قال تبارك وتعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ…) (التوبة: 36)
ولا خلاف في أن الشهر الفضيل شهر رمضان المبارك من أكثرها احتواءً للفضائل والخيرات، وأعظمها اهتماماً لدى المسلمين كافة، وهذه حقيقة يعرفها الجميع ولكن: يوجد بين ذلك الجميع جمعٌ لا يعرف من كنوزه غير الصيام بالامتناع عن الأكل والشرب والنساء خلال الوقت المحدد من قُبيل أذان الفجر لحين أذان المغرب، ويعتقد إن هذا هو كل ما أراده الله تعالى من قوله الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183) فما هو المرجو من فرض الصيام؟
إن فرض الصيام على المكلّفين من المسلمين، وعلى من سبقهم من الأمم – بالمبدأ لا بالكيفيّة – هو تشريع ساري المفعول، وقد أداه أصحاب الديانات السماوية والوثنية فمصر الفرعونية صامت والوثنيون من الهنود صاموا كما صام أهل اليونان والرومان القدماء(1) وصام اليهود والنصارى أيضاً كل حسب طريقته. ومن هنا تظهر الأهمية القصوى لهذه الفريضة الخالدة الممتدة بامتداد العناية الإلهية الكريمة بالبشرية عبر القرون والأزمان.
وقبل تسليط الأضواء على الواقع المعاش ونصيب الأمر الإلهي من التطبيق لدى المسلمين خاصة، نقف قليلاً عند مكارم وفضائل شهر الصيام المبارك. فقد كشـف لنا المتصدّون من أرباب البحث والتتبع جملة من أنعـمه وفــوائده، فنعتوه بالأشـرف من النعوت فهو شهر الطاعة والغفران، وشهر الله، وشهر القرآن وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، و(فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان: 4) إنه الشهر الكريم المبارك (هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، وهو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب. فاسألوا الله ربكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم)(2).
ومن جليل مقداره جعله الله وعاءً لمناسبات تاريخية كريمة، ففي الثالث منه أُنزلت صحف إبراهيم (عليه السلام)، وفي السادس منه أُنزلت توراة موسى (عليه السلام)، وفي الثالث عشر منه أُنزل إنجيل عيسى (عليه السلام)، وفي الثامن عشر منه أُنزل الزبور على داوود (عليه السلام)،
وفي الرابع والعشرين منه أُنزل القرآن على نبينا الأعظم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)
ـ أي إنه أُنزل في فرضه وإيجاب صومه ـ(3).
نعود إلى السؤال الذي طرحناه (ما هو المرجو من فرض الصيام على المكلفين والذي شدد عليه القرآن الكريم بقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ…) أي فرض عليكم؟ فورد عن هشام بن الحكم إنه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن علّة الصيام، فقال إنما فرض الصيام ليستوي به الغني والفقير وذلك لأن الغني لم يكن ليجد مسَّ الجوع، فيرحم الفقير..(4) ويضاف إلى ذلك أُمور منها: إن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقطاع الهوى، وقد أكد هذا المعنى السيد الطباطبائي بقوله: … (فهذه التقوى إنما تحصل بالصوم والكف عن الشهوات … وأن يتقى ما يعم به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل والشرب والمباشرة حتى يحصل له التدرب على اتقاء المحرمات واجتنابها)(5).
وفي الصوم مردود إيجابي من جهة النظام الصحي ففيه (إعطاء الجسم فرصة للراحة وإعادة بناء ما ضعف أو تلاشى من الخلايا أو تصفية ما تكدس من الدهون، أو ما فسد من الدماء …)(6).
ومن مكاسب الصوم حمل النفس على الصبر وتفعيل الإرادة الذاتية لتحقيق إنجاز أفضل وتعبّد أمثل، يتبعه ترسيخ الإيمان وتنشيط السمو الروحي، وتطهير السلوك ليثمر – بلطف الله – العتق من النار … فروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: (يا جابر، هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام ورداً من ليله وعف بطنه وفرجه وكفّ لسانه، خرج من الذنوب كخروجه من الشهر)(7). والأحاديث والأخبار في هذا المجال كثيرة ومنها الحديث التربوي المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح، ودع المراء وأذى الخادم وليكن عليك وقار الصائم (الصيام) ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك)(8).
إن مَن يرى شهر رمضان شهراً تقليدياً كسائر الشهور فهو خارج أسوار العقيدة، فالصوم دعوة صريحة إلى التوبة والإنابة وإظهار الندم والاستغفار وكف الأذى عن الناس مادياً ومعنوياً وهو جُنة من النار …
والآن، وبعد الوقوف على مجمل فضائل شهر الصيام، نجيب على ما جاء بعنوان موضوعنا: (المسلمون … والشهر الفضيل) بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا…) وهو نداء للمؤمنين من المسلمين، فالمرء إذا تحقق في وجدانه ولُبّهِ نور الإيمان فهو الأقرب من رحمة الله ومثوبته التي لا حدود لها كما هو ظاهر من الحديث القدسي المشهور: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أُجزي به)(9)، وأما الذين يحملون الهوية الإسلامية فهم على ثلاثة أقسام ـ حسب الظاهرـ القسم الأول: أولئك الذين أنعم الله عليهم بالإيمان التام، يعلمون ما يفعلون، ولا تأخذهم متع الحياة الدنيا وبهرجها إلى ما لا يحقق أعلى درجات الامتثال، أولئك هم المفلحون …
القسم الثاني: هم الذين يُظهرون اهتماماً واستعداداً لاستقبال الشهر الكريم وقد يصوم بعضهم يوماً أو يومين من شعبان ويمتنعون عن الأكل والشرب والمباشرة، ويقرؤون الدعاء والقرآن ويحضرون في المساجد والمراقد … ولكن لا يقوى أغلبهم على التخلص مما اعتادوا عليه في أيامهم الاعتيادية من الغيبة أو التجاوزات. ثم إذا انقضى شهر رمضان عاد بعضهم إلى عبثه ولهوه، وقد يفعل ذلك في فترة الإفطار.
أما القسم الثالث: فهم المسلمون بالانتماء ولكنهم لا يعرفون لون النور الإلهي، وليس في مذكراتهم تعبير عن عقيدة أو دين، لقد تمردوا على كل شي وأخذتهم موجة التغريب والتحلل، يهزؤون بالموروث ويسخرون من الأعراف والتقاليد السليمة، ويفعلون المتناقضات، ويشاركون في التظاهرات والممارسات الدينية ولكنهم لا يصلّون وإذا صلى بعضهم صلى رياءً ودجلًا. ولا نريد الإيغال في كشف الإنحرافات بل نرغب في التنبيه والتذكير بأن الدنيا دار ابتلاء وليس فيها خلود وبقاء وإن الآخرة هي الأبقى، والعاقبة للمؤمنين المتقين والعقوبة للعصاة المسرفين، فهل من منقذ ولو لقسم من هذا القسم …؟>
نشر في العدد 70