والمجموعات القصصية، منها “الميتة الثالثة لعبد شويخ البدوي”، و”يوميات غياب الندى”، و”أسفل – خاص”، وقد حاز الهلالي على العديد من الجوائز الأدبية والتقديرية أبرزها جائزة العراق للإبداع عن فئة البرامج الثقافية عام 2010.
العين الثالثة للمال
يتّخذ ضيفنا في روايته الجديدة “5000”، من رحلة الورقة النقدية العراقية من فئة خمسة آلاف دينار سردا للحكاية، عن أجواء الرواية يقول الهلالي إن الورقة النقدية ولدت في البنك المركزي العراقي الذي تكون الخزنة الرئيسية فيه هي العتبة الأولى للرواية، والتي تمنحها عينا ثالثة للمشاهدة الواعية والمستبصرة والقادرة حتى على قراءة أفكار الآخرين، ورقة نقدية تمتلك قدرات باراسيكولوجية، وذاكرة يقظة شكلتها ذرات العجائن الورقية والأحبار التي صنعتها من بقايا أوراق نقدية نافقة.
تمرّ الفصول متتبّعة مصير الورقة التي تنتقل من يد إلى يد، كاشفة من خلال هذا التنقل واقعا مضطربا، مختلا، متناقضا، صادما في البعض من الأحيان، ذلك الواقع التي اعتمد على عدة ركائز متنوعة للسرد بين شخصيات مثل فالح الثقافي، والصبي ميشو وخرابته التي ضمت بين جدرانها المتهالكة عوالم أفراد أسرته الذين أزهق أرواحهم انفجار أودى بحياة كل من والديه وشقيقه أندروس سبايكي وشقيقته برناديت، ليجد نفسه وحيدا بين أنقاض بيته الذي غدا مجرّد خرابة آوت جدرانها المدمّرة العم جلاوي العائد بصيرا من أسر طويل تجاوز عقدين من الزمان، في حرب لا معنى لها.
ولما فشل في العثور على أيّ من أفراد أسرته لجأ إلى الشوارع التي دفعته بعد سلسلة من الانفجارات والاغتيالات إلى خرابة ميشو، التي آوت أيضا هندازة الهاربة من قريتها مع رضيعها بعد أن قتل زوجها القادم من تونس للقتال تحت راية تنظيم القاعدة.
كما قتل أخوها وشهود زواجها الشفاهي ومفتي التنظيم الذي عقد الزواج، فوجدت نفسها أمّا لطفل لا يعرف له أحد أبا، وكي تنقذ نفسها وابنها من سياط نظرات الآخرين هربت إلى شوارع بغداد العاصمة، لكنها لم تعرف فيها سوى خرابة ميشو التي آوت أيضا، جلاوي، ميشو الصبي، وأوس الذي لا هاجس له سوى تحطيم الهواتف النقالة التي كان يسرقها بعد أن شاهد على إحداها لقطات قتل أمه وأخيه على أيدي الإرهابيين.
عن ارتكاز الزمان والمكان في رواية 5000، يقول الهلالي إن الماضي القريب والحاضر طالما شكّلا مسرحا وفضاء روائيا لمشروعه الأدبي، وهذه الرواية لا تخرج من تلك العباءة في تصوّر الزمان والمكان الروائي الذي جاء محدودا وفق البناء الدرامي الذي تطلّب ملامسة سطح الواقع العراقي الذي يوجب تسجيلية تقترب من الوثيقة في الفضاء السردي والروائي.
في هذا السعي إلى التسجيلية استخدم الهلالي الوصف على كونه تقنية اعتمدها لجعل القارئ يرى الأشياء أكثر وضوحا ومصداقية، مع الاعتماد على الصورة الفنية التي تتعدّى حدود الرؤية للمكان ضمن تشكلاته البصرية إلى ترسيخ مشاركة وجدانية تعطي أبعادا حسية تنبثق من تسلسل الكلمات لتضفي صفة الواقعية على ما هو تصوري محض.
ليسوا أبطالا
تفكيك الحكاية كما يقول ضيفنا الحائز على جائزة العراق للإبداع، ينطلق من رسم عام لشخصية فالح الثقافي الذي كان يمتهن التجارة بالأفلام الثقافية في أسواق الباب الشرقي بالعاصمة بغداد إبّان فترة الحصار المؤلم للعراقيين.
ومن الطبيعي أن يفرض الاحتلال عام 2003 تغييرا على مسيرة الشخص الذي انتقل إلى مكتب ابن عمه الوزير، فأخذ مكانه الطبيعي كمدير للصفقات والعقود المشبوهة في زمن الفساد، وصولا إلى مدينة تبليسي الجورجية التي اختارها محطة أخيرة ينعم فيها بما حصل عليه من ثروة ومحاطا بأسباب الرفاهية.
وتقودنا الورقة النقدية التي انتقلت إلى يد الصبي المتشرد ميشو في الخربة التي يقيم فيها مع مجموعة ممن لا مأوى لهم فنكتشف عالما مجهولا يجمع نماذج مختلفة من قاع المدينة التي دق فيها الفقر والإرهاب والتناقضات الاجتماعية أسافين غائرة. والمقطع العرضي للمجتمع مختلف الطبقات تطلّب السير على حبل مشدود في عملية السرد خلال إنتاج النص الأدبي.
ويؤكد هنا ضيفنا أنه راعى عناصر التشويق والتنامي والذروات، التي كانت تؤدي إلى انفراجات تقود بدورها إلى ذروات أخرى عبر مجموعة من الأفعال والارتدادات والمونولوجات الداخلية والمشاهد الحوارية والتكثيفات والوصف.
فالورقة النقدية تسلب فرصة البطولة الفردية المطلقة من الشخصيات التي مرت بها، حيث لم يعمد الهلالي إلى تركيب بطولة جماعية كتلك التي أشاعتها روايات الواقعية الاشتراكية، بل جاءت قيمة الشخصيات من ارتباطها بالفضاء الخارجي للورقة النقدية، فكانت البطولة الخاصة مبنية على الفضاء غير الموجود أصلا ضمن مساحة الانتقال الجغرافي الذي تفرضه المصائر المختلفة.
يكشف الهلالي أنه لم يعتمد في السرد على الراوي العليم بل على شخصية الورقة النقدية التي كانت ساردة لذاتها والذوات الأخرى، بينما لجأ إلى استخدام متداخل للبعض من الضمائر التي غذت السرد حتى تمنح النص دفقات من الحيوية التي قد يفتقد إليها الكاتب وإن اعتمد ضميرا ساردا أحاديا، فالمشاهد تنتقل بين التذكر والاسترجاع والارتداد من خلال العودة بالزمن أو تجميد الحركة والوقوف عند نقطة معينة للانتقال إلى حقبة أخرى.
وفي هذا الإطار يؤكد الهلالي أن السينما وتقنياتها كانت حاضرة في تأثيرها على النص، فضيفنا مخرج سينمائي وكاتب سيناريو درامي وهذا ما أضفى على العمل تلك المشهدية الفنية استنادا إلى الصورة السينمائية في التعامل مع الفضاء والأزمان والشخصيات.