الاعتكاف وهو الاختلاء للعبادة والنسك والاتصال بالخالق جل وعلا أمر موجود في جميع الأديان السماوية وهو في الإسلام بشكله الأكمل.
يحتل الاعتكاف مكانًا مهمًا في المنظومة التربوية في أديان السماء للارتقاء بالمؤمن إلى آفاق أرحب من عالم المادة والناسوت.
الاعتكاف في أديان السماء
تجد مضمون الاعتكاف في الأديان السماوية من عهد إبراهيم وإسماعيل(عليه السلام)، قال تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(البقرة:125).
وتجده في زمان موسى(عليه السلام) في رحلته نحو الله في جبل الطور واعتكافه لأربعين ليلة، قال تعالى: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ (٨٣) قال هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ (٨٤))(طه: 83و84).
وتجده بوضوح في اختلاء مريم في المسجد الأقصى لعبادتها ومما حصل لها من الكرامة، والطعام الذي كان يأتيها من طعام الجنة: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيهَا زَكَرِيا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يا مَرْيمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ)(آلعمران: 37). وما ورد من اعتكاف أنبياء الله(عليهم السلام) كسليمان وإلياس وأتباع عيسى(عليه السلام).
يعتبر الدعاء والعبادة من سبل بناء النفس، ومن أهم هذه السبل المشاركة في الاعتكاف؛ لأنّ الاعتكاف من أكمل العبادات الفردية، ويؤدي إلى تقريب العبد من ربه.
الاعتكاف سير نحو التوبة وعودة إلى المعنوية، والاعتكاف حياة جديدة في صحراء غفلة الإنسان، وهذه الدورة القصيرة أفضل فرصة لبناء النفس وإزالة أدرانها.
إنّ هذه المراسم المعنوية حرب ضد الغرور والغفلة، وميدان لإزالة العيوب، وفرصة للعبادة والانقطاع عن التعلقات الدنيوية، وواحة للعاشق ليجد الوقت للاتصال بمعشوقه في جو من الروحانية والبعد عن الماديات.
الاعتكاف لغةً
الاحتباس والإقامة على شيء بالمكان، كما حكاه في الحدائق عن اللغويين(1). مصدر على وزن افتعال من الفعل «عكف».
قال ابن فارس: (العين والكاف والفاء أصل صحيح يدل على مقابلة وحبس)(2).
وفي لسان العرب: (وهو من عكف على الشيء يعكف عكفاً وعكوفاً، أي: لزم المكان)(3).
و قال الراغب الأصفهاني في المفردات: (العكوف الإِقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له)(4).
المكث في المسجد بقصد التعبُّد لله وحده، كما صرّح به الفقهاء على اختلاف تعابيرهم(5). وفي جواهر الكلام: (الاعتكاف لغة هو الاحتباس، ومنه اللبث الطويل الذي هو أحد أفراد لزوم الشيء النفس عليه براً كان أو غيره قال الله تعالى: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) أي لازمون لها وحابسون أنفسكم عليها، نحو قوله: (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ) وشرعًا على وجه النقل أو المجاز الشرعي هو اللبث المتطاول للعبادة)(6). وهو مشروعٌ قرآناً وسنّةً وإجماعاً.
الاعتكاف في القرآن الكريم
لم يرد في القرآن لفظ الاعتكاف ولكن وردت مشتقاته سبع مرات بشكل اسم فاعل، ومرة واحدة بشكل اسم مفعول، وكذلك مرة واحدة بشكل مضارع، وننقلها كالتالي:
عاكف:
1ـ قال تعالى: (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)(البقرة: 187)
ليس الاعتكاف خاصًا بالإسلام، بل هو موجود في الأديان الإلهية، فهو من جملة العبادات التي أكدّت عليها سائر الأديان، فضلاً عن الدين الإسلامي، كما اهتم أنبياء الله(عليهم السلام) كافة بمسألة تعظيم الاعتكاف، وفي الدين الإسلامي المقدّس نجد القرآن الكريم أيضًا يؤكّد تأكيدًا خاصًا على الاعتكاف.
قال العلاّمة الحلّي عن الاعتكاف: (وهو مشروع في شریعتنا والشرایع السابقة، ومستحب بإجماع العلماء)(7).
ولابد من الإشارة إلى أننا لا نعرف الكثير عن أحكام وتفاصيل عبادة الاعتكاف في الأديان السابقة، وإنما يفهم من النصوص المنقولة أنه نحوٌ من التفرغ للعبادة والتأمل، وابتعاد عن الحياة العادية للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
ويفهم من الآية الكريمة(8) أن الاعتكاف كان موجودًا في شريعة نبي الله إبراهيم(عليه السلام)، ومن العبادات التي شرعت آنذاك، نعم لا نعرف تفاصيله.
كما يفهم من الآية الكريمة الأهمية التي أولاه الباري تعالى حيث أمر نبيَّين من الأنبياء لأجل تهيئة مقدمات هذه العبادة، وجعل البيت الحرام ـ وهو من أقدس الأماكن ـ مكانًا لها.
ويُنقل عن أجداد النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وهم من أتباع دین إبراهیم(عليه السلام) أنهم كانوا يعتكفون في بعض المغارات.
كما أن النبي(صلى الله عليه وآله) نفسه ـ قبل البعثة ـ كان يتعبد في غار حراء.
جاء في كتاب المفصل في تاريخ العرب: (وقد نسب الاعتكاف في الكهوف وفي البراري وفي الجبال إلى عدد من هؤلاء الحنفاء. فقد ذكر أهل الأخبار أنهم كانوا قد اعتكفوا في المواضع الخالية البعيدة عن الناس، وحبسوا أنفسهم فيها، فلا يخرجون منها إلا لحاجة شديدة وضرورة ماسة. يتحنثون فيها ويتأملون في الكون، يلتمسون الصدق والحق. والتحنث التعبد. فكانوا يتعبدون في تلك المواضع الهادئة الساكنة، مثل غار (حراء) وقد ذكر أن الرسول كان يتحنث فيه الليالي، يقضيها في ذلك الغار)(9).
موسى(عليه السلام)
ترك موسى أمته للتفرغ لعبادة ربه ـ ورغم عظم المسؤوليات الملقاة على عاتقه وهداية بني إسرائيل ـ إلى جبل الطور فجاء في القرآن الكريم تبيانٌ لذلك:
قال تعالى: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ (٨٣) قال هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ (٨٤))(طه: 83و84).
ويستفاد من كلام العلاّمة المجلسي: أن موسى(عليه السلام) كان صائمًا ومعتكفًا لأجل أخذ الألواح في جبل الطور(10). وكان بيت المقدس من الأماكن التي تؤوي الكثير من المعتكفين للعبادة وكان هناك من يقوم على خدمتهم ومن كبارهم زكريا(عليه السلام)،وكان يهتم ويشرف على اعتكاف السيدة مريم(عليها السلام)، حيث يمكن اعتبار إقامة مريم(عليها السلام) في المسجد الأقصى من مصاديق الاعتكاف؛ لأن أمها نذرت أن تكون مريم وقفًا لعبادة الله، قال تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا…)(آلعمران: 35).
وبعد بلوغها تكفلها زكريا(عليه السلام) وجعل لها مكانًا خاصًا في المسجد الأقصى لعبادتها، وأشار القرآن الكريم إلى الكرامة التي كانت تحظى بها من الله جل وعلا: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيها زَكَرِيا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ یَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ)(آلعمران: 37).
وأشار العلامة الطباطبائي في تفسیر المیزان إلى اعتكاف مريم عند حديثه عن قوله تعالى: (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) الحجاب ما يحجب الشيء ويستره عن غيره، وكأنها اتخذت الحجاب من دون أهلها لتنقطع عنهم وتعتكف للعبادة)(11).
سليمان (عليه السلام)
في البحار: (قال الطبرسي (رحمه الله): قيل: إن سليمان(عليه السلام) كان يعتكف في مسجد بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل وأكثر)(12).
إلياس (عليه السلام)
ينقل العلاّمة المجلسي قصة عن اعتكاف حضرة إلیاس(13).
عيسى (عليه السلام)
الرهبانية والابتعاد عن مشاغل الدنيا والاعتكاف والخلوة للعبادة مما امتازت به المسيحية، نعم أشار القرآن الكريم أنهم ابتدعوها ولم تكن مشرعة من الله جل وعلا: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)(الحديد: 27).
أصحاب الكهف
وهم لجأوا إلى الكهف فرارًا من أذى اليهود وللتفرغ للعبادة: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)(الكهف:10).
وفي آية أخرى يشير القرآن إلى اعتزالهم عن قومهم: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا)(الكهف:16).
ومما تقدم يتضح أن الاتصال بالله جل وعلا والانقطاع لعبادته بأوقات خاصة، والبعد عن الحياة العادية، والذي هو الاعتكاف موجود في كل الأديان، وإن اختُلف في أحكامه وتفاصيله، لكنه كمضمون واحد فيها جميعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) الحدائق الناضرة 13: 455. 2) مقاييس اللغة (4: 108)، مادة (عكف). 3) لسان العرب (9 :255)، مادة (عكف). 4) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني (ت 425 هـ)، ص342، الطبعة الثانية 1404هـ، الناشر: دفتر نشر الكتاب. 5) راجع: المستند في شرح العروة الوثقى،ج 12 (الصوم): 334. 6) جواهر الكلام، ج 17، الاعتكاف، ص 159. 7) تذكرة الفقهاء، للعلاّمة الحلّي، ج1 ص 284، بداية بحث الاعتكاف. 8) لابد من الإشارة إلى أن الاستفادة المذكورة من عبارة (العاكفين) من أن المراد الاعتكاف المصطلح كما استفاد ذلك جماعة من الفقهاء والمفسرين، ولكن ذهب الأكثر من المفسرين والفقهاء أن المصطلح المذكور يراد منه المجاورين والساكنين في مكة المكرمة، وتكون حينها الآية أجنبية عن البحث. 9)كتاب المفصل في تاريخ العرب، جلد 6، صفحه 509 د. جواد علي، آخر الفصل الخامس والسبعين ( الحنفاء) المجلد الثالث. 10) هامش بحار الأنوار، ج 86، ص 38، وجاء في الهامش ما نصه: (ويستفاد هذا الحكم من كتاب الله عز وجل بمعونة السنة أما الكتاب فحيث يقول عز وجل: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) والمراد بالعاكف المقيم قطعًا كما في قوله عز وجل: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ). وأما السنة فحيث امتثل رسول الله(صلى الله عليه وآله) دعوة الآية الكريمة، واعتكف في مسجده عشرة، حتى أنه لم يعتكف في سنة فقضاها في السنة التي بعدها عشرين: عشرة أداء وعشرة قضاء، فصار الاعتكافُ في محلٍ عشرةً من تمامِ الإقامة. بل ويدل على ذلك بوجه أما جمع قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أي كان يواعده كل ليلة أنه إذا تم ميقاته واعتكافه بالصوم والصلاة أنزل عليه التوراة، وهو(عليه السلام) ينتظر في كل ثلاثة أيام نزول التوراة لما كان بحسابه أن اعتكافه بالصوم والصلاة إنما يتم في ثلاث، على ما أمرهم الله عز وجل بالصيام ثلاثة أيام – أيام العشر: العاشر والحادي عشر والثاني عشر من كل شهر كما مر في ج 83 ص 91. لكنه(عليه السلام) لما كان مسافرًا ولم يقصد الإقامة عشرًا، كان ميقاته واعتكافه غير تامين حتى مضى ثلاثون تمام الشهر، وانقطع حكم السفر وصار اعتكافه وميقاته في العشرة بعدها تامًا واقعًا في محله ونزلت عليه التوراة فيها حكم الله عز وجل. وهذا معنى قوله عز وجل: (وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)، وفقًا لقوله عز وجل: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أي كنا نواعده أربعين ليلة: كل ليلة نقول: أما إذا أتم الاعتكاف والميقات نزلت عليه التوراة، ولم يتم إلا بعد الأربعين: لم يتم في ثلاث لأن أقل الإقامة عشرة، ولم يتم في العشرات الأول لكونه مسافرًا. وإنما لم يوح إليه بأن اعتكافه لا يتم إلا بعشرة عن قصد إقامة، ليفتتن طول ذلك قومه قال عز وجل: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ). وذلك لأن الله عز وجل واعدهم جميعًا جانب الطور الأيمن، لكن موسى(عليه السلام) استبطأهم لمسيرهم بالأثقال والأطفال وخلف فيهم أخاه هارون وتعجل إلى الميقات بنفسه، ليتم ميقاته واعتكافه مدى سيرهم إلى الطور، فيتوافق نزوله من الطور مع وصول قومه، فقد كان بخلده (عليه السلام) رقى قومه وهدايتهم إلى أرض القدس بنفسه، والله عز وجل بالرصد من افتتانهم بعد إيمانهم (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ). 11) الميزان، السيد الطباطبائي، ج14: 34. 12) بحار الأنوار، ج14: 141. 13) بحارالأنوار،ج13: 403.