يحفل القرآن الكريم وأحاديث النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)بصور يوم القيامة التي لها دلالة كبيرة في الترغيب والترهيب بإثارة الانفعالات الوجدانية وإشاعة اللذة النفسية وإجاشة الحياة الكامنة التي تسهم في تشكيل الصور الرائعة والمناظر الشاخصة بتصوير مناظر الجنة وما فيها من نعيم، ومشاهد النار وما فيها من عذاب.
ويبدأ يوم القيامة بالصورة الحسية المسموعة المتكررة، وهي النفخ في الصور، قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ)(يس:51)، فيهلك من في السموات ومن في الأرض إلّا ما شاء الله، ثم تكون نفخة أخرى فيبعث الجميع ويخرجون من قبورهم، قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)(الزمر:68)،
وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (هي ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة القيام لرب العالمين)(١).
فيحشر الناس بها من قبورهم (فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا)(الكهف:99)، أي حشرنا الخلق يوم القيامة كلهم في صعيد واحد)(٢).
ويدل النفخ في الصور على الترهيب الحسي الذي يشمل الخلائق، حيث وُصف يوم القيامة بـ(يوم الوعيد) قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ)(ق:20)، واستعملت الآية الكريمة هذا اللفظ (الوعيد) لترهيب المجرمين من ذلك اليوم بالرغم من أن القيامة تشتمل على الوعد بالخير والوعيد بالشر.
ونجد أن القرآن الكريم قد عبر عن النفخة بألفاظ أُخرى لها الدلالة نفسها، كالصيحة، قال تعالى: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ)(يس:53)، (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ)(ق:42)، والزجرة، قال تعالى: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ)(النازعات:13)، كما عبر عنها بالنقر في الناقور، قال تعالى: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ)(المدثر:8)، وكذلك بالصاخة، قال تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ)(عبس:33).
والقرآن الكريم يعرض لنا صورًا حسِّية مختلفة لحشر الناس يوم القيامة، تُبين كيفية حشر المؤمن والكافر يوم القيامة، فعن حشر المتقين يقول الله تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً)(مريم:85)، وذكر المتقين بلفظ التبجيل، وهو أنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته وخصهم برضوانه وكرامته، وهم كالوفد وهم قادمون على خير موفود اليه، إلى دار كرامته ورضوانه(3)،
وأما عن حشر الكافرين فيصور القرآن الكريم حالهم وهم أذلاء، فاقدون لوظيفة حواسهم ولا يمكنهم الانتفاع بها، لتمثل نوعًا من أنواع العذاب عليهم، قال تعالى: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً)(الإسراء:97)، أي يسحبون على وجوههم إلى النار كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه، والكافر يحشر يوم القيامة على وجهه وهو أعمى وأبكم وأصم، وقيل: المعنى عُميًا عما يسرُّهم، بُكمًا عن التكلم بما ينفعهم، صُمًّا عما يمتعهم، وقد سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كيفية حشر الكافر على وجهه يوم القيامة، فقال: (إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة)4).
وقال تعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا)(طه:102)، (قيل: معناه إنه ازرقت عيونهم من شدة العطش، وقيل: معناه عميًا، كما قال: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً)(الإسراء:97)، كأنها ترى زُرقًا وهي عمي، وقيل: المعنى في (زُرقًا) تشويه الخلق: وجوههم سود وأعينهم زرق)5).
ونجد أن الترهيب الحسي في وصف حال المنكرين للبعث، والمسبوق بالقسم تُعبر عنه الصورة المفزعة والمروّعة، وهي صورة الحشر مع الشياطين، لتنقل السامع إلى عالم غير محدود من الخوف والرعب والفزع، يعجز عن وصفه اللفظ، وتقصر دون بلوغه العبارة، قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا)(مريم:68)، فهم محضرون وأمام أعينهم نار جهنم وهم حولها جاثون على ركبهم، تعبيراً عن الذل والهوان والاحتقار والصغار والخوف والرعب والفزع، فعندما يتكلم عن الظالمين والكافرين فكلامه يمهل ولا يهمل، وأراد أن يقول لهؤلاء المخالفين أن الله غنى عنكم وأعدَّ لكم دار الجزاء في زمن محدود وأجل مسمى، قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ)(إبراهيم:42).
وقد خاطبهم القرآن الكريم وأنبأهم بتأخير الحساب في الدنيا إلى يوم الجزاء والحساب،وأعطاهم فرصة الاغتنام ولكنّهم لم يغتنموا ولم يتوبوا في الحياة الدنيا، فالتصوير القرآني صور الموقف بتدرج فقال تعالى: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ)(الأنبياء:97)، والقرآن الكريم قد قال منذ أيام الرسول الله (صلى الله عليه وآله) اقتربت الساعة غير أن اقتراب الوعد لا يحدد زمناً معيناً فحساب الزمن في تقدير الله غيره في تقدير البشر(6)، قال تعالى: (وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ)(السجدة:5).
ففي يوم الحساب تشخص أبصار الخلائق لظهور الأهوال فلا تغمض عيونهم، من شدة ما يشاهدون من العذاب الذي يغشى وجوههم، قال تعالى: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)(إبراهيم:50)، والتأكيد على حاسة البصر في مواقف القيامة، يعطي بعداً دلالياً على أهمية التصوير الحسي، إذ لا يمكن لأحد أن يتصور شيئًا مالم يره من قبل،