ما لا يختلف عليه اثنان أن البيئة التي يعيش فيها الإنسان لها أكبر الأثر وأبلغ التأثير في النفوس. فقد أجمع علماء الاجتماع على أن للبيئة أثرها الخاص في الأجسام والعقول، وفعلها البالغ في النفوس والطباع والعادات والأخلاق، وأن لكل بيئة خواص تمتاز بها عن غيرها وهذه الخواص هي العوامل الفعالة التي تمنح ساكنها تلك القوى الحيوية التي تسلحها في ميدان النزاع الحياتي فتميزها عن الحيوان والكائنات الأخرى، ومعلوم أن البيئات متفاوتة تفاوتاً عظيماً حسب الآثار الطبيعية والمؤثرات العامة فهناك بيئة الصحراء وقمم الجبال الثلجية والقطبين والأقاليم شديدة الحر، فإن هذه الأماكن قلما تمنح ساكنيها تلك القوى الحيوية والحساسة وذلك النشاط الروحي الوثاب كما أن أجود البيئات الطبيعية هي السهول والمروج الخصبة في الأقاليم المعتدلة، حيث تغدق على الإنسان القاطن فيها تلك القوى الروحية بغزارة وتمنحه صفاء الذهن وسلامة الذوق وشفافية الروح، ما لم تمنح غيره من سكان البيئات الأخر في المناطق المعتدلة (1).
لذا نرى أن التاريخ الصحيح يثبت لنا أن أقدم الأمم التي أنشأت دولاً عظيمة ومدنيات مجيدة كانت أولاً في العراق ومصر، ثم صارت منها تنشأ في الدول الأخرى وهذا التأثير للبيئات الطبيعية لم يكن مقتصراً على تطور المدنيات فحسب بل له الفعل الواضح على الأخلاق والأمزجة وحتى على بنى الأجسام ورقي العقول…
وقد ذهب أكثر المؤرخين إلى أن العراق أعرق من غيره في سائر المزايا الطبيعية والفضائل الكريمة، قال بعض الحكماء(2): (وأما العراق فمنار الشرق وسرة الأرض وقلبها، إليه تحادرت المياه وبه اتصلت النضارة، وعنده وقف الاعتدال، فصفت أمزجة أهله ولطفت أذهانهم، واحتدت خواطرهم واتصلت مسراتهم فظهر منهم الدهاء، وقويت عقولهم وثبتت بصائرهم، وقلب الأرض العراق، وهو المجتبى من قديم الزمان وهو مفتاح الشرق، ومسلك النور، ومسرح العينين ولأهله أعدل الألوان وأنقى الروائح وأفضل الأمزجة وأطوع القرائح، وفيهم جوامع الفضائل، وفوائد المبرات وفضائله كثيرة لصفاء جوهره، وطيب نسيمه، واعتدال تربته، وإغداق الماء ورفاهية العيش به)(3).
وقال ياقوت الحموي(4): والعراق أعدل أرض الله هواءً وأصحها مزاجاً وماء، ولذلك كان أهل العراق هم أهل العقول الصحيحة، والآراء الراجحة، والشهوات المحمودة، والشمائل الظريفة والبراعة في كل صناعة مع اعتدال الأعضاء واستواء الأخلاط وسمرة الألوان.
وقال اليعقوبي(5) عند وصف تربة العراق: وباعتدال الهواء وطيب الثرى وعذوبة الماء حسنت أخلاق أهلها، ونظرت وجوههم وانفتقت أذهانهم، حتى فضلوا الناس في العلم والأدب، والنظر والتميز والصناعات والمكاسب والحذق بكل مناظره وإحكام كل مهنه وإتقان كل صناعة فليس أعلم من عالمهم ولا أروى من روايتهم ولا أجدل من متكلمهم ولا أعرب من نحويهم، ولا أصح من قاريهم ولا أمهر من متطببهم …، ولا ألطف من صانعهم، ولا أكتب من كاتبهم، ولا أبين من منطقهم ولا أعبد من عابدهم، ولا أروع من زاهدهم، ولا أفقه من حاكمهم، ولا أخطب من خطيبهم، ولا أشعر من شاعرهم….. ».
وهذا الوصف الدقيق من اليعقوبي لبيئة وطبيعة العراق وما تقدم من كلام ياقوت الحموي يعطينا انطباعاً لما للبيئة من صقل النفوس وبناء الأجسام والعقول وبالتالي تفتح الأذهان والقرائح وهذا يولد الإبداع في كل شيء، ونحن في البحث المتواضع لا نريد أن نلم بأطراف هذا الأمر لأنه بحث شائك وطويل ولكن نريد أن نلم إلمامة ولو بسيطة بتأثير البيئة في النجف الأشرف على الذهنية العلمية وصقل مواهبها وتنمية مواهبها وإن ذلك يرجع إلى طبيعة هذه المدينة واحتضانها إلى جسد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) … (لقد أصبح هذا القبر سبباً مباشراً في تمدن هذه البقعة، وعاملاً هاماً في ظهورها مدينة متسعة مزدحمة سريعة النماء. ذات طبيعة اجتماعية إسلامية خاصة وخصوصاً بعد وصول شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي تلميذ الشيخ المفيد قادماً من بغداد عام 450هـ(6).
هذا هو العراق الذي عرفت مكانته في الشرق الأدنى، ومحله المتوسط من بقاع الأرض وبديهي أن النجف الأشرف في العراق هي قلبه النابض، وعقله المتصرف، ونقطة اعتداله المرموقة وأصفى نقاطه اعتدالاً وأرضى بقاعه طباعاً وأخلاقاً وأعدل سكانه أمزجة ونفوساً.
إن الحديث عن بيئة النجف الأشرف حديث ممتع وذو شجون فلم يعرج عليها باحث إلا وأكثر من وصفها والإطراء عليها ومدحها بأجمل العبارات وأدق المعاني.
يحدثنا الشيخ جعفر آل محبوبة في كتابه القيم(7) (ماضي النجف وحاضرها) عن بيئة النجف الأشرف فيقول: (النجف في إقليم حسن التربة معتدل في الحرارة والبرودة لم يلحق الحجاز في حره ولا الجهات الشمالية في برودها وهو العراق، وكان ظهر الكوفة الذي هو النجف يدعى (خد العذراء) ينبت الخزامى والأقحوان والشيح والقيصوم والشقائق، ولحسن تربته وطيب هوائه كان متنزهاً للساسانيين والمناذرة والعباسيين(8)، يقول المسعودي في مروج الذهب: (قد كان جماعة من خلفاء بني العباس كالسفاح والمنصور والرشيد ينزلونها ويطلبون المقام بها لطيب هوائها وصفاء جوها وصحة تربتها وقرب الخورنق والنجف منها(9).
ومن هذه القصور الخورنق والسدير في الحيرة وقصر أبي الخصيب والقصر الأبيض، ومن أسماء النجف (الطور، والربوة، والظهر، والجودي، ووادي السلام، وبانقياء اللسان، والغربي، والغريان، والمشهد). لقد كان طيب مناخ النجف وصفاء جوها من أهم الأسباب التي أغرت الناس بالإقامة فيها والهرب إليها أيام الأوبئة والأمراض(10).
فلا غرابة إذن إذا ما أخذت النجف الأشرف مكانتها السامية في العالم الإسلامي وحصلت لها هذه الأهمية الفائقة بين سائر البلاد وأصبحت موضع عناية الملوك والعظماء الذين يقصدونها من الأماكن الشاسعة ويتقاطرون إليها من كل صوب وحدب بعد أن تشرفت بمرقد بطل الإسلام وباب مدينة العلم النبوي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقد أصبحت لهذه الميزة، ولهذا الشرف الرفيع ولسائر العوامل الطبيعية المتقدمة جامعة الدين الكبرى وعاصمة المذهب الشيعي الوحيدة، وأعظم معهد علمي تأوي إليه طلاب الحقيقة ورواد العلوم وأكبر مرجع ترجع إليه هذه الطائفة من شرق الأرض وغربها في التقليد منذ العهود البعيدة والقرون المتطاولة وحتى اليوم وإلى ما شاء الله أن تكون(11).
يقول الشيخ محمد السماوي (رحمه الله) في وصف تربة النجف وأهلها(12):
ألم على ذكوات النجف
ولاحظ بطرفك تلك الطرف
هواءً نقياً تحف النفوس
بطيب هدايا له أو تحف
وتربا زكيا يود الفؤاد
يلاصقه من وراء الشغف
وعج بالحمى لترى رمله
النقي، وما رق فيه ورف
إذا باكرته السما بالحيا
حسبت مدار النجوم انقصف
ترى مشرق النهر من حوله
على جانب الغرب منه انعطف
فأين يتاه بمن لم يعج
بتلك الجنان وتلك الغرف
أيختاره ربعا سوى ربعها
فيلقى اللآلي ويجبي الصدف
يؤلفهم جامع ومن ولا
«علي» إذا ما القبيل اختلف
كأن الجماهير حول الضريح
حجيج بمكة ذات الشرف
كأن صفوفهم في الصلاة
أكاليل در بتاج تصف
كأن العلوم إذا دارسوا
بحار بأفكارهم تغترف
سل(الصحن) كم فيه من لائذ
يقول «علي» له: لا تخف
وكم فيه من مستقيل يقال
له: قد عفا الله عما سلف
وكم فيه من ذاكر ربه
تقرب بالمرتضى فازدلف
تعد مدينة النجف الأشرف منذ نزول الشيخ محمد بن الحسن الطوسي لاجئاً إليها من بغداد حتى وقتنا الحاضر مركزاً مهماً من مراكز الثقافة والفكر العربي الإسلامي بل يمكن القول إنها جامعة إسلامية شاملة لجميع ميادين النشاط العلمي والأدبي والاجتماعي والسياسي إذ أنجبت آلاف الفقهاء والمجتهدين والأدباء والشعراء والمجاهدين المدافعين عن بيضة الإسلام.
وعلى الرغم من أن بعض المدن الشيعية قد حازت الرئاسة العلمية والمرجعية، لكنها لم تدم طويلاً كما دامت في النجف الأشرف فقد حازت الرئاسة العلمية والزعامة الدينية في القرن الخامس الهجري حتى اليوم وإن اختلفت في بعض العصور قوة وضعفاً وقلة وكثرة ولكن لم ينقطع عنها العلم أبداً فغدت تعد من العواصم العلمية التي لها الحظ الأوفر، ولهذه الخصوصية التي تميزت بها مدينة النجف الأشرف باعتبارها مركزاً للفكر العربي والإسلامي في مختلف العلوم فقد أصبحت محط أنظار كثير من طلاب العلم في مختلف أنحاء العالم الإسلامي لأجل التلمذة على منبرها. هاجر ولم يزل يهاجر إليها الجمع الغفير من مختلف العناصر والأجناس، إذ كان لهذا التوافد الأثر الكبير لأن هؤلاء هاجروا إليها بأفكارهم وميولهم وأذواقهم وأساليبهم الفكرية التي كانوا يتمتعون بها فولدت الاحتكاك والتزاوج الفكري الذي أفاد النجف بأمور عديدة أدبية واجتماعية واتجاه إصلاحي وأثر أدبي في الحركة العلمية(13).
ومن هنا يتضح لنا أن مدرسة النجف خلال هذا الدور الذي يعد من أزهى أدوارها العلمية قد أسهمت في رفد الفكر الإسلامي والعربي بشتى صنوف المعرفة، أضف إلى ذلك أن حوزتها العلمية لم تزل تحتفظ لوقتنا الحاضر بدور القيادة والريادة على الحوزات العلمية الأخرى>
المحامي عبدالرزاق أحمد الشمري
نشرت في العدد 70