Take a fresh look at your lifestyle.

أدعية الصحيفة السجادية والبناء النفسي السليم

0 834

 

            لا يمكن أن يشك أحد أن القرب من الله تعالى هو أحد بل أهم مقومات تحقيق الاطمئنان النفسي، بل إن الدراسات والبحوث النفسية الجديدة أكدت في الكثير من نتائجها أن للعبادة دورًا مهمًا وحيويًا في إعطاء سمة الاستقرار النفسي والهدوء الوجداني للأفراد.

           ولا بد من بيان أن الجانب السيكولوجي (النفسي) للإنسان شأنه شأن الجانب البيولوجي يتعرض إلى علل وتوعك واضطراب وأن الأمراض النفسية تكاد تكون أخطر من الأمراض الجسدية لأسباب عديدة يطول المقام لذكرها هنا، وأكتفي ببيان أن هناك العديد من الأمراض الجسدية ذات منشأ نفسي، وتأتي خطورة المرض النفسي أنه لا يؤثر على الشخص نفسه بل يترك تأثيره الجانبي على الآخرين، أضف إلى ذلك أن الأمراض النفسية تحتاج إلى وقت طويل الأمد للعلاج.

            فمثلما وجهنا الله تعالى إلى الكثير من الأحكام الشرعية الفقهية التي إن التزم بها الإنسان حفظت صحته من الأمراض والأوبئة، نرى أن البناء النفسي السليم للمسلم أخذته السماء بعين الاعتبار ووجهت إلى حفظه وصيانته مما يعتريه من خلل واضطراب ووجل، قال تعالى:(الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد:28).

            ويمكن القول أن القرب من الله تعالى يجلي هموم الإنسان وآلامه وأوجاعه ويؤكد للإنسان ذاته الضائعة في خضم الدنيا المليئة بالماديات التي لوثت فطرته، وبالعودة والرجوع إلى الله تعالى تستقر الأنفس وتهدأ الذات وتذهب الأدران وتتهذب وتسمو الأرواح وتنشرح الصدور، ومن وسائل القرب إلى الله والإيمان بقدرته في إنقاذ الفرد وحفظه من موبقات الدنيا ومخاوفها هو الدعاء.

             وليس من شك في أن الدعاء احتل مكانة مرموقة في خصوصيات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليه السلام) وأن الصحيفة السجادية من أبرز كتب الدعاء، بل إنها ميراث أكبر أورثه الإمام السجاد علي بن الحسين (عليه السلام) إلى شيعته ومواليه وإلى المسلمين عامة.

               المتصفح لهذه الصحيفة المباركة المقدسة يراها قد نظمت بإطار تربوي ونفسي وأن مبدعها ليس أنساناً عاديا، ففي طياتها بناء للنفس الإنسانية فهي أتقنت هندسة صناعة الإنسان وبناء ذاته وتحقيق سلامته من قاذورات الذنوب والابتعاد عن الله تعالى، فكأن هم الإمام (عليه السلام) في أدعيته هو الشغل الشاغل له (عليه السلام) إيماناً واعتقاداً بأهمية الدعاء يتقرب به العبد إلى ربه ويصلح به سريرته ويكسب سلامة نفسه .

             وفيما يأتي أهم المرتكزات الأساسية التي تبنتها الصحيفة السجادية المقدسة في مجال البناء النفسي السليم للفرد المسلم :

   1. لقد نجح الإمام السجاد (عليه السلام) في صحيفته المقدسة أن يعيد النفوس الضالة إلى الله الذي لا يمكن للإنسان أن يحقق السعادة التي ينشدها في الدنيا والآخرة إلاّ بالرجوع والرغبة إليه والشعور بوجوده جلت قدرته، ومن دعائه في طلب الحوائج:

              (فَقَصَدْتُكَ يا إلهِي بِالرَّغْبَةِ، وَأَوْفَدْتُ عَلَيْكَ رَجَائِي بِالثِّقَةِ بِكَ، وَعَلِمْتُ أَنَّ كَثِيرَ مَا أَسْأَلُكَ يَسِيرٌ فِي وُجْدِكَ، وَأَنَّ خَطِيرَ مَا أَسْتَوْهِبُكَ حَقِيرٌ فِيْ وُسْعِكَ، وَأَنَّ كَرَمَكَ لاَ يَضِيقُ عَنْ سُؤَال أحَد، وَأَنَّ يَدَكَ بِالْعَطايا أَعْلَى مِنْ كُلِّ يَد. أللَهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاحْمِلْنِي بِكَرَمِكَ عَلَى التَّفَضُّلِ، وَلاَ تَحْمِلْنِي بِعَدْلِكَ عَلَى الاسْتِحْقَاقِ، فَما أَنَا بِأَوَّلِ رَاغِبِ رَغِبَ إلَيْكَ فَأَعْطَيْتَهُ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْمَنْعَ، وَلاَ بِأَوَّلِ سَائِل سَأَلَكَ فَأَفْضَلْتَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الْحِرْمَانَ…)(1).

   2. حرص الإمام السجاد (عليه السلام) على أن تكون أدعيته المباركة منوعة وشاملة لكثير من المواقف الدينية والدنيوية فنجد أن هناك أدعية مخصوصة لأوقات معينة من جانب، ونرى أن هناك أدعية خاصة لمواقف متنوعة لا تخلو منها حياة الإنسان، استشعارًا منه (عليه السلام) بأن لكل ظرف دعاءً خاصاً به يركن إليه الفرد المسلم معتمدًا فيه على الله تعالى، والذي يراجع الصحيفة السجادية المقدسة يجد ما يريد من أدعية متنوعة متعددة.

   3. اتسمت الأدعية المباركة في الصحيفة السجادية بكونها الأداة التي من خلالها يحقق الداعي قربه من الله تعالى لأنها لم تكن أدعية عابرة بل كانت أدعية ممنهجة وعلمية وموضوعية ومرتبة أخذ فيها الإمام السجاد (عليه السلام) بكل متطلبات العبودية الحقة لله جلت قدرته وأوسمها بسمة المعصوم من حيث الحب الإلهي الحقيقي الصادق وذل العبد المطيع لله سبحانه وتعالى، فالمتصفح لأسطر هذه الصحيفة المقدسة يشعر أنه قريب من الله تعالى ولا تحجزه الحواجز ولا تحجبه الحجب،

            وكلما اقترب العبد إلى مولاه كلما استبشر وفرح واطمأنت نفسه وهدأت جوارحه وسكنت آلامه وأوجاعه وشعر برضا مولاه عنه، ومن دعائه (عليه السلام) في التحميد لله عز وجل:

           (وَالْحَمْد للهِ بِكُلِّ مَا حَمِدَهُ بِهِ أدْنَى مَلائِكَتِهِ إلَيْهِ وَأَكْرَمُ خَلِيقَتِهِ عَلَيْهِ، وَأرْضَى حَامِدِيْهِ لَدَيْهِ، حَمْداً يَفْضُلُ سَآئِرَ الْحَمْدِ كَفَضْلِ رَبِّنا عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ. ثُمَّ لَهُ الْحَمْدُ مَكَانَ كُلِّ نِعْمَة لَهُ عَلَيْنَا وَعَلى جَمِيعِ عِبَادِهِ الْمَاضِينَ وَالْبَاقِينَ عَدَدَ مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ مِنْ جَمِيعِ الأشْيَآءِ، وَمَكَانَ كُلِّ وَاحِدَة مِنْهَا عَدَدُهَا أَضْعافَاً مُضَاعَفَةً أَبَداً سَرْمَداً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَمْداً لاَ مُنْتَهَى لِحَدِّهِ وَلا حِسَابَ لِعَدَدِهِ وَلاَ مَبْلَغَ لِغَايَتِهِ وَلا انْقِطَاعَ لأمَدِهِ، حَمْداً يَكُونُ وُصْلَةً إلَى طَاعَتِهِ وَعَفْوِهِ، وَسَبَباً إلَى رِضْوَانِهِ وَذَرِيعَةً إلَى مَغْفِرَتِهِ وَطَرِيقاً إلَى جَنَّتِهِ، وَخَفِيْراً مِنْ نَقِمَتِهِ، وَأَمْناً مِنْ غَضَبِهِ، وَظَهِيْراً عَلَى طَاعَتِهِ، وَحَاجِزاً عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَعَوْناً عَلَى تَأدِيَةِ حَقِّهِ وَوَظائِفِهِ، حَمْداً نَسْعَدُ بِهِ فِي السُّعَدَاءِ مِنْ أَوْلِيَآئِهِ وَنَصِيرُ بِهِ فِي نَظْمِ الشُّهَدَاءِ بِسُيُوفِ أَعْدَائِهِ إنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيدٌ )(2).

   4. قيدت الصحيفة السجادية بمضامين أدعيتها المباركة المادية البحتة التي يعيشها الإنسان وكشفت الحقيقة الصادقة بضرورة الاتكال على الله سبحانه وتعالى في مجالات الحياة كافة، وفي الوقت نفسه أرادت هذه الأدعية أن تُعلِّم الإنسان أن يعتمد على السماء في كل حركاته وسكناته بكونها المصدر المطلق الذي بيده نواصي الأمور لأنها المسدِّد الوحيد لخطى الإنسان في الوجود، ومن دعائه في الإلحاح:

           (أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَأَنْ تُغْنِيَنِي عَنْ كُلِّ شَيْء بِعِبادَتِكَ، وَأَنْ تُسَلِّيَ نَفْسِيْ عَنِ الدُّنْيَا بِمَخَافَتِكَ، وَأَنْ تُثْنِيَنِي بِالْكَثِيْرِ مِنْ كَرَامَتِكَ بِرَحْمَتِكَ، فَإلَيْكَ أَفِرُّ، ومِنْكَ أَخَافُ، وَبِكَ أَسْتَغِيثُ، وَإيَّاكَ أَرْجُو، وَلَكَ أَدْعُو، وَإلَيْكَ أَلْجَأُ، وَبِكَ أَثِقُ، وَإيَّاكَ أَسْتَعِينُ، وَبِكَ أُؤمِنُ، وَعَلَيْكَ أَتَوَكَّلُ، وَعَلَى جُودِكَ وَكَرَمِكَ أَتَّكِلُ …)(3).

   5. أكد الإمام السجاد (عليه السلام) في أدعيته على أهمية الجانب ( الديني أو الإسلامي ) وهو جزء من الجانب العاطفي في حياة الإنسان أو ما يسمى بالجانب الوجداني من حيث بنائه أو إيقاظه، فالعديد من الدراسات النفسية الآن ترى أن الجانب الوجداني للإنسان يجب أن يفعّل شأنه شأن الجانب العقلي أو غيره من الجوانب، وأنه كلما زادت وجدانية الإنسان زادت إنسانيته وسمت أخلاقه وتهذبت طباعه وصفت نفسه. ومن دعائه (عليه السلام) في التحميد لله عز وجل:

           (وَالحَمْدُ لِلّهِ الذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ عَلى ما أبْلاهُمْ مِنْ مِنَنِهِ المُتَتابِعَةِ؛ وَأسْبَغَ عَلَيهِمْ مِنْ نِعَمِهِ المُتَظاهِرَةِ؛ لَتَصَرَّفُوا في مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ؛ وَتَوَسَّعُوا في رِزْقِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ، وَلَوْ كانُوا كَذلِكَ لَخَرَجُوا مِنُ حُدُودِ الإِنْسانِيَّةِ إلى حَدِّ البَهيمِيَّةِ. فَكانُوا كَما وَصَفَ في مُحْكَمِ كِتابِهِ: (إِنْ هُمْ إلاّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبيلاً)(الفرقان:44)(4).

   6. إن الإمام (عليه السلام) أراد بمجمل أدعيته المباركة أن يحقق التوازن النسبي بين الحالة النفسية والحالة الجسدية، فالحالة النفسية والهموم مصدر لكثير من الأمراض الجسدية، فكلما هدأت النفس واستقرت أثرت إيجابا على الجسم بأجمعه، فالإنسان المؤمن يبتعد عن كل المثيرات الخارجية التي تسلب منه نعمة الصفاء الذهني والروحي وتعسر نفسه وتضيق صدره وتعذب أفكاره وتزيد هواجسه. ومن دعائه في استكشاف الهموم:

           (يَا فَارِجَ الْهَمِّ وَكَاشِفَ الغَمِّ، يَا رَحْمنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَافْرُجْ هَمِّيَ، وَاكْشِفْ غَمِّيَ، يَا وَاحِدُ يَا أَحَدُ، يَا صَمَدُ، يَامَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، اِعْصِمْنِي وَطَهِّرْنِي، وَاذْهَبْ بِبَلِيَّتِي)(5).

 


   7. إن المتصفح لأدعية الإمام السجاد (عليه السلام)يرى فيها مبدأ الأمل المشرق والتفاؤل في حياة الإنسان فتكون لديه حالة الاستبشار والانشراح والرجاء والفرج على عكس اليأس والقنوط والخوف والتي هي سمات سوداوية ومصدر قلق وانزعاج يقوض البناء النفسي السليم للفرد ويجعله تائها في أمواج الحياة المتلاطمة، ومن دعاء له (عليه السلام) في الاعتراف:

           (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَهَبْ لِي مَا يَجبُ عَلَيَّ لَكَ، وَعَافِنِي مِمَّا أَسْتَوْجِبُهُ مِنْكَ، وَأجِرْنِي مِمَّا يَخَافُهُ أَهْلُ الإساءة فَإنَّكَ مَلِيءٌ بِالْعَفْوِ، مَرْجُوٌّ لِلْمَغْفِرَةِ، مَعْرُوفٌ بِالتَّجَاوُزِ، لَيْسَ لِحَاجَتِي مَطْلَبٌ سِوَاكَ، وَلا لِذَنْبِي غَافِرٌ غَيْرُكَ، حَاشَاكَ وَلاَ أَخَافُ عَلَى نَفْسِي إلاّ إيَّاكَ، إنَّكَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ. صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاقْض حَاجَتِي وَأَنْجِحْ طَلِبَتِي، وَاغْفِرْ ذَنْبِي، وَآمِنْ خَوْفَ نَفْسِيْ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ، وَذلِكَ عَلَيْكَ يَسِيرٌ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)(6).

   8. كان الإمام السجاد (عليه السلام) حاذقًا في تربية المجتمع آنذاك على معالم تربوية ونفسية إسلامية أصيلة وكانت هذه التربية بمثابة الإعلان عن العودة إلى الخط الرسالي الأصيل والابتعاد بالدين عن الأدناس التي حاولت الدولة الحاكمة إلحاقها به. والتي جعلت المجتمع مصاباً بداء الذل والخنوع لمن هو أقوى منه، وتخليصه في الوقت نفسه مما يعانيه من المهانة والاستعباد، ومن دعائه لنفسه (عليه السلام) ولأهل ولايته:

            (اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْفِنا حَدَّ نَوآئِبِ الزَّمانِ؛ وَشَرَّ مَصائدِ الشَّيْطانِ، وَمَرارَة صَوْلَةِ السُّلْطانِ، اللّهُمَّ إنَّما يَكْتَفي المُكْتَفُونَ بِفَضْلِ قُوَّتِكَ…)(7).

   9. أراد الإمام (عليه السلام) بمنظومة أدعيته المباركة أن يربي المجتمع الإسلامي تربية حقيقية صادقة ويبني أخلاقه بأطر إسلامية صحيحة في جميع مناحي الحياة حتى تصبح جزءاً من سلوكيات الفرد والمجتمع وذلك من خلال التأكيد على الأخلاق الفاضلة الحميدة إيماناً منه (عليه السلام) أن المجتمع لا يمكن أن يتقدم بالابتعاد عن الله وعن تعاليم الإسلام الحنيف، ومن دعائه (عليه السلام) في مكارم الأخلاق :

           (وَأَغْنِنِي وَأَوْسِعْ عَلَىَّ فِي رِزْقِكَ، وَلاَ تَفْتِنِّي بِالنَّظَرِ، وَأَعِزَّنِي، وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ، وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلاَ تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ، وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيَّ الْخَيْرَ، وَلا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ، وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الأَخْلاَقِ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ. اللَّهُمَّ صَـلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَلا تَـرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَـةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِرَاً إلاّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا)(8).

   10. من الأمور النفسية المهمة التي اعتمدها الإمام (عليه السلام) هو تعويد الفرد المسلم على مبدأ الحاجة إلى الله تعالى، وأن الإنسان مخلوق ضعيف لا يملك شيئاً وليس له مقدرات الأمور من دون الله جلت قدرته، إذ أن هذا الشعور هو الكفيل أن يخلص الإنسان من الغرور والتكبر والخيلاء التي هي مصدر للكثير من الآفات النفسية، وكان من دعائه (عليه السلام) في الرِّضا إذا نظر إلى أصحابِ الدُّنيا:

            (وَاعْصِمْنِي مِن أنْ أظُنَّ بِذِي عَدْم خَسَاسَةً، أَوْ أَظُنَّ بِصَاحِبِ ثَرْوَة فَضْلاً، فَإنَّ الشَّرِيفَ مَنْ شَرَّفَتْهُ طَاعَتُكَ، وَالْعَزِيزَ مَنْ أَعَزَّتْهُ عِبَادَتُكَ. فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَمَتِّعْنَا بِثَرْوَة لاَ تَنْفَدُ، وَأَيِّدْنَا بِعِزٍّ لاَ يُفْقَدُ وَأَسْرِحْنَا فِيْ مُلْكِ الأَبَدِ إنَّكَ الْوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كُفُواً أَحَدٌ )(9).

   11. تعدّ أدعية الصحيفة السجادية المباركة خير وسيلة لتهذيب النفس وكبح جماحها بما حوته من مواعظ ومكارم الأخلاق ولجوء إلى الله تعالى، فكانت عبارة عن برنامج نفسي يشعر الفرد بعده بالارتياح عندما تتصفح عيناه أي دعاء من هذه الأدعية المباركة، وفي دعائه لعرفة يذكر الإمام (عليه السلام):

            (وَنَجِّنِيْ مِنْ غَمَرَاتِ الْفِتْنَةِ، وَخَلِّصْنِي مِنْ لَهَوَاتِ الْبَلْوى، وَأجِرْنِي مِنْ أخْذِ الأمْلاءِ، وَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ عَدُوٍّ يُضِلُّنِي، وَهَوىً يُوبِقُنِي، وَمَنْقَصَةٍ تَرْهَقُنِي ..)(10).

   12. جاءت أدعية الإمام السجاد (عليه السلام) تحمل في طياتها عبارات دقيقة ما أن يتمعن بها الفرد حتى يفيض قلبه قبل عينيه بالبكاء، وهذا ما أكدته الدراسات النفسية الحديثة إذ رأت العديد منها أن البكاء يعد وسيلة لعلاج الكثير من الأمراض النفسية فضلًا عن أن البكاء من خشية الله له منزلة رفيعة عند الباري جلت قدرته. ومن دعائه (عليه السلام) في الاعتراف وطلب التوبة إلى الله تعالى:

            (لاَ أَيْأَسُ مِنْكَ وَقَدْ فَتَحْتَ لِيَ بَابَ التَّوْبَةِ إلَيْكَ، بَلْ أَقُولُ مَقَالَ الْعَبْدِ الذَّلِيلِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ الْمُسْتَخِفِّ بِحُرْمَةِ رَبِّهِ الَّذِي عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ فَجَلَّتْ وَأَدْبَرَتْ أَيّامُهُ فَوَلَّتْ حَتَّى إذَا رَأى مُدَّةَ الْعَمَلِ قَدِ انْقَضَتْ وَغَايَةَ الْعُمُرِ قَدِ انْتَهَتْ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ لا مَحيصَ لَهُ مِنْكَ، وَلاَ مَهْرَبَ لَهُ عَنْكَ تَلَقَّاكَ بِالإنَابَةِ، وَأَخْلَصَ لَكَ التَّوْبَةَ، فَقَامَ إلَيْكَ بِقَلْبِ طَاهِر نَقِيٍّ ثُمَّ دَعَاكَ بِصَوْت حَائِل خَفِيٍّ، قَدْ تَطَأطَأَ لَكَ فَانْحَنى، وَنَكَّسَ رَأسَهُ فَانْثَنَى، قَدْ أَرْعَشَتْ خَشْيَتُهُ رِجْلَيْهِ، وَغَرَّقَتْ دُمُوعُهُ خَدَّيْهِ، يَدْعُوكَ بِيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَيَا أَرْحَمَ مَنِ انْتَابَهُ الْمُسْتَرْحِمُونَ، وَيَا أَعْطَفَ مَنْ أَطَافَ بِهِ الْمُسْتَغْفِرُونَ)(11).

   13. تمكنت أدعية الإمام السجاد (عليه السلام) في الصحيفة السجادية المباركة من القضاء على أسباب البعد من الله تعالى والتي هي مصدر لكل الاضطرابات النفسية والتوهم والهواجس والأنكاد المختلفة، إذ خلقت حالة من الرضا وقبول الفرد المسلم بالواقع الذي يعيشه والذي يوجد فيه انطلاقًا من الإيمان بالقضاء والقدر وتيقناً بوجود الخالق المدبر للأمور والمسدد للصواب بمنه ولطفه، وأن كل ما يمر به الإنسان من ظروف هي بعين الله تعالى وهو مفرج الهم وكاشف الكرب. ومن دعاء للإمام السجاد (عليه السلام) إذا عَرَضت له مهمّة أو نزلَتْ مدلهمة وعند الكرب:

            (يَا مَنْ تُحَلُّ بِهِ عُقَدُ الْمَكَارِهِ، وَيَا مَنْ يُفْثَأُ بِهِ حَدُّ الشَّدَائِدِ، وَيَا مَنْ يُلْتَمَسُ مِنْهُ الْمَخْرَجُ إلَى رَوْحِ الْفَرَجِ، ذَلَّتْ لِقُدْرَتِـكَ الصِّعَابُ وَتَسَبَّبَتْ بِلُطْفِكَ الأسباب، وَجَرى بِقُدْرَتِكَ الْقَضَاءُ وَمَضَتْ عَلَى إرَادَتِكَ الأشياء، فَهْيَ بِمَشِيَّتِكَ دُونَ قَوْلِكَ مُؤْتَمِرَةٌ، وَبِإرَادَتِكَ دُونَ نَهْيِكَ مُنْزَجِرَةٌ. أَنْتَ الْمَدْعُوُّ لِلْمُهِمَّاتِ، وَأَنْتَ الْمَفزَعُ فِي الْمُلِمَّاتِ، لاَيَنْدَفِعُ مِنْهَا إلاّ مَا دَفَعْتَ، وَلا يَنْكَشِفُ مِنْهَا إلاّ مَا كَشَفْتَ)(12).

   14. إن المتأمل لأدعية الإمام السجاد (عليه السلام)، يجد في جوهرها غاية بعيدة المدى وهي خلق الإنسان المسلم السويّ الذي يستطيع أن يواجه الحياة بكل ما تزدحم به من مشكلات وأن يسير بها مرتبطًا بالله تعالى غير متكبر عن عبادته ولا تنسيه بهارج الدنيا وجود خالق قوي. يقول:

            (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)(غافر:60). ومن دعاء للإمام السجاد (عليه السلام) لنفسه وأهل بيته:

             (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِـهِ وَاجْعَلْ سَلاَمَةَ قُلُوبِنَا فِي ذِكْرِ عَظَمَتِكَ وَفَرَاغَ أبْدَانِنَا فِي شُكْرِ نِعْمَتِكَ وَانْطِلاَقَ أَلْسِنَتِنَا فِي وَصْفِ مِنَّتِكَ. أللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاجْعَلْنَا مِنْ دُعَاتِكَ الدّاعِينَ إلَيْكَ وَهُدَاتِكَ الدَّالّينَ عَلَيْكَ وَمِنْ خَاصَّتِكَ الْخَاصِّينَ لَدَيْكَ يَا أرْحَمَ ألرَّاحِمِينَ)(13).

وختامًا

         نجد أنه من الطبيعي جدًا أن يخطو الإمام السجاد (عليه السلام) خطوات سليمة في تربية المجتمع تربية وجدانية شعورية حقيقية تتناول شخصية الفرد المسلم بصورة متكاملة، ولاسيما أنه (عليه السلام) لديه أوليات البناء السليم للفرد والمجتمع باعتبار الدور الذي أُسند إليه من السماء كونه إمام معصوم مفترض الطاعة، إذ أن التربية الوجدانية عنصر مهم في تحقيق السعادة وتكوين علاقات إيجابية بين أفراد المجتمع.

 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1.الصحيفة السجادية المباركة للإمام زين
العابدين (عليه السلام)/ص71.
2.ن.م/ص28.
3..م/ص305.
4.ن.م/ص24.
5.ن.م/ص389.
6.ن.م:ص70.
7.ن.م/ص45.
8.ن.م/ص100.
9.ن.م/ص181.
10.ن.م/ص266.
11.ن.م/ص68.
12.ن.م/ص54.
13.ن.م/ص46.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.