إنَّ الإعراب ليس ترفاً لغوياًوإنّما جيء به للدلالة على معانٍ إعرابية، وحركات الإعراب شرط من شروط الفصاحة العربية في جوانبها النطقية والكتابية والدلالية، ولا شكَّ في أنَّ الأثر الإعرابي قرينة لفظية من جملة القرائن التي تعين على توضيح وظيفة الكلمة في التركيب حينما يقع الغموض بين عناصره.
وقد خصَّ شُرّاح نهج البلاغة ظاهرة الإعراب ودلالاتها بعناية كبيرة ؛ لأنَّها تُعينهم في فهم كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)،
والكشف عن أسراره والنظر في الجملة وسبكها ومحلّها الإعرابي، لذا كثُر استقصاؤهم الوجوه النحوية للعلامات الإعرابية، ولاسيما النصب منها، لكثرته أولاً، ولكثرة الوظائف النحوية والدلالية التي يحتملها النصب ثانياً، مستدلين بالسياق الذي يرد فيه نص الإمام (عليه السلام) ومقتضى حاليته، بما في ذلك حال المتكلم، وحال المخاطب، والسياقان الداخلي والخارجي الَّلذان يحيطان بالنص، ونحاول هنا أن نتعرض لأمثلة من دلالات النصب التي تناولها شُرّاح النهج ومناسبتها لمعنى كلام الإمام (عليه السلام):
* قال الإمام (عليه السلام) في ذم الدنيا وفنائها: ((أوْصِيكُمْ عِبادَ اللهِ بِتَقْوى اللهِ الَّذي ضَربَ الأمْثالَ، ووَقّتَ لَكُمْ الآجَالَ، وألبَسَكُم الرّياشَ، وأرْفَغ (1) لَكُمُ المَعَاشَ، وَأحَاطَ بِكُمُ الإحْصَاءَ، وَأرْصَدَ لَكُمُ الجَزاءَ)) (2)، وقد ذهب جملة من شرّاح النهج إلى أنَّ)الإحصَاءَ) في قول أمير المؤمنين(عليه السلام) منصوب على أنهُ مفعول به، مستدلين بالسياق الذي ورد فيه لفظ (الإحصاء)، وموافقتهُ في الإعراب للمنصوبات قبله وبعده، إذ ((الإحصاء هو مفعول به معيناً كالمعاش والجزاء في الفقرتين قبل وبعد))(3).
ولا شكَّ في أنَّ (المَعَاشَ) في قوله)وأرْفَغَ لكُم المَعَاشَ(، والجزاء في (وَأرْصَدَ لكم الجَزاءَ) هما مفعولان به، فاقتضى النسق الذي ورد فيه (الإحصاءَ) متوسطة بينهما أن تعرب مفعولًا به للفعل)أَحْاطَ) المزيد بهمزة دالّة على الصيرورة والجعل، وكأنه (عليه السلام) ((جعل الإحصاء والعدّ كالحائط المدار عليهم ؛ لأنَّهم لا يبعدون فيه ولا يخرجون عنه))(4).
ثُمَّ كثُرت الآراء النحوية في توجيه نصب (الإحْصَاءَ)، إذ ذهب ابن ميثم البحراني إلى أن الإحصاء منصوب على التمييز، ولم يفصّل في علّة هذا الحكم(5).
ورأى محمد جواد مغنية أنَّ (الإحصاءَ) تمييز نسبة محوّل من المفعول به، والأصل: أحاط الإحصاءَ بكم، فحوّل المفعول إلى التمييز(6)، ويبدو أنَّ التمييز إنّما يحوّل إلى المفعول لغرض المبالغة في الحدث والاتساع والشمول، كقوله تعالى:
﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾(7)، أي: جعلنا الأرضَ كلَّها كأنَّها عيونٌ تنفجرُ، وهو أبلغ من قولك: وفجرنا عيون الأرض ؛ لأنّه يكون حقيقة لا مبالغة فيه(8)، وإنّما يُعدَلُ عن هذا الأصل ليكون فيه إجمالٍ ثمَّ تفصيلٍ فيكون أوقعُ في النفس. لأنَّ الآتي بعد الطلب أعزُّ من المنساق بلا طلب(9)،
وقد ضعّف التستري هذا الوجه بحجة أنَّ ((التمييز يصحُّ لو كان نكرة، كقوله تعالى:﴿ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا﴾(سورة الكهف: 91) (10)، وقد ذكر أبو البركات الأنباري (577 ﻫ) علّة مجيء التمييز نكرة فقال: ((فإن قيلَ لِمَ وجبَ أن يكون التمييز نكرة ؟ قيل: لأنَّهُ يبين ما قبله، كما أنَّ الحال يبيّن ما قبله ولمّا أشبه الحال وجب أن يكون نكرة))(11)، وأوضح الرضي ذلك فقال: ((وأصل التمييز التنكير لمثل ما قلنا في الحال، وهو أن المقصود رفع الإبهام، وهو يحصل بالنكرة، وهي أصلٌ، فلو عُرِّف وقع التعريف ضائعاً))(12).
ومما يُرَدُّ على ما ذُكر مِن أنَّ (الإحصاءَ) يعرب تمييزاً محولاً من المفعول أنَّ هذا النوع من تمييز النسبة لم يقل به علماء النحو المتقدمون، وإنما وقع حكمه عند متأخريهم، وقد اختلفوا فيه اختلافاً كبيرًا (13).
ويمكن القول: إنَّ الاستدلال بسياق الخطبة في ترجيح كون (الإحصاء) مفعولاً به أولى بالقبول، فقد انتصبت الألفاظ قبله وبعده على المفعولية، فضلاً عن أنَّ بعض الشرّاح ذهب إلى أنَّ أصلَ التركيب (أحاطكم بالإحصاء) فَعُدِل عن هذا الأصل، لتقع حيطة الله تعالى على (الإحصاء)، للتنبيه على أنَّ الإحصاء ليس عوناً له تعالى في حال جرّه بالباء في التركيب (أحاطكم بالإحصاء)، فيكون المعنى: أحاطكم مستعيناً بالإحصاء أو بسببه أو بواسطته ؛ وإنما الإحصاء ضمن المخلوقات كالبشر، وهو شيء مُلازم للبشر، فتكون الباء في (أحاط بكم الإحصاءَ) للإلصاق، والإحصاء مفعول به، والمعنى خلق الإحصاء وألصقه بكم.
* قال الإمام (عليه السلام) في زهد النبي (صلى الله عليه وآله): ((قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وصَغَّرَهَا، وَأَهْوَنَ بِهَا وَهَوَّنَها، وَعَلِمَ أنَّ اللهَ زَواهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً، وَبَسَطَهَا لِغَيْرهِ احْتِقَاراً))(14)،
وقد ذهب ابن أبي الحديد ومن تابعه، إلى أن (اختياراً) منصوب على نزع الخافض من الفعل (عَلِمَ)، وفاعله الضمير المستتر العائد على النبي (صلى الله عليه وآله)، أي: بمعنى أن الله زوى الدنيا عن النبي(صلى الله عليه وآله) باختيار النبي(صلى الله عليه وآله)لذلك رفعةً لشأنه وبياناً لاستعداده وتهيئة نفسه لتحمل أعباء الرسالة، إذ قال ابن أبي الحديد: ((أي قبض الدنيا عنه باختيارٍ ورضا من النبي بذلك، وعلم بما فيه من رفعةٍ ومنزلةٍ في الآخرة)) (15).
على حين ذهب بعض الشُرّاح إلى أنَّ (اختياراً) مفعول له لقوله (زوى)، فيكون الفاعل الضمير المستتر العائد على الله سبحانه وتعالى الذي اختار لنبيه الآخرة على الدنيا، فيكون معنى قول الإمام: ((إنَّ الله زواها عنه باختياره تعالى له الأصلح))0(16)، أي: أن يكون المصدر المنصوب (اختياراً) مبيناً لسبب انزواء الدنيا عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فيكون الاختيار بمعنى التخيير والتفضيل على سائر الناس الذين انكبوا على الدنيا.
وبهذا رُدَّ رأي ابن أبي الحديد، الذي ينصب (اختياراً) على نزع الخافض ؛ لأنَّ تقدير خافض منزوع في هذا السياق يؤول إلى أنَّ الاختيار آلة أو واسطة لانزواء الدنيا عن النبي وهو غير موجّه، ولا يجري مع سنن البشر في الدنيا والآخرة، ورأى حبيب الله الخوئي وجهاً آخرَ لنصب (اختياراً) بأنَّهُ حالٌ مِن فاعل للفعل (زوى)، أو من الضمير المتصل في حرف الجر(عَن) ؛ وذلك على أساس أنَّ المصدر مؤول بالمشتق،أي زواها عنه مختاراً بصيغة اسم الفاعل، إذ قال: ((أي: مختارًا بصيغة اسم الفاعل منه باختيار سبحانه وتعالى، أو اختيار منه(صلى الله عليه وآله)ذلك لنفسه))(17).
ويُفهم من هذا أنَّ الخوئي قَد وجّهَ الحال المصدر على ما قال به سيبويه، في أنَّ المصدر يأتي حالاً على خلاف الأصل مؤولاً بالمشتق ؛ لتستقيم قاعدة أنَّ الحال وصفٌ مشتقٌ لصاحبه، كقوله تعالى:﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾(سورة الرعد: 15) ذلك أنَّ المصدر ليس فيه معنى فاعل الحدث فهو لا يصلح أن يكون حالاً، لذا وجب تأويله بالمشتق ليتحمل الحدث وفاعل الحدث الذي يوصف به(18).
ويبدو أن الرأي الأولى بالقبول مناسب لمَا يُفهم من معنى قول أمير المؤمنين(عليه السلام) أنَّ الله قد اختار لنبيه الأكرم(صلى الله عليه وآله) فزوى الدنيا عنه ليستعدَّ لحال النبوّة، والقيام بأعباء الخلافة الإلهية، ولا شكَّ في أنَّ هذا المعنى يُشير ضمناً إلى استعداد الرسول (صلى الله عليه وآله) لهذا الاختيار.
* قال الإمام (عليه السلام) في خطبة له تسمى القاصعة، وردَ فيها ذم إبليس والتحذير من الكِبَرِ: ((فاللهَ اللهَ فِي كِبْرِ الحَمِيَّةِ، وَفَخْرِ الجَاهِلِيَّة !، فإنّهُ مَلاقِحُ الشَّنآنِ، ومَنَافِخُ الشَّيْطانِ، الّتِي خَدَعَ بِهَا الأُمَمَ المَاضِيَة، والقُرُوْنَ الخَالِيَةَ، حَتّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ، ومَهَاوِي ضَلالَتِهِ، ذُلُلاً عَنْ سِيَاقِهِ، سُلُسا فِي قِيَادِهِ، أَمْرًا تَشَابَهَتِ القُلُوْبُ فِيْهِ وَتَتَابَعتْ القُرونُ عَلَيهِ))(19)،
لمّا وقف الشُرّاح على قوله (عليه السلام)(أمراً) كثرت أقوالهم في توجيه إعراب(أمراً)، إذ قال التستري: ((الصواب كونه خبراً لـ(كان) محذوف، وحذف كان مع اسمها وإبقاء خبرها بعد (إنْ) و (لو) كثير في كلام العرب، كقوله تعالى: ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ (سورة (يس): الآية:5) والتقدير: كان ذلك تنزيل العزيز الرحيم))(20)،
قال الزمخشري: ((وقُرئ (تنزيل) بالرفع على أنه خبر محذوف، وبالنصب على أعني))(21)، وهو بذلك غَلَّطَ ابن ميثم البحراني في توجيه نصب (أمراً) إذ قال ابن ميثم: ((أمراً منصوب بتقدير فعل مضمر، أي: اعتمدوا أمراً تشابهت قلوبهم فيه وتتابعت القرون الماضية منهم على اعتماده، وهو الفخر، ونفخ الشيطان، الإعناق في جهالته وضلالته))(22).
وكذلك غلّطَ الخوئي الذي ذهب إلى أنَّ (أمراً) منصوب على نزع الخافض متعلق بقوله (اعنقوا)، أي: أسرعوا إلى أمرٍ تشابهت القلوب فيه(23)، مُحتجاً بأن نزع الخافض يحتاج إلى قرينة دالّة هنا، إذ قال التستري في إنكار رأي من سبقه: ((وكلُّ بلا معنى فإنّهم لم يعتمدوا ولم يسرعوا إلى أمرٍ بذاك الوصف، وإنما عملوا عملاً كان بذاك الوصف، ونزع الخافض يحتاج إلى قرينة وليست هنا)(24).
ورأى التستري أنَّ قول الإمام (عليه السلام) الأصل فيه قوله تعالى:﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾(البقرة:الآية 118).
ويمكن القول إنّ (أمراً) إنما نُصِبَ على التحذير بتقدير: أحذركم أمراً تشابهت قلوبكم فيه، ولا يحتاج إلى تقدير محذوف في الأصل إلاَّ من باب الإيضاح، ويعضّدهُ نصب (اللهَ اللهَ) في بدء كلامه عليه السلام، ﻓـ (أمراً) في حكم المُقَدَّم بعد (اللهَ اللهَ) أمراً تشابهت، والمعنى: أُحذركم عذابَ اللهِ من أمرٍ تشابهتِ القلوبُ فيه.
نشرت في العدد 55
الهوامش:
1- الرَّفْغُ: سعة العيش والخَصبُ، يقال رَفَغَ عَيْشَهُ رفاغة: أي: اتسع، ينظر: لسان العرب 8 / 429 (رفغَ) , وتاج العروس 1 / 5662 (رفغ).
2- نهج البلاغة، الخطبة 83 /ص 121 (صبحي الصالح).
3- بهج الصباغة 11 / 209.
4- شرح ابن أبي الحديد 6 / 243.
5- ينظر: شرح ابن ميثم البحراني 2 / 233.
6- ينظر: شرح نهج البلاغة ﻟ (محمد جواد مغنية) 2 / 138.
7- سورة القمر:الآية 12.
8- ينظر: الكشاف 4 / 309،والتفسير الكبير 14 / 485، والبحر المحيط 10 / 425.
9- ينظر: حاشية الصبان 2 / 195.
10- بهج الصباغة 11 / 309.
11)أسرار العربية: 199، وشرح الكافية الشافية 1 / 344.
12- شرح الرضي على الكافية 2 / 72، وينظر:شرح التسهيل 2 / 379، وشرح الكافية الشافية 1 / 344.
13- ينظر: شرح الرضي على الكافية 2 / 63، وارتشاف الضرب 2 / 377، وحاشية الصبان 1 /286، وشرح التصريح على التوضيح 1/ 618، وهمع الهوامع 2 / 266.
14- نهج البلاغة، الخطبة 109 / ص203.
15- شرح ابن أبي الحديد 7 /271
16- بهج الصباغة 2 / 336.
17- منهاج البراعة 7 / 373.
18- ينظر: الكتاب 1 / 77، والمقتضب 3 / 236، والأصول في النحو 1 / 163، وشرح الكافية الشافية 1 / 330 وشرح ابن عقيل 1 / 632.
19- نهج البلاغة، الخطبة 192 / ص 364.
20- بهج الصباغة 14 / 264.
21- الكشاف 3 / 642.
22- شرح ابن ميثم 4 / 240.
23- منهاج البراعة 11 / 302 .
24-ص بهج الصباغة 14 / 264 .