يعني الاطمئنان، وسكون القلب، والتصديق الذي لا تشوبه شائبة شك أو ارتياب بالعلاقة بين طرفين …
وفي عالم الدين، فقد حدَّ الزجّاج الإيمان فقال: الإيمان إظهار الخضوع والقبول للشريعة، والتصديق. قال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا…) (الحجرات:14)، فالإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله) وبه يحقن الدم، فإذا كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان(1).
وذهب السيد الطباطبائي إلى هذا المعنى بقوله: … الإيمان معنى قائم بالقلب من قبيل الاعتقاد، والإسلام أمر قائم باللسان والجوارح فإنه الاستسلام والخضوع لساناً(2).
فصاحب اللسان وصاحب الميزان انطلقا من مضمون الآية القرآنية ولم يتعرضا لمصاديق الإيمان خارج حدود الأحكام الشرعية. ومع ذلك يبقى معنى الإيمان ملازماً لكثير من القيم والأعراف التي تسالم عليها الناس، فكل قول أو فعل يعبّر عن اعتقاد صادر من القلب ومشفوع بأثر ملموس أو محسوس فإنّه يصدق عليه معنى من معاني الإيمان، فمن ذلك: موقف إسماعيل (عليه السلام) من طلب أبيه إبراهيم (عليه السلام) بأن يذبحه، فقال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(الصافات : 102)، إنّه الخزين الإيماني بعدالة فعل أبيه فترجمه إلى كلام مسموع …
ومثل ذلك ما فعله أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) عندما قال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إنّ الله تعالى أوحى اليَّ أن أهجر دار قومي، وآمرك بالمبيت على مضجعي. فقال علي (عليه السلام): أوَتسلم بمبيتي هناك؟ قال (صلى الله عليه وآله): نعم. فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً، فكان أول مَن سجد لله شكرا )(3).
إنّه (عليه السلام) يرى سلامة دين الله تعالى بسلامة رسول الله (صلى الله عليه وآله). والموقف الذي وضِع فيه معروف العواقب إلّا إذا أراد الله سبحانه غير ذلك. وكان إيمان أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله) في أعلى درجات الصدق القلبي والصفاء الروحي، بدليل أنه حين نام في فراش النبي لم يجد ما يمنعه من تحقيق نوم مريح لم يوقظه غير صخب المتآمرين وكشف الرداء عن وجهه.
ولحفيد أمير المؤمنين نجل الحسين علي الأكبر (صلى الله عليه وآله) موقف إيماني مشهور، فحين سمع والده وهو يسير من قصر بني مقاتل إلى كربلاء، يكرر قول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين. سأله عن إسترجاعه فقال له: إنّي خفقتُ برأسي فعنّ لي فارس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نُعيت الينا. فقال علي الأكبر: لا أراك الله سوءاً، ألسنا على الحق؟ قال الإمام الحسين(عليه السلام): بلى والذي إليه مرجع العباد. فقال يا أبتِ إذن لا نبالي أن نموت محقّين (4).
والدفاع عن الأرض والعرض حد الاستشهاد دليل على عمق الإيمان الذي يجسده صمود المجاهدين قادةً وجنوداً، ولا حصر لأولئك الذين قيّدوا أرجلهم وبذلوا مهجهم للذود عن حياض الوطن والمقدسات … وقد يضحي المرء بأعز ما عنده إيماناً بقدسية القيم والأعراف التي تربى عليها، هذا تاريخنا زاخر بالأمثلة الخالدة في هذا المجال مثل موقف السموأل بن عادياء وهاني بن مسعود الشيباني وحنظلة بن مرّة الأسدي.
وهذا الأخير، وفي معركة القادسية عندما وقع هو وولده في الأسر طلبوا منه الكشف عن أسرار جيش المسلمين … وقد بذل العدو لحنظلة الغالي والنفيس لكي يخون أهله … وخاف حنظلة أن يضعف ولده ويبوح بالأسرار، فطلب منهم قتل ولده ليتمكن من تنفيذ ما يريدون دون الخوف من كشف تخاذله وخيانته من قبل ولده إذا بقي حياً، فصدّقوه وقتلوا ولده، وطلبوا منه الكلام فقال لآسره: أي خبر تريد أيها العلج ثكلتك الثواكل … إني خشيت أن تغري ولدي الصغير وتغويه فيبوح لك ببعض السر، أمّا وقد قُتل فليس هناك ما أخشاه على قومي … وكانت نهايته الشهادة(5).
وكم سمعنا عن قادة سياسيين صعدوا أعواد المشانق إيماناً منهم بعدالة مطالبهم … ومنهم مَن فقدَ حياته تحت وسائل التعذيب، وكان بإمكانه النجاة لولا إعتقاده الراسخ في عقله وقلبه إنّ الطريق إلى تحقيق ما يؤمن به هو حفظ ما أؤتمن عليه مهما كانت التضحيات.
أما الخوف:
ففي اللغة يعني الفزع.
وهو حالة نفسية يخلقها ضعف الإيمان وتهديد السلامة. وله مسبباته ودرجاته. وقد يصل إلى أعلى درجات الفزع والاضطراب. والناس في هذا الأمر تتفاوت حالاتهم، فمنهم الرعديد ومنهم المتماسك، وقليل منهم الذين لا يعرفون الخوف ولا يعرف الخوف طريقاً إلى قلوبهم.
وورد ذكر الخوف في القرآن المجيد في مواقف مختلفة، منها:
1 – بمعنى عدم الاطمئنان: في قوله تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا…)(البقرة:182).
2 – بمعنى الاحتياط: في قوله تعالى: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي…)(مريم:5).
3 – بمعنى الحرص والحذر: في قوله تعالى: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي)(القصص:7).
4 – بمعنى التقوى: في قوله تعالى: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأنعام:15).
5 – بمعنى الارتياب: في قوله تعالى: (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)(الروم:28).
وهذا ما تبين لنا من ظاهر الآيات. وهناك آيات أخرى ورد فيها ذكر الخوف وقد اختصت بذوي الدرجات العليا من الناس ومنهم الأنبياء. قال تعالى: (يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)(النمل:10)، وقوله تعالى: (يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ)(القصص:31).
وظاهر الحال: أن ثمة مفاجأة إستفزت النبي موسى (عليه السلام) فأظهر تخوّفاً مؤقتا كردّ فعل طبيعي في البشر. ومثل ذلك حصل للنبي داود (عليه السلام) كما في قوله تعالى: (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ)(ص:22).
إذن هو ليس الخوف المذموم بل هو مجرد جفلة بسبب أمر غريب طارئ، خوف مبرّأ من الضعف والنقص، فمقام الأنبياء أسمى من أن تخدشه منقصة تساويهم بالعامة من الناس.
وهناك الخوف الذي يتساوى فيه الأعم والأغلب من الناس هو الخوف من غضب الطبيعة – حسب التعبير الشائع – وغلط الجبارين، والبلاء الإلهي في قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ…)(البقرة:155)، وجلَّ ذلك الخوف إن لم يكن كلّه لا يدخل في جملة الخوف المذموم.
أمّا الخوف المندوب له والمطلوب تجسيده في القول والعمل فهو الخوف من الله جل جلاله وكلما ارتفعت درجته يزداد العبد بفعله كرامة وتقوى و(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات :13).
بقي أن أقف عند الآية الكريمة التي كانت دافعاً لتناول هذا الموضوع، ليس من باب التعريض أو التشهير بل جرياً مع التفاسير القرآنية والحوادث التاريخية والوقوف مع المنطق في قوله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا…)(التوبة:40).
هذه الحادثة أعطاها القرآن الكريم حيّزاً من اهتمامه، وهي بهذه الحالة لا يمكن أن تكون مجرد خبرٍ خالٍ من غرض بل وغرض جوهري يرقى إلى درجة التوثيق في كتاب الله الخالد القرآن المجيد. فقوله تعالى 🙁 إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ) أي لا تخف.
واختلف المتتبعون في نوع الخوف هذا وقد كان خوفاً واضطراباً ظاهراً بحيث شاهد الرسول (صلى الله عليه وآله) آثارَه فقال: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا). فهل كان خوفاً على حياته أو حياة النبي خاصة أو حياتيهما معاً؟ وهل كان ذلك الخوف بفعل المفاجأة عند اقتراب العدو منهما ليكون خوفاً طارئاً طبيعياً، أو أنّه من الخوف الذي تكرر حصوله في مناسبات متتالية في معارك الإسلام الكبرى ومنها: معركة أُحد والخندق وخيبر وحُنين، وكان فيهن الخوف والفرار يكاد أن يكون عاماً عدا ثلّة من أصحاب الإيمان الخالص، ومع ذلك لم يهتم القرآن بذكر من خاف وجبن في تلك الوقائع إلّا بإشارة عابرة كقوله تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(التوبة:25).
وإذا عدَّ بعضهم هذه الحادثة فضيلة (للصاحب) الخائف فقد ذهب البعض الآخر إلى أن الله تبارك وتعالى أرادها فقرة من الفقرات التي سوف تدان بها الأمّة عند مخالفتها للإرادة التي كلّفت الوحي النزول بآية التبليغ(6) ولفت نظرها إلى صحة اختيار السماء لمن يخلف الرسول (صلى الله عليه وآله).
وهنا تكمن أهمية توثيق هذه الحادثة بالذات وتخصيص المعني بها لأمرٍ مستقبلي سوف يحصل وهو بعلم الله واقع، إنّه أمر المفاضلة التي اعتمدها مؤتمر السقيفة باختيار من يجوز عليه الخوف – وهو ضعف على كل حال – على من لا يعرف الخوف في حياته مطلقًا معتمداً إيمانًا محضاً عبّر عنه (صلى الله عليه وآله) بقوله: (لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً )(7).
وهكذا يتداعى منطق المقارنة فكيف بمنطق التفضيل، بل هكذا يصبح اجتماع الإيمان المحض والخوف المخلّ مخالفاً للحكمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- ابن منظور / لسان العرب – مادة أمن 1 : 224. 2- الميزان في تفسير القرآن 18 : 332. 3- ابن شهرآشوب / مناقب آل أبي طالب 1 : 183. 4- الطبري / تاريخ الطبري5 : 407 – 408. 5- علي الشرقي / الألواح التاريخية ص 156 – 157. 6- (وقوله تعالى: (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أي على رسول الله (ص) حصراً بدليل عود الضمائر الواردة في الآية الشريفة كلها على النبي ولا معنى لتخصيص واحد منها لغيره. 7- ابن شهرآشوب / مناقب آل أبي طالب 2 : 38.