إنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) ممن قرع سمعها القرآن في بدء نزوله، وكانت تصغي إلى الوحي وإلى آيات كتابه بل لم يكن أحد بعد أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) أقرب إلى القرآن منها فإنها بضعة النبوة فلم تكن تفارق أباها ليلاً ولا نهاراً في مدة التسع سنين التي قضتها في بيت أبيها وتحت ظله السامي فكانت طوال هذه المدة تطلع على أسرار الوحي والرسالة، وآيات الكتاب المجيد، ولم تنقطع عن الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد زواجها من أمير المؤمنين علي (عليه السلام)بل كانت تزور أباها كثيراً، وتشهد نزول الوحي عليه، وتسمع آيات القرآن الكريم وخصوصياتها ومزاياها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو من أمير المؤمنين(عليه السلام)(1)،
وهكذا (انعكس أبوها في وجدانها فامتصته في عقلها، وعبّرت عنه في عاطفتها، وبفضل هذا الحب ازدوجت لها الحالتان:
فهي بنت أبيها في الوقت الذي أصبحت فيه أم أبيها… وعلي بينما كان في المبتدأ مجرد أنيس طفولة ورفيق ملعب، أصبح – بعد أن شبّت وشبّ – خيالاً لِطَيفٍ ومرآةً لِجبينِ، لقد أصبحت ترى في عينيه طيف أبيها وظل ذيّاك الجبين)(2)
فهي التي (رُبِّيَتْ في حُجُورِ الأنبياء، وتداوَلَتْها أيدي الملائكة، ونَمَتْ في المغارسِ الطاهراتِ، نَشَأَتْ خيرَ مَنْشَإٍ، ورُبِّيَتْ خيرَ مُربَّى)(3) فكانت قد حلّت في أوسع مكان من قلب أبيها، ووقعت في نفسه الشريفة أحسن موقع فكان يحبها حباً لا يشبه محبة الآباء لبناتهم فهو حبٌ ممزوجٌ بالاحترام والتعظيم فلم يعهد من أي أبٍ في العالم ما شوهد من الرسول الكريم تجاه البضعة الطاهرة، ولم يكن هذا الحب منبعثاً من العاطفة الأبوية فحسب، بل كان ينظر إليها نظرة إكبار وإجلال واعتزاز لما كانت تتمتع به من مواهب ومزايا وفضائل(4) فهي ربيبة القرآن والرسالة المحمدية، واللسان الناطق باسمها، والنموذج القيادي الأسمى والأمثل لنساء العالمين في العصور كافة فهي معصومة، ولعل ما يدل على عصمتها (5):
1- إن القرآن الكريم شهد بعصمتها في آية التطهير في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 33) فالله الطاهر طهّر بإرادة تكوينية أهل البيت(عليهم السلام)ومنهم فاطمة(عليها السلام) وعصمهم بعصمة ذاتية ومطلقة واجبة عقلاً ونقلاً.
2- إنها عدل القرآن لحديث الثقلين المتفق عليه عند الفريقين: الشيعة والسنة، ولما كان القرآن معصوماً فكذلك عدله أهل البيت(عليهم السلام).
3- إنها كفء علي، ولولاه لما كان لها كفء فلا يتزوج المعصوم إلا المعصومة فإن الرجال قوامون على النساء فلفاطمة ما لعلي إلا الإمامة فكل ما ثبت لعلي بالمطابقة ثبت للزهراء بالالتزام، وكل شيء ثبت لفاطمة ثبت بالدلالة الالتزامية لعلي.
4- إنها حورية بصورة إنسية، والملائكة معصومون فكذلك فاطمة الحورية.
5- وحدة الإرادة الإلهية والفاطمية، فإن الله يرضى لرضاها، ويغضب لغضبها، وإنه لم يغضب لغضب يونس صاحب الحوت لكنه يغضب لغضب فاطمة فوحدة الإرادة دليل على العصمة.
6- إنها سيدة النساء في الدنيا والآخرة فكيف تكون سيدة الأولين والآخرين، وهي غير معصومة.
7- في آية المباهلة، وهي قوله تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران: 61) قدّم النساء على الأنفس، وهي إشارة إلى أن النفوس فداها فقد قال فيها الرسول (صلى الله عليه وآله): (… فعلتها فداها أبوها)(6).
8- إنها العالم العلوي والعالم السفلي في قوسي الصعودي والنزولي.
9- إنها صدر النبي (صلى الله عليه وآله)، وإن صدره يحمل القرآن دفعة واحدة، وفي ليلة القدر، وهي فاطمة الزهراء.
10- لا يعرف قدرها إلا من قدّرها، ولا يعرف أسرارها إلا من خلقها، ومن أذن له الرحمن.
11- إنها مفروض الطاعة على الخلق مطلقاً فكيف تكون مفروض الطاعة على الإطلاق وهي غير معصومة؟
12- هي حجة الحجج وأسوتهم ـ كما ورد في الأخبار الشريفة.
13- إنها مجمع النورين بحديث الأفلاك فحملت بذاك أسرار النبوة والإمامة، وإنها أم أبيها.
14- إنها حبل الله الممدود فلابد أن يكون معصوماً، وإلا فكيف يتمسك على الإطلاق بما لم يكن معصوماً؟
15- امتحانها بالصبر، وهو أساس الكمال والأخلاق التي منها الزهد.
16- علمها اللَّدني.
17- سيرتها وحياتها يفوح منها عطر العصمة الإلهية.
18- الآيات والروايات الكثيرة الدالة على فضلها، وعظمتها، وتعلقها بعالم الغيب. قراءتها القرآن في الخلوات
ويروى أنها (عليها السلام) كانت تقرأ القرآن الكريم في خلواتها فقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال:
(بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) سلمان (رضي الله عنه) إلى منزل فاطمة لحاجة. قال سلمان: فوقفت بالباب وقفة حتى سلمت، فسمعت فاطمة تقرأ القرآن من جوا، والرحى تدور من برا، ما عندها أنيس. قال: فعدت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله، رأيت أمرًا عظيمًا!
فقال: هيه يا سلمان، تكلم بما رأيت وسمعت. قال: وقفت بباب ابنتك يا رسول الله، وسلمت، فسمعت فاطمة تقرأ القرآن من جوا، والرحى تدور من برا ما عندها أنيس! قال: فتبسم رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقال: يا سلمان، إن ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيمانا إلى مشاشها(7)، فتفرغت لطاعة الله (عزوجل) فبعث الله ملكًا اسمه (روفائيل)… فأدار لها الرحى فكفاها الله (عز وجل) مؤنة الدنيا مع مؤنة الآخرة)(8).
من فضائل فاطمة(عليها السلام) في القرآن
ذكر الله تعالى اثنتي عشرة امرأة في القرآن الكريم على وجه الكناية. قال ابن شهر آشوب: (واعلم أن الله ذكر اثنتي عشرة امرأة في القرآن على وجه الكناية:
(اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)(البقرة: 35) حواء،
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا)(التحريم: 10) امرأة نوح وامرأة لوط،
(إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)(التحريم: 11) امرأة فرعون،
(وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ)(هود: 71) لإبراهيم ،
(وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ)(الانبياء: 90) لزكريا،
(الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ)(يوسف: 51) زليخا امرأة العزيز،
(وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ)(الانبياء: 84) لأيوب،
(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ)(النمل: 23) بلقيس،
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ)(القصص: 27) لموسى،
(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا)(التحريم: 3) حفصة وعائشة،
(وَوَجَدَكَ عَائِلًا) (الضحى: 8) خديجة،
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) (الرحمن: 19) فاطمة(عليها السلام))(9).
وحينما ذكر خصال هؤلاء النساء خصّ سيدة النساء بالعصمة. جاء في المناقب قول ابن شهر آشوب: (ثم ذكرهن بخصال:
التوبة من حواء (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)(الاعراف: 23)،
والشوق من آسية: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)(التحريم:11)،
والضيافة من سارة: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ)(هود:71)
والعقل من بلقيس: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً)(النمل: 34)،
والحياء من امرأة موسى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي)(القصص: 25)،
والإحسان من خديجة: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا)(الضحى:8)،
والنصيحة لعائشة وحفصة: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ)(الاحزاب: 32) إلى قوله: (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) (الأحزاب: 33)،
والعصمة من فاطمة: (وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ) (آل عمران: 61)) (10).
وكذا خصها بالعلم دون سواها من النساء كما ورد في قول ابن شهر آشوب:
(وإن الله تعالى أعطى عشرة أشياء لعشرة من النساء: التوبة لحواء زوج آدم، والجمال لسارة زوج ابراهيم، والحفاظ لرحيمة زوج أيوب، والحرمة لآسية زوج فرعون، والحكمة لزليخا زوج يوسف، والعقل لبلقيس زوج سليمان، والصبر لبرحانة أم موسى، والصفوة لمريم أم عيسى، والرضا لخديجة زوج المصطفى، والعلم لفاطمة زوج المرتضى)(11).
وكذا أعطى الإجابة لعشرة: