قال تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..) الجدال بالتي هي أحسن، أو ما نسميه بالحوار والمحاورة الهادفة الهادئة، سواء بين الأفراد أو بين الجماعات أو الشعوب، للتوصل إلى قواسم مشتركة في مواضع الخلاف والاختلاف.
الحوار في الكلام: أي المحاورة. والمحاورة: المجاوبة ومراجعة النطق والكلام في المخاطبة، وقد حاوره، وتحاوروا: تراجعوا الكلام بينهم(1).
والحوار بين الأمم: المجاوبة بين الطرفين، وهناك تداخل في المعنى بين المفاهيم وتقارن بين المحاورة والتحاور، قال تعالى: (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) (المجادلة:2) والاحتجاج والمناظرة والمجادلة والجدل العلمي.
ومن أسبق ما حدث وجَدَّ في الفكر الإسلامي هو المناظرات الكلامية والتي(2) كانت تدور حول الصراع الفكري الذي حدث بين المسلمين في شتى نقاط الخلاف العقائدي والمذهبي بينهم(3).
وهناك تمايز آخر: معرفي، وعلمي بين الحوار العلمي الهادف والصراع:
فالصراع: غايته نفي الآخر وإفناؤه.
وأما الحوار: غايته الإبقاء على الآخر، وجذبه إلى الصواب بعد إزالة الشبهات العالقة ويكون الحوار هو الأمر المتبادل بين الطرفين.(4)
الحوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(الحوار من الوسائل المفضلة في أداء مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبه يتم إيقاظ العقول والقلوب، وتحريك العواطف والمشاعر، وخصوصًا لمن يبحث عن الحقيقة، فهو يساعد على معرفة مستويات المشاركين في الحوار، وما يطرحونه من شبهات فكرية وسلوكية، فيطالب المحاور غيره بالحجة والدليل، ويعلمه في الوقت نفسه طريقة الاستدلال الصحيح، ويأخذ عليه طريق الادعاء بلا بينة أو ببينة مضطربة. وينبغي أن يكون الحوار في مفهوم أو موقف واقعي، لا في الألفاظ والتعاريف، وأن يبدأ الحوار من القضايا المشتركة ثم إلى القضايا المختلف فيها)(5).
ولنتأمل سيرة حياة الأنبياء ومهمتهم والأولياء وبيانهم ومواقفهم مع الظالمين والمعاندين من فراعنة زمانهم وعصرهم:
قال تعالى: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (طه: 24-36)
وقال سبحانه: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه: 44-45).
وجاء في حق النبي(صلى الله عليه وآله)، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيرًا) (الأحزاب :45-47).
والحوار وسيلة استخدمها جميع الأنبياء والمرسلين في مسيرتهم، كحوار نوح (عليه السلام) مع قومه، وإبراهيم (عليه السلام) مع النمرود، وموسى (عليه السلام) مع فرعون، وعيسى (عليه السلام) مع بني إسرائيل، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) مع المشركين من قريش ومن أهل الكتاب، ومع المسلمين أنفسهم، وأهل البيت (عليهم السلام)
مع حكام زمانهم ومع أئمة المذاهب الأخرى.
ونلاحظ ذلك أيضًا في قوله تعالى للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)
والحوار يختلف حسب اختلاف المعتقدات، فهو يتركز على المفاهيم والأفكار مع غير المسلمين، وعلى إثارة العواطف مع المسلمين الذين آمنوا بالإسلام فكرًا وعاطفة وسلوكًا.
فقد كان حوار رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع المشركين حول التوحيد والنبوة واليوم الآخر، أما حواره مع المسلمين فقد كان حول الممارسات العملية بإثارة عواطفهم اتجاه الأفكار والمفاهيم الإسلامية لتجسيدها في الواقع العملي، فحينما (وزع (صلى الله عليه وآله)
الأموال على المؤلفة قلوبهم، اعترض الأنصار وكثر الكلام، فحاورهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائلًا:
(إِنِّي أُعْطِي رِجَالاً حَدِيثِي عَهِدَ بِكُفْرِ أتألفهم، أَفَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللهِ؟ فَوَ اَللهِ لِمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ. قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا). نلحظ هنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مارس أبلغ الفطنة والسياسة في مداراة الناس. فمن جهة عمل – بإعطاء الهدية – على تليين المتظاهرين بالإسلام الذين كانوا يشكلون خطرًا عليه. ومن جهة أخرى كسب قلوب الموالين الذين لم يعطهم شيئا من الغنائم، عبر تعامله المفعم بالعاطفة معهم)(6)، كل ذلك وفق مبدأ الحوار البناء.
لاشك أن الحوار العلمي والاحتجاجات والمناظرات القائمة على الأسس المنطقية والأخلاقية من أبدع الوسائل للوصول إلى الحقائق والكشف عنها، وقد حث القرآن الكريم على هذه الطريقة من البحث العلمي إذ قال تعالى: ( . . . فَبَشِّرْ عِبَادِ ..الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. . .) (الزمر : 17-18) .
ومن السابقين في هذا المضمار هم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فالكتب الروائية مشحونة بالاحتجاجات العقلية التي دارت بينهم وبين أصحاب المذاهب الفكرية الأخرى من المسلمين وغيرهم في جانبي المعارف الاعتقادية والأحكام الشرعية.
وقد سار علماؤنا رضوان الله عليهم
على هذا الدرب المنير، فأجروا حوارات ومناظرات مع من يخالفهم في الآراء الاعتقادية والفقهية عبر المشافهة والتخاطب أو التأليف والكتابة، ولم يكتفوا بالمناظرة مع الأشخاص والمفكرين المعاصرين لهم أو السابقين لهم وليس عليهم، بل ربما كانوا هم الذين يثيرون الشبهات، ومن ثم يتصدون للإجابة عليها(7).
وفيها ما هو في الحوار مع الفرق الأخرى كالرحلة المدرسية، أو مؤتمر علماء بغداد أو المراجعات، وغيرها الكثير. . وتأتي تارة بنحو قصصي، وأخرى بشكل المحاورة والجدل وهي مجموعة كثيرة من الكتب والأسفار. وللحوار ثلاثة محاور، هي:
المحور الأول: منهج القرآن في الحوار، وأسس القرآن الكريم للحوار منهجًا وطريقًا، هو تعميق روح الإيمان في نفوس الناس وشرح صدورهم، ويهدف إلى الاقناع والتأثير العقلي بعد توفر شرطين مهمين:
– انفتاح القلوب على فهم ما عند الآخر وإبداء روح المودة وليس الحقد، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ…) (طه: 43)
– حسن الظن بالآخر الذي يختلف في الرأي أو الموقف، فلا تتهمه وتظن به السوء ومن هنا نتعرف موقف رسول الإنسانية (صلى الله عليه وآله) مع أسامة بن زيد حين نطق خصمه بالشهادة ولم يقتنع بها زيد.يذكر المجلسي في البحار/ج21ص65 (قال زيد: بعثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سرية …فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي (صلى الله عليه وآله) فقال: (أقال: لا إله إلا الله، وقتلته؟) قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح؟ قال: (أفلا شققت قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟) فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.
فالحوار أسلوب متحرك عملي للوصول إلى الحقيقة بالإقناع.
وفي ضوء هذه الفكرة سارت حوارات القرآن الكريم في السنن الاجتماعية التي نقلها عن تفاعل الأنبياء مع الأمم، وهي:
ـ حوار القرآن مع أهل الكتاب اليهود والنصارى وما بينته الآيات الشريفة.
ـ حوار القرآن مع المشركين والاهتمام بإثبات التوحيد والنبوة وتعاليم الإسلام.
وفي كل واحد من هذه الموارد نماذج تطبيقية من الآيات الكريمة.
المحور الثاني: حوار الأديان، الأديان السماوية صدرت من فيض واحد وهو الله تعالى المشرع للشرائع لسعادة البشر في الدارين.
فالمحاورة بين الأديان هي الأسلوب الهادئ والرصين لوجود المشتركات في القيم والمفاهيم والتشريع والحكم.
إذاً هناك ثوابت لا تتبدل ولا تتغير في عناصرها الأساسية: العقيدة والتشريع والمقدسات والعبادة.
وينتج التأكيد على جانبين مهمين هما:
– المشتركات العلمية بين الأديان وخصوصًا التوحيد والنبوة وغيرها.
– الدعوة إلى المحبة والسلام والسماح والرحمة والإحسان والعدل.
وفي إدارة دفة الحوار لابد من الحرية التامة والموضوعية النزيهة بغية بيان العقيدة عند الطرفين المتنازعين مع تدعيم كل رأي منهما بالمصادر والمراجع والإقناع الصادق.
وهنا صورة حية للحوار وقبول الآخر من تراثنا الإسلامي وسيرة النبي (صلى الله عليه وآله) عندما كان في المدينة، وكيفية وصول وفد نجران وجلوسهم في المسجد النبوي وعدم رضا بعض المسلمين وإخراجهم من المسجد، ولكن سماحة الإسلام وخلق النبي (صلى الله عليه وآله) سمح لهم بذلك وطلب المباهلة معهم.
وهذا درس من سيرته العطرة بأن نجالس هؤلاء ونفهم ما عندهم ونقدم لهم ما عندنا بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولعل من أبرز ما تركه تراثنا الاسلامي في سيرة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وبعض الصحابة والتابعين لهم في مضمار الحوار، هو كتاب الاحتجاج للطبرسي بجزئيه، فهو جدير بالدراسة والتأمل والتحليل.
فهي حوارات وأفكار في عصور مختلفة ومع توجهات وأفكار ورؤى مختلفة مع الزنادقة والمشبهة والمجبرة واليهود والنصارى وغيرهم.
وفيها دلالة كبيرة على فتح باب الحوار مع الأديان وهو عمل سيرة قولية وفعلية وتقرير، منها مواقف هشام بن الحكم وجهوده في هذا الجانب.
والحوار الذي دار بين الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) وابن أبي العوجاء في الحج بفناء البيت(8).
وكذلك سيرة فقهاء الطائفة، ولا ننسى منهم آية الله الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء وكلمته في الأزهر، وجهود الشيخ محمد جواد البلاغي ومعرفته بالديانات الأخرى في الرحلة المدرسية(9).
المحور الثالث: حوار الحضارات، الحوار الهادف ضرورة إنسانية، وهو حالة عقلائية متطورة تاريخيًا وحضاريًا.
وهذا يتطلب وجود الرغبة في التقارب، وإظهار حسن النية والثقة المتبادلة بين الطرفين كي يتحقق فهم الآخر، واحترام تعاليمه.
إن موضوع الحوار بين الحضارات له أسس وحقائق مهمة:
1- من سنة الحياة الاختلاف والتعدد والتنوع، وهذا يثمر التطور والإبداع.
2- حوار الحضارات محوره الإنسان، وهو جزء مهم في هذا الكون ولا ينحرف عن الطبيعة الإنسانية.
3- فالحوار تقليد ثقافي وفكري وعلمي مهم جدًا مارسته الحضارات بينها.
4- الانتقال الحضاري أمر مألوف في التغيير إذ تضمحل حضارة وتنشأ غيرها حسب الدواعي والظروف.
5- وحوار الحضارات لا يستغني عن تعاليم الدين، وهي قامت على الدين وباسمه.
فالتنوع الثقافي بين الأمم والشعوب والتعاون الدولي من خلال التقارب بين الثقافات يوصل إلى التحالف بين الحضارات(10).
فالقرآن الكريم أول من حاور الآخر في مواضيع شتى وكما أشرنا إليها في التوحيد والنبوة والمعاد والإمامة وغيرها.
والقرآن هو أول من أسس قاعدة الحوار الحر في جميع أفكاره، فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل :125).
فالجدال بالحسنى أو ما نسميه بـ (الحوار) عند المسلمين منهج رصين، والإقناع للآخر والوصول إلى الحقيقة من خلال الانفتاح في الحوار وطرح الأفكار السليمة وتبادل الرأي>