لا يمكن أن يشك أحد أن القرب من الله تعالى هو أحد بل أهم مقومات تحقيق الاطمئنان النفسي، بل إن الدراسات والبحوث النفسية الجديدة أكدت في الكثير من نتائجها أن للعبادة دورًا مهمًا وحيويًا في إعطاء سمة الاستقرار النفسي والهدوء الوجداني للأفراد.
ولا بد من بيان أن الجانب السيكولوجي (النفسي) للإنسان شأنه شأن الجانب البيولوجي يتعرض إلى علل وتوعك واضطراب وأن الأمراض النفسية تكاد تكون أخطر من الأمراض الجسدية لأسباب عديدة يطول المقام لذكرها هنا، وأكتفي ببيان أن هناك العديد من الأمراض الجسدية ذات منشأ نفسي، وتأتي خطورة المرض النفسي أنه لا يؤثر على الشخص نفسه بل يترك تأثيره الجانبي على الآخرين، أضف إلى ذلك أن الأمراض النفسية تحتاج إلى وقت طويل الأمد للعلاج.
فمثلما وجهنا الله تعالى إلى الكثير من الأحكام الشرعية الفقهية التي إن التزم بها الإنسان حفظت صحته من الأمراض والأوبئة، نرى أن البناء النفسي السليم للمسلم أخذته السماء بعين الاعتبار ووجهت إلى حفظه وصيانته مما يعتريه من خلل واضطراب ووجل، قال تعالى:(الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد:28).
ويمكن القول أن القرب من الله تعالى يجلي هموم الإنسان وآلامه وأوجاعه ويؤكد للإنسان ذاته الضائعة في خضم الدنيا المليئة بالماديات التي لوثت فطرته، وبالعودة والرجوع إلى الله تعالى تستقر الأنفس وتهدأ الذات وتذهب الأدران وتتهذب وتسمو الأرواح وتنشرح الصدور، ومن وسائل القرب إلى الله والإيمان بقدرته في إنقاذ الفرد وحفظه من موبقات الدنيا ومخاوفها هو الدعاء.
وليس من شك في أن الدعاء احتل مكانة مرموقة في خصوصيات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليه السلام) وأن الصحيفة السجادية من أبرز كتب الدعاء، بل إنها ميراث أكبر أورثه الإمام السجاد علي بن الحسين (عليه السلام) إلى شيعته ومواليه وإلى المسلمين عامة.
المتصفح لهذه الصحيفة المباركة المقدسة يراها قد نظمت بإطار تربوي ونفسي وأن مبدعها ليس أنساناً عاديا، ففي طياتها بناء للنفس الإنسانية فهي أتقنت هندسة صناعة الإنسان وبناء ذاته وتحقيق سلامته من قاذورات الذنوب والابتعاد عن الله تعالى، فكأن هم الإمام (عليه السلام) في أدعيته هو الشغل الشاغل له (عليه السلام) إيماناً واعتقاداً بأهمية الدعاء يتقرب به العبد إلى ربه ويصلح به سريرته ويكسب سلامة نفسه .
وفيما يأتي أهم المرتكزات الأساسية التي تبنتها الصحيفة السجادية المقدسة في مجال البناء النفسي السليم للفرد المسلم :
1. لقد نجح الإمام السجاد (عليه السلام) في صحيفته المقدسة أن يعيد النفوس الضالة إلى الله الذي لا يمكن للإنسان أن يحقق السعادة التي ينشدها في الدنيا والآخرة إلاّ بالرجوع والرغبة إليه والشعور بوجوده جلت قدرته، ومن دعائه في طلب الحوائج:
(فَقَصَدْتُكَ يا إلهِي بِالرَّغْبَةِ، وَأَوْفَدْتُ عَلَيْكَ رَجَائِي بِالثِّقَةِ بِكَ، وَعَلِمْتُ أَنَّ كَثِيرَ مَا أَسْأَلُكَ يَسِيرٌ فِي وُجْدِكَ، وَأَنَّ خَطِيرَ مَا أَسْتَوْهِبُكَ حَقِيرٌ فِيْ وُسْعِكَ، وَأَنَّ كَرَمَكَ لاَ يَضِيقُ عَنْ سُؤَال أحَد، وَأَنَّ يَدَكَ بِالْعَطايا أَعْلَى مِنْ كُلِّ يَد. أللَهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاحْمِلْنِي بِكَرَمِكَ عَلَى التَّفَضُّلِ، وَلاَ تَحْمِلْنِي بِعَدْلِكَ عَلَى الاسْتِحْقَاقِ، فَما أَنَا بِأَوَّلِ رَاغِبِ رَغِبَ إلَيْكَ فَأَعْطَيْتَهُ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْمَنْعَ، وَلاَ بِأَوَّلِ سَائِل سَأَلَكَ فَأَفْضَلْتَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الْحِرْمَانَ…)(1).
2. حرص الإمام السجاد (عليه السلام) على أن تكون أدعيته المباركة منوعة وشاملة لكثير من المواقف الدينية والدنيوية فنجد أن هناك أدعية مخصوصة لأوقات معينة من جانب، ونرى أن هناك أدعية خاصة لمواقف متنوعة لا تخلو منها حياة الإنسان، استشعارًا منه (عليه السلام) بأن لكل ظرف دعاءً خاصاً به يركن إليه الفرد المسلم معتمدًا فيه على الله تعالى، والذي يراجع الصحيفة السجادية المقدسة يجد ما يريد من أدعية متنوعة متعددة.
3. اتسمت الأدعية المباركة في الصحيفة السجادية بكونها الأداة التي من خلالها يحقق الداعي قربه من الله تعالى لأنها لم تكن أدعية عابرة بل كانت أدعية ممنهجة وعلمية وموضوعية ومرتبة أخذ فيها الإمام السجاد (عليه السلام) بكل متطلبات العبودية الحقة لله جلت قدرته وأوسمها بسمة المعصوم من حيث الحب الإلهي الحقيقي الصادق وذل العبد المطيع لله سبحانه وتعالى، فالمتصفح لأسطر هذه الصحيفة المقدسة يشعر أنه قريب من الله تعالى ولا تحجزه الحواجز ولا تحجبه الحجب،
وكلما اقترب العبد إلى مولاه كلما استبشر وفرح واطمأنت نفسه وهدأت جوارحه وسكنت آلامه وأوجاعه وشعر برضا مولاه عنه، ومن دعائه (عليه السلام) في التحميد لله عز وجل:
(وَالْحَمْد للهِ بِكُلِّ مَا حَمِدَهُ بِهِ أدْنَى مَلائِكَتِهِ إلَيْهِ وَأَكْرَمُ خَلِيقَتِهِ عَلَيْهِ، وَأرْضَى حَامِدِيْهِ لَدَيْهِ، حَمْداً يَفْضُلُ سَآئِرَ الْحَمْدِ كَفَضْلِ رَبِّنا عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ. ثُمَّ لَهُ الْحَمْدُ مَكَانَ كُلِّ نِعْمَة لَهُ عَلَيْنَا وَعَلى جَمِيعِ عِبَادِهِ الْمَاضِينَ وَالْبَاقِينَ عَدَدَ مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ مِنْ جَمِيعِ الأشْيَآءِ، وَمَكَانَ كُلِّ وَاحِدَة مِنْهَا عَدَدُهَا أَضْعافَاً مُضَاعَفَةً أَبَداً سَرْمَداً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَمْداً لاَ مُنْتَهَى لِحَدِّهِ وَلا حِسَابَ لِعَدَدِهِ وَلاَ مَبْلَغَ لِغَايَتِهِ وَلا انْقِطَاعَ لأمَدِهِ، حَمْداً يَكُونُ وُصْلَةً إلَى طَاعَتِهِ وَعَفْوِهِ، وَسَبَباً إلَى رِضْوَانِهِ وَذَرِيعَةً إلَى مَغْفِرَتِهِ وَطَرِيقاً إلَى جَنَّتِهِ، وَخَفِيْراً مِنْ نَقِمَتِهِ، وَأَمْناً مِنْ غَضَبِهِ، وَظَهِيْراً عَلَى طَاعَتِهِ، وَحَاجِزاً عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَعَوْناً عَلَى تَأدِيَةِ حَقِّهِ وَوَظائِفِهِ، حَمْداً نَسْعَدُ بِهِ فِي السُّعَدَاءِ مِنْ أَوْلِيَآئِهِ وَنَصِيرُ بِهِ فِي نَظْمِ الشُّهَدَاءِ بِسُيُوفِ أَعْدَائِهِ إنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيدٌ )(2).
4. قيدت الصحيفة السجادية بمضامين أدعيتها المباركة المادية البحتة التي يعيشها الإنسان وكشفت الحقيقة الصادقة بضرورة الاتكال على الله سبحانه وتعالى في مجالات الحياة كافة، وفي الوقت نفسه أرادت هذه الأدعية أن تُعلِّم الإنسان أن يعتمد على السماء في كل حركاته وسكناته بكونها المصدر المطلق الذي بيده نواصي الأمور لأنها المسدِّد الوحيد لخطى الإنسان في الوجود، ومن دعائه في الإلحاح:
(أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَأَنْ تُغْنِيَنِي عَنْ كُلِّ شَيْء بِعِبادَتِكَ، وَأَنْ تُسَلِّيَ نَفْسِيْ عَنِ الدُّنْيَا بِمَخَافَتِكَ، وَأَنْ تُثْنِيَنِي بِالْكَثِيْرِ مِنْ كَرَامَتِكَ بِرَحْمَتِكَ، فَإلَيْكَ أَفِرُّ، ومِنْكَ أَخَافُ، وَبِكَ أَسْتَغِيثُ، وَإيَّاكَ أَرْجُو، وَلَكَ أَدْعُو، وَإلَيْكَ أَلْجَأُ، وَبِكَ أَثِقُ، وَإيَّاكَ أَسْتَعِينُ، وَبِكَ أُؤمِنُ، وَعَلَيْكَ أَتَوَكَّلُ، وَعَلَى جُودِكَ وَكَرَمِكَ أَتَّكِلُ …)(3).
5. أكد الإمام السجاد (عليه السلام) في أدعيته على أهمية الجانب ( الديني أو الإسلامي ) وهو جزء من الجانب العاطفي في حياة الإنسان أو ما يسمى بالجانب الوجداني من حيث بنائه أو إيقاظه، فالعديد من الدراسات النفسية الآن ترى أن الجانب الوجداني للإنسان يجب أن يفعّل شأنه شأن الجانب العقلي أو غيره من الجوانب، وأنه كلما زادت وجدانية الإنسان زادت إنسانيته وسمت أخلاقه وتهذبت طباعه وصفت نفسه. ومن دعائه (عليه السلام) في التحميد لله عز وجل:
(وَالحَمْدُ لِلّهِ الذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ عَلى ما أبْلاهُمْ مِنْ مِنَنِهِ المُتَتابِعَةِ؛ وَأسْبَغَ عَلَيهِمْ مِنْ نِعَمِهِ المُتَظاهِرَةِ؛ لَتَصَرَّفُوا في مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ؛ وَتَوَسَّعُوا في رِزْقِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ، وَلَوْ كانُوا كَذلِكَ لَخَرَجُوا مِنُ حُدُودِ الإِنْسانِيَّةِ إلى حَدِّ البَهيمِيَّةِ. فَكانُوا كَما وَصَفَ في مُحْكَمِ كِتابِهِ: (إِنْ هُمْ إلاّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبيلاً)(الفرقان:44)(4).
6. إن الإمام (عليه السلام) أراد بمجمل أدعيته المباركة أن يحقق التوازن النسبي بين الحالة النفسية والحالة الجسدية، فالحالة النفسية والهموم مصدر لكثير من الأمراض الجسدية، فكلما هدأت النفس واستقرت أثرت إيجابا على الجسم بأجمعه، فالإنسان المؤمن يبتعد عن كل المثيرات الخارجية التي تسلب منه نعمة الصفاء الذهني والروحي وتعسر نفسه وتضيق صدره وتعذب أفكاره وتزيد هواجسه. ومن دعائه في استكشاف الهموم:
(يَا فَارِجَ الْهَمِّ وَكَاشِفَ الغَمِّ، يَا رَحْمنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَافْرُجْ هَمِّيَ، وَاكْشِفْ غَمِّيَ، يَا وَاحِدُ يَا أَحَدُ، يَا صَمَدُ، يَامَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، اِعْصِمْنِي وَطَهِّرْنِي، وَاذْهَبْ بِبَلِيَّتِي)(5).