الدعوة (بالفتح) إلى الطعام، والدعوة (بالكسر) في النسب، دعاه: صاح به واستدعاه أيضاً، ودعوت الله له وعليه أدعوه دعاء(1)،
وأصل الدعاء طلب الفعل دعا يدعو وادّعى دعاءً لأنه يدعو إلى مذهب من غير دليل، وتداعى البناء يدعو بعضه بعضًا إلى السقوط، وفي القرآن: (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) (المعارج: 17) أي (يأخذه بالعذاب كأنه يدعوه إليه)(2)، ودعوت فلاناً وبفلان: ناديته وصحت به(3).
والدعوة: المرة الواحدة، والدعاء أيضاً واحد الأدعية(4). قوله: (دعاه: صاح به) ليس على معنى الصياح، وإنما هو النداء أي: ناداه، وعليه فالدعاء هنا:
طلب الالتفات بالنداء، ولذلك عرف النحويون النداء بأنه: (دعاء المخاطب ليصغي إليك)(5)
فالدعاء على هذا كلام معتمد على نداء، شريفاً كان أم وضيعاً طويلًا كان أم قصيراً، إنما يشترط فيه أمران، أحدهما:
القول والآخر النداء بقصد، ولهذا قال ابن فارس: (الدعاء أن تميل إليك الشيء بصوت وكلام يكون منك)(6). وقال: (الشيء) لأن الدعاء يكون للعاقل ولغير العاقل كالحيوان ويكون أيضاً لما لا يعقل البتة كدعاء بعض الناس الحجارة ولهذا قيل:
(فكما أن من دعا البهائم يعد جاهلاً فداعي الحجارة أشد جهلاً، لأن البهائم تسمع الدعاء وإن لم تفهم معناه والأصنام لا يحصل لها السمع)(7). فيكون الدعاء في اللغة معنى شامل لأمور كثيرة حسب قصد المنادي والداعي وحسب منزلة المنادى والمدعو، وهنا نلحظ أن بين النداء والدعاء علائق مشتركة فالدعاء طلب الالتفات بالنداء، أما النداء فهو (تنبيه المنادى وحمله على الالتفات)(8)
فروابط الاشتراك بين النداء والدعاء واضحة الملامح، فيمكن أن يقال: نادى من هو من ذوي العلم، أي: وجه إليه الخطاب ودعاه لكن ذلك غالباً ما يكون علانية مع رفع الصوت، وقد يكون النداء خفياً، وينادي العبد ربه فيدعوه بأنواع الدعاء، وينادي الله من يشاء من عباده فيلقى إليهم بعض الكلام(9).
ويفرّق العلماء بين الدعاء والمسألة بقولهم: (الدعاء إذا كان لله تعالى فهو مثل المسألة معه استكانة وخضوع وإذا كان لغير الله جاز أن يكون معه وجاز أن لا يكون معه ذلك كدعاء النبي(صلى الله عليه وآله) أبا جهل إلى الإسلام ليس فيه استكانة ويعدى هذا الضرب من الدعاء بـ (إلى) فيقال دعاه إليه وفي الضرب الأول بـ (الباء) فيقال دعاه به، نقول دعوت الله بكذا، ولا نقول دعوته إليه لأن فيه معنى مطالبته وقوده إليه)(10)
الدُعاء اصطلاحاً:
هو الكلام الموجه لله عزوجل حصراً يطلب فيه العبد من ربه القبول والغفران والحاجة لأمرٍ ذي بال، وطلب القبول هنا معتمد على توجه العبد وتخصيص للرب(11)، والدعاء هنا السؤال من الله بالإجابة لقوله: (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(غافر:60)
وأنواعه هنا الدعاء بالخير أو بالشر للسائل ولغيره أو عليه أو على غيره، وهذا هنا على عموم معنى الدعاء، أما دعاء آل البيت(عليهم السلام) ـ والمتمثل بدعاء الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) الذي تخصص بصور وأشكال معينة وعرف بنماذج محددة فهو: نماذج حسية لمعطيات وجدانية تراءت بصور، وأشكال كلامية ظهرت بمنتهى البلاغة والإحكام وبأفضل العبارات والكلمات. وحوت مقاصد فكرية وعلمية ودينية راقية جسدت التصور الأبهى بين العبد وربه والالتحام بين المخلوق وخالقه شكراًً له وعرفاناً بفضله وسؤالاً له من فيضه ومنّه وتأكيداً على الآصرة القوية بين الضعيف والقوي وبين السائل والمعطي ودليلاً على حسن التعبد والتوكل وإظهاراً للوجدانية المطلقة له (عزوجل) واعترافاً بنقصان العبد وحقارته أمام جبروت الخالق وعظمته.
والدعاء في عُرف العلماء:
(كلام إنشائي، دال على الطلب مع الخضوع، ويسمى سؤالاً أيضاً، صرّح بذلك في شرح المطالع كما في العضدي من أنه طلب الفعل مع التسفّل والخضوع، فقد أراد الطلب الدل عليه، وقد جاء الطلب على الكلام أيضاً… وعلى هذا يحمل ما وقع في الأصول من أن الدعاء طلب الفعل مع مزيد تضرع ليخرج الالتماس العرفي)(12).
أما الدعاء عن المشرعة والفقهاء فهو:
(الطلب من الله والرغبة فيما عنده من الخير)(13) أو هو (دعوت الله أدعوه دعاهُ ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير)(14). وعلى الرغم من أن هذا الدعاء بهذه الصورة دعاء يسير على اللسان سهل المران والإبانة، لكنه يبعد عن الدعاء لغة أنه متخصص من ناحيتين: الأولى: هي أنه طلب من الله خاصة والثانية: هي أنه رغبة في الخير خاصة دون الرغبات الأخر. فالدعاء خلجات روحية ولواعج نفسية يبثها العبد بين يدي ربه مشفوعة باسترضاء العبد ربه وحسن التوبة بين يديه وطلب العفو والمغفرة من عنده، ثم طلب الخير الآتي بعد ذلك شيء هين إذا ما قسناه بما قلناه. إلا أن العلماء أخذوا قصدية الدعاء ـ وهي جزء من الدعاء ـ فعرفوه بجزء منه، والأولى هنا أن يعرف بتعريفات مناسبة تجمع ما قلنا في الدعاء من معان وعبر ومقاصد وحقائق.
إن اتصال العبد بربه يكون ناشئاً في أكثر الأحوال من الحاجة إليه(عزوجل) والاحتياج إلى ما عنده. وكلما تكون حاجة الإنسان إلى الله أعظم، وفقره إليه أشد، واضطراره إليه أكثر يكون إقباله في الدعاء إلى الله أكثر. وعلى هذا فالدعاء جوهر العبادة وروحها، فإن الغاية من خلق الإنسان العبادة لقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، والغاية من العبادة الانشداد إلى الله والاطمئنان، والدعاء يحقق هذا الانشداد والارتباط من أوسع الأبواب وبأقوى الوسائل، فـ (الدعاء من أهم الأبواب والقنوات التي جعلها الله تعالى لورود عباده عليه والارتباط به)(15)، وإن (الإنسان يمد عبر الدعاء وشائج الصلة بينه وبين ربه)(16).
ويمكن أن يكون الدعاء حديث الإنسان إلى ربه، وعلاقة المخلوق مع خالقه، وهذا الحديث قد يحدث مع الرب بالدعاء ـ وهو ما أشير إليه ـ أو بغيره مثل الصلاة فهي حديث مع الله سبحانه ومثل قراءة القرآن وهي اتصال بالله أيضاً. وإنما الذي يحدد الدعاء عن غيره، أن الدعاء هو الحديث الذي معه بثّ الإنسان لله لواعجه وأحاسيسه ومشاعره وما كمن في ضميره وخاطره من صور التقرب منه والاتصال به، مشفوعة بمدائح قد يكتفي بها العبد عن إظهار حاجته، إنما هو تفريغ للمشاعر أمام الله وإظهار للذل والمسكنة عنده، فـ (كل ما سوى الله فقير محتاج إليه)(17)، وأن الدعاء يحتمل المدحة والثناء له سبحانه والشكر الموجب لزيادة النعم،
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالمزيد وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله (عزوجل) حتى ينقطع الشكر من العبد)(18).
إن حاجة الإنسان تدفعه ـ علمياً ونفسياً ـ إلى إشباعها، وبعض الحاجات ـ علمياً ـ تدفع الإنسان بشعور عارم إلى إشباعها إشباعاً يردع عنفوانها وسطوتها، مما يدفع بعض الناس إلى اعتماد طرق غير شرعية لتحقيق المكاسب وإشباع الرغبات، والدعاء هنا حل المؤمنين الأوحد لإشباع هذه الحاجات فإن شاء الله يسرّ طريقاً لتحقيق ما يصبو إليه الداعي أو يهيّء سبلاً أخر لذلك(19).
ومن الطبيعي أن لا يتكل الإنسان على الدعاء حسب، لأن الدعاء مفتاح الصلاح وليس طريقه، فعلى الإنسان أن يعمد ـ بعد الدعاء وبعد الاتكال على الله (عزوجل) ـ إلى سبل العمل الكفيلة لتحقيق ذلك وإنما هذا يختار الإنسان الأنسب فيها والأصلح والأرضى لله (عزوجل).
فالدعاء هنا أول الخطوات التي يعمل بها الناس، ولا سيما الصالحون منهم في مسيرة العدل الحياتي لتحقيق الذات وإشباع الرغبات والاندماج التام في الحياة ليكون الإنسان فيها عنصراً مهماً وكياناً فاعلاً ضرورياً لا أن يكون عالةً وثقلاً لا ينفع.
إن للدعاء آفاقاًَ يدخل الإنسان منها ـ ضمن تصورات عامة أو خاصة ـ إلى التواؤم الروحي والانتظار الحياتي والسلوك الحسن بين العبد وربه وبين العبد وباقي أفراد جنسه، وبعض هذه الآفاق إيجابية يدخل الإنسان منها إلى عالم الشرف والنصر، فكثيراً ما علمنا أن الناس دعوا الله للتوفيق فوفقهم الله، وكثيراً ما سمعنا فلاناً دعا الله لأمر فتحقق له ما أراد، فسعد هذا الشخص بما جرى له وعرف ذلك منه ببركة الدعاء، وكثيراً ما سمعنا أن هناك من اضطر فدعا ففتح الله عليه أبواب الرحمة فتغير حاله من السيء إلى الحسن وكثيراً ما سمعنا أن مظلوماً دعا ربه إلى نصرته ورحمته فتحقق، فقد روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال: (دعوة المظلوم في السّحر ليس بينها وبين الله حجاب)(20)، وقيل لأمير المؤمنين(عليه السلام): كم بين السماء والأرض؟ فقال: دعوة مستجابة(21).
لمحة تاريخية عن الدعاء:
الناس منذ خلقهم الله وهم بين صراع مع الحياة التي لم تكن مطواعة لهم دوماً وبين رغبات وحاجات لم تنته عند حدّ، ولم تشبع بسدّ، وما استطاع الإنسان أن يجد وسيلة معينة ناجعة لتكميم الحياة وقولبتها بقوالب نافعة ومسيطر عليها، وكانت هناك صيحات وطروحات عديدة للتغلب على الحياة وجرّها إلى كف الطاعة لاستغلالها والاستفادة منها. وكانت من تلك الصيحات ما أخبرنا به أنبياء الله(عليهم السلام)من صور التعامل مع الحياة، وكان أرقاها إصلاح ذات البين بين العبد وربه، والطلب منه (عزوجل) خاصة ودعاؤه بالسراء والضراء لتعديل حياتهم وتنظيم صور المعيشة بأساليب منظمة ومريحة، والأهم أنها مرضية للرب(22)، فأصبح الدعاء وسيلة مهمة لتفادي مساوئ الحياة ودفع شرورها وتنظيم صور الحياة بأسلوب نافع وناجع مطابق لأوامر الأنبياء وحسن ظن العبد بربه (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) (الأعراف:94)، وأصبح وسيلة واكبت الإنسان على مدى وجوده في الحياة ينتفع منها ما استطاع إلى ذلك سبيلا(23).
أصبحت المجتمعات الإنسانية والتجمعات البشرية تعتمد على الدعاء، فيما تعتمد عليه من أساليب الدفاع عن النفس وتنظيم حياتها للأمثل والأصلح(24). وليس ذلك كائناً عند الخيرين من الناس، ولا عند المؤمنين من أتباع الرسل فحسب، بل عند جميع الناس، ذلك أن الناس بطبعهم يميلون إلى الاستعانة بالأقوى، والطلب من المعتمد المطلق وإن كان مجهولاً. فقد رسم الرسل لصور العبادات نماذج معينة ومحددة وأمروا الناس بالتسلح بها(25) والاعتماد عليها لمناجاة الرب والاتكال عليه والطلب منه، على حين لم يكتف من أنكر الله (عزوجل) ورسله بهذه النماذج وإنما اعتمدوا على نماذج حسية وطوطمات رمزية(26) لبثّ النوائح الصدرية والحاجات الداخلية إليها بوصفها رموزاً دينية خارقة لها قدرات هائلة، فبثوها نجواهم ودعوها أن تحفظهم وتذب عنهم تسلّط الأعداء وأن تفتح أمامهم سبل الحياة الجميلة للانتفاع بها بأكمل وجه وأحسن صورة ظناً منهم بقدراتها واعتقاداً منهم بصحة الاتكال عليها(27).
والذي يهمنا هنا هو الدعاء لله (عزوجل) حصراً دون باقي الأدعية الأخر، وهي في عمومها صور ونماذج معينة تدور كلها في الطلب منه (عزوجل) أن يرحمهم وينصرهم ويعز المؤمنين ويذل الكافرين. وما فتئ المؤمنون متمسكين بالدعاء ليرسم لهم صور العبادة الحقة وأسلوب الاتصال الأمثل بالله العزيز الجبار، ذلك أن الناس وإن ارتقوا عبادٌ ضعفاءٌ محتاجون دوماً إلى فيض كرمه، ونوال برّه ورحمة تشملهم. وأنهم وإن عبدوا وأخلصوا فهم مقصرون اتجاهه (عزوجل) لأنه أهل العبادة والطاعة المطلقة، التي لم يقو ولم ينجح الناس على فعلها بالوجه الأكمل، وإن ظلت عبادتهم قاصرة وهم مقصرون اتجاهه (سبحانه وتعالى) ظل منهم النداء له قائماً بأن يرحمهم ويغفر لهم ويهديهم، وذلك جزء أيضاً من العبادة، بل هو لب العبادة الصادقة، فإن الله لم يسأل عباده بعنت، ولم يأمرهم بما لا طاقة لهم به وإنما أراد منهم حسن الاتصال به ودوامه وهو أخير ما في العبادة من محاسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1ـ ينظر: العين: الخليل بن أحمد الفراهيدي: تح: د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي: 2/221، وينظر: لسان العرب: ابن منظور الأفريقي: 2/1385. 2ـ معجم الفروق اللغوية الحاوي لكتاب أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري. وجزءا من كتاب السيد نور الدين الجزائري، ص:535. 3ـ ينظر لسان العرب: 14/258. 4ـ ينظر العين:2/221. 5ـ شرح جميل الزجاجي لابن عصفور الأشبيلي: 2/540. 6ـ معجم مقاييس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا: 2/180. 7ـ مجمع البيان: 1/465. 8ـ في النحو العربي نقد وتوجيه: د. مهدي المخزومي: 301. 9ـ ينظر: ينظر معجم ألفاظ القرآن: مجمع اللغة العربية: 1/10. 10ـ المصدر السابق: 495. 11ـ ينظر: مفتاح الفلاح: 207. 12ـ كشاف اصطلاح الفنون: الشيخ محمد بن علي التهانوي الحنفي: وضع حواشيه: أحمد حسن بسج: 2/142. 13ـ التبيان في تفسير القرآن: الشيخ الطوسي: 1/194. 14 ـ المصباح المنير في غريب الشرح الكبير الرافعي: أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي:1/194. 15ـ الدعاء عند أهل البيت(عليهم السلام):9. 16ـ مناجاة أمير المؤمنين(عليه السلام) برواية السيد ضياء الدين فضل الله بن علي الراوندي. 17ـ مناجاة أمير المؤمنين(عليه السلام): 10. 18ـ دستور دعاء الحكم:138. 19ـ الدعاء عند أهل البيت(عليهم السلام): 45. 20ـ بحار الأنوار: 13/144. 21ـ ينتظر: دستور معالم الحكم:112. 22ـ ينظر: الميزان في تفسير القرآن: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي: 7/264. 23ـ ينظر: الأبعاد الإنسانية والحضارية في الصحيفة السجادية: مجموعة أساتذة، المستشارية الثقافية. 24ـ ينظر: في رحاب الدعاء:15. 25ـ ينظر: الأصول من الكافي: 2/468. 26ـ ينظر: تاريخ الأديان: طه الهاشمي: 81 وما بعدها. و: الفكر الديني القديم: تقي الدباغ: 127. و: البلاغ (مجلة) السنة/1، العدد/5، م/ الألوهية بين الميتافيزيقي والمؤمن: عبد الأمير الأعسم:26. 27ـ ينظر: مفتاح الفلاح: 79ـ 80.