الشيخ قاسم محيي الدين: هو الشيخ قاسم ابن الشيخ حسن بن الشيخ موسى بن الشيخ شريف بن محمد بن يوسف بن جعفر ابن علي بن حسين بن محيي الدين الأول بن عبد اللطيف ابن علي نور الدين بن أحمد شهاب الدين بن محمد بن أحمد بن على بن أحمد جمال الدين بن أبي جامع العاملي الحارثي الهمداني 1314هـ ـ 1376هـ، 1956م.
ولد في النجف الأشرف في 25 رمضان 1316هـ(1)، توفي والده وهو صغير، فكفله جده الشيخ جواد. ثم خاله الشيخ أمان، وكان موضع رعاية الأسرة، وقد ظهرت عليه علامات النبوغ مبكراً، فاجتهد في الدرس والتحصيل حتى فاق الأقران.
قرأ المقدمات على أساتذة معروفين، وأخذ علم العروض على السيد رضا الهندي(2)، والأصول والفقه على مشاهير العلماء كالشيخ محمد حسين الأصفهاني، والشيخ أغا ضياء العراقي، والسيد أبو الحسن الأصفهاني والسيد فتاح الشهيدي، وأخذ عليه مقدمات العلوم فريق كبير من أعلام الفضل كالشيخ محمد رضا المظفر، والشاعر محمد مهدي الجواهري، والشاعر صالح الجعيفري وغيرهم. كما أخذ عليه علم العروض.
سافر إلى سوريا ولبنان عام 1353هـ وهناك التقى بأعلام آل محي الدين أقاربه، كما التقى بمشاهير العلماء والأدباء في القطرين كآل الزين وآل شرف الدين، وآل الفقيه، وآل الحر وآل عسيران وآل الأمين. ودارت له معهم مساجلات علمية وأدبية، ومناظرات فكاهية ونكات مستملحة. كما وقعت له مع علماء الثالوث مناظرات ذات شأن فكان وهو من أتباع التوحيد قد استظهر على ناموس الثالوث كما أراد الحق، وجرى ذلك في قرية (جرجوع) بالقرب من جبع الحلاوة.
امتلك شخصية رقيقة، حبيبة إلى أكثر النفوس، جمع بين العلم والأدب ومجلسه العامر في كل ليلة، بل في كل يوم، يغص بفريق من أهل الفضل والكمال، تدور فيه أمتع الأحاديث الملذة، وشخصه المتنقل بين أفراده، والمحوج له بنكاته، والمهيمن عليه بفطنته حتى تميز عن معظم مجالس أهل الفضل في النجف الأشرف.
والحق إن الشيخ قاسم من الشخصيات العلمية النادرة المثالية بمجموعها ففيها ما لم تتصور من الروحية والمرح والنبل والإصلاح وحب الخير والدفاع عن الحوزة الدينية التي أخذت تنهار كثير من جوانبها.
وتحيط هذا المجلس مكتبته التي وضعها تحت تصرف الوافدين عليه وقد غصت رفوفها بالكتب المتنوعة، كما تجد في شخصه فهرساً كبيراً يعلمك بأي كتاب عنده، وباسمه، وما فيه على الأكثر.
نشأ نشأة صالحة جرياً على سيرة آبائه الأتقياء العلماء، فأخذ يمتزج بشيوخ وشباب البلد المقدس ويسعى لاستعادة مجده الذي كاد أن يندثر، فأعاد لبيته سمعة وصيتاً، وتحرى مخلفات آبائه فاستطاع أن يحصل على أكثرها بأساليب مختلفة وبعناء كبير، وناديه الذي رافقه من النشأة كان أحد عوامل التسلي لأصحابه والانشراح لهم ففيه تدور مساجلات من الطراز الفكاهي النادر، ولاسيما إذا عرفنا بأن الشيخ قاسم قد أتمت بعينية علة منذ الصغر منع على أثرها من القراءة، فاضطر إلى ترك الدرس العلمي فليلاً واتجه إلى الأدب. لكنه عاد وترك النظم واتجه إلى الشهرة العلمية والمكانة الدينية، ولم يترك النظم في النظم في الأئمة الأطهار إذ نذر لله أن لا يقول إلا فيهم.
تفنن في نظم أنواع الشعر السائد في عصره ولاسيما الموشحات وقصائد المناسبات ورثاء آل البيت المطبوع في كتابه (الشعر المقبول في رثاء آل الرسول والرسول) بجزئين في النجف، له مجموعة من المؤلفات ذكرها في (العلويات).
القصيدة:
ظعن الخليط فأعيني لا تهجع
قد زاحمت فيها السهاد الأدمع
ونشرت أجفاني سحاباً صيباً
وطويت قلبي غلةً لا تنقع
ها فانظروا لأضالعي ومدامعي
لا الدمع يطفيها ولا هو يقلع
لم تبك تلك الربوع صبابة
إلا بكت شجواً عليَّ الأربع
ولقد رموا قلبي عشية ودعوا
حرقاً فمالي بالتجلد مطمع
وإليك عني يا عذول فليس من
ألم النوى وأبيك مثلي يجزع
ما هد ركن الصبر غير تذكري
من جنة المحراب وهو المصرع
فأعاد لي شجواً تكاد به الحشا
من عظم ما قد راعها تتقطع
لم أنسه إذ قام في محرابه
وسواه في طيف الكرى يتمتع
فانسل يستل ابن ملجم سيفه
متخفياً والليل داج أسنع
وعليه مذ رفع الصفيحة كاد من
جزع يخر له الصفيح الأرفع
وغدا يقنع رأسه في صارم
أضحى عليه وهو يسجد يركع
وتقحم النهج الوسيع ورجله
بالرعب تعثر حيث ضاق المفزع
والمسلمون تزاحموا في أخذه
وعليه قد سلوا السيوف وأسرعوا
فتراهم ما بين مرتاع الحشا
فكأنه كأس الردى يتجرع
ومكفكف دمعاً يسيل بقلبه
لم يدر مما راعه ما يصنع
ونعاه جبريل ونادى بالسما
وعليه كادت من شجىً تتصدع
اليوم أركان الهدى قد تهدمت
اليوم شمل المسلمين موزع
اليوم قد قتل ابن عم المصطفى
اليوم عم الدهر خطب أشنع
اليوم قد قتل الإمام المرتضى
اليوم قد قتل الوصي الأنزع
اليوم أُثكل أحمد بوصيه
اليوم بيت الوحي قفر بلقع
اليوم أودى بالمكارم والعلا
خطب له صم الصفا تتصدع
لهفي لمن خضبته دماؤه
وعليه أملاك السما تتوجع
لهفي لمن فقده الفرقان با
ك والهدى متفجع متوجع
لم أنس زينب إذ رأته وجسمه
من فيض مفرقه الشريف ملفع
فجرت مدامعها بمثل دمائه
وفؤادها بشجونه يتقطع
تدعو بصوت طبق الدنيا الأسى
أبتاه من ذا بعد فقدك مفزع
أبتاه من ذا بعد فقدك للورى
غوث إذا ريعوا وغوث ممرع
من للأرامل واليتامى ملجأ
لولاك من للدين بعدك مرجع
فلقد أذبت حشا المكارم والعلا
وعليك دين محمد متفجع
المرجع الرئيس لهذه القصيدة هو بيان الصورة الفاجعة لمقتل الإمام علي(عليه السلام) وما جر هذا المقتل المأساوي من آلام فاجعة ظهرت آثارها في النصف الثاني من النص.
وقد استقطب هذا المرجع كل حركات الفعل المجرم الذي أدى إلى هذا المصرع، راسماً الصورة العامة لتلك اللحظات ببيان أثرها في المسلمين، ملتقطاً في أثناء ذلك بطريقة سردية واضحة الوحدات الرئيسية للحدث. ثم الخلاص منه إلى بيان نتائج تلك الواقعة، والإقرار بوقوعها لتعميق أثرها في وعي المتلقي، وقد اتسم أداء ذلك على وحدات رئيسية كونت النص بنائياً وهي كالآتي:
الوحدة الأولى:
وتمتد بين الأبيات من 1ـ7، وهي الأبيات الافتتاحية التي اتخذت من صيغة النسب التقليدية نمطاً أدائياً لها، منطلقة من تقرير لحظة الانفصال الواقعة في الفعل وفاعله (ظعن الخليط) وما استتبع ذلك من مظاهر الحزن الأخرى، وهي مظاهر مضخمة تتجاوز حدود الواقعة التي أدت إلى ذلك وهي (ظعن الخليط) إذا ما قيست بدلالاتها الحقيقية، وهي دلالة مؤقتة، لأن لها دلالة أخرى تتحقق كون المقصود إنما هو الحال المكنى عنها بيت الافتتاح، حيث تتكشف بالتصريح في البيت السابع:
ما هد ركن الصبر غير تذكري
من جنة المحراب وهو المصرع
فهو يبدأ بالنفي المنقوص بالاستثناء (بغير) فالبيت يحمل فعلاً ارتدادياً يصبح معه تذكر من ضمه المحراب هو السبب الحقيقي لكل ما سبق أن ساقته الأبيات الستة السابقة من مظاهر حزن فاجعة، وليصبح معه المفتتح في (ظعن الخليط) فعلاً مشيراً إلى غياب الإمام، المقتول ومفارقته، وهنا يتحقق التسويغ الفني والنفسي لحجم الحزن الفاجع الذي يتقدم النص، ويلقي عليه تلك الضلالة الثقيلة التي تجعل الأداء فيه ثقيلاً متباطئاً، يتناسب مع حالة الحزن الغامرة، وليستطيع أن يعبر عنها ـ فنياً ـ بحسب ما تتطلبه.
الوحدة الثانية:
إن فعل التذكر المنصوص عليه في هذا البيت يصبح منطلقاً للانفتاح على المأساة، وإذا كان هذا الانفتاح يتأجل قليلاً حين الإلتفات في البيت الثامن إلى عظمة الشجو الذي يقطع الحشا، فإنه يجد انطلاقه الحقيقي في الفعل الرديف(لم أنسه…) في البيت التاسع فيبدأ فاصلاً سردياً تقدم فعل أداء الجريمة منذ لحظة قيام الإمام(عليه السلام) إلى محراب الصلاة، وهو المكان الذي سيكون موضع استشهاده، ليخلق اتحاداً أزلياً بين الشهادة والعبادة، إذ إن البيت يجعل الإمام منفرداً بذلك وحده بطريق الاستثناء في قوله (وسواه في طيف الكرى يتمتع).
ويبدأ البيت العاشر بالفاء التي تفيد الترتيب ليعطي السرد فرصته لاتخاذ مساره التصاعدي، وقد استفاد هذا البيت، بل الشطر الأول منه من الطاقة الصوتية التي يوفرها الجناس الناقص في (انسل ـ يستل)، ولاسيما إنه يعزز بسين أخرى في (سيفه) الواقعة مفعولاً للفعل يستل مما يعني قوة الرابطة الصوتية المتحققة بتوالي السينات التي جسدت فعل الجريمة أكثر من كونها تمثل صفة لليل الذي وقعت فيه الجريمة.
ويستكمل البيتان(11، 12) مفاصل الجريمة بإيقاع فعل القتل مبيناً الحركات التي يتألف منها هذا الفعل (رفع الصفيحة، السيف) (يقنع رأسه في صارم، ويعرض البيت 13 رد فعل المجرم بعد إنجاز فعل الجريمة وهو يتجسد في محاولته الهرب. وقد غلب عليه حال من الرعب والفزع، وهو مظهر آخر من مظاهر عظم الواقعة، ولابد من الإلتفات إلى الدلالة المزدوجة لكلمة (نهج) في الشطر الأول من حيث أنها يمكن أن تحمل على دلالتها الواقعية (الطريق) أو الدلالية المجازية التي يمثلها الإمام(عليه السلام).
يتولد من فعل هرب المجرم فعل مضاد هو فعل المسلمين وهو ما يكون منطلقاً لوصف حال المسلمين وبيان وقع خبر الفاجعة عليهم ويستغرق ذلك في الأبيات الثلاثة (14ـ16).
يصف البيت 17 النداء الشهير الذي أطلقه الملك جبريل(عليه السلام) في السماء وذلك باستعمال أداة العطف وهي الأداة التي كانت لها السيطرة في تنظيم عملية تتابع السرد منذ البيت 10 حتى البيت 17 فتكررت الواو ست مرات والفاء مرة واحدة وهي نسبة تردد عالية جداً، مما يعني ضعف الترابط البنائي، واقتصاره على التراكم لأن الربط بالعطف هو من أضعف أنماط الربط ووسائله. ويماثل هذا نمط آخر من التكرار يمتد على مدى الأبيات 18ـ22وذلك بتكرار كلمة (اليوم) الظرفية ونسبة تردد بلغت تسع مرات في خمسة أبيات، وهي نسبة تردد عالية جداً ولاسيما أن الأبيات الخمسة قد اعتمدت أسلوب الترادف في عرض الخبر نفسه ولو نظرنا إلى صدري البيتين 19ـ20 لوجدنا التطابق الكلي في المعنى وشبه الكلي في المبنى، ويظهر التكرار مرة أخرى في البيتين 23ـ24 بكلمة (لهفي)، وقد وظف هذا التكرار من أجل تعميق الفكرة الرئيسية ونقل مدى وقع الفاجعة ومدى ما تركه من أسى.
يبدأ البيت 25 النظر إلى الفاجعة من زاوية جديدة وذلك بالإلتفات إلى بيان أثرها على إمرأة ارتبط اسمها تاريخياً وفي الضمير المسلم بأفجع المصائب، وتلك السيدة زينب(عليها السلام) ملتقطاً بعض مظاهر الحزن والأسى منقولة عبر الصوت الناطق في النص وهي صوت السيدة زينب نفسها بتكرار أداة النداء والمنادى: (أبتاه) مكرراً ذلك في البيتين 17ـ 18 ليختلط الصوتان (صوت الشاعر) و (صوت السيدة زينب) وهو اختلاط مموه، يؤذن بإيجاد نهاية للقصيدة.
استطاعت القصيدة، باعتماد الأسلوب السردي، ومتابعة جزيئات الحدث، أن تستفيد من أمكان التنويع في عدد الضمائر الواردة فيها، مع يسر الانتقال بين هذه الضمائر، مما أباح أمامها أفضل الإمكانات لإظهار حركة مناظرة لحركة الفعل القلق المتسارع، التي سيطرت في الجزء الأول من القصيدة. فيمكن بسهولة، ملاحظة ظهور الضمائر وتنابها في السرد: ضمير الغيبة، ضمير المتكلم، ضمير المخاطب، مما جعل القصيدة القائمة على القلق والحركة تترابط بنائياً وإن تعددت وسائل الربط.
وقد تجلى ذلك في:
1ـ الحركة على مستوى الأحداث وتتابعها السريع.
2ـ حركة الأشخاص الفاعلين في بناء الأحداث وهم: (الشاعر، الإمام، القاتل، المسلمون، جبريل، زينب).
3ـ المحيط أو البيئة: (السماء، الأفلاك، السيف، الدم).
تتسم القصيدة عموماً بالبساطة من حيث مظاهر البناء فالحجم هو 30 بيتاً، ومن حيث الاستعمال الطبيعي للعلاقات البلاغية السائدة. وقد مالت نحو إظهار التفجع لعظم المصيبة، ولذلك فهي تبدو أقرب من حيث طبيعة الإيقاع السائد فيها، إلى طريقة الإنشاد المنبري المعروفة، أكثر من كونها قائمة على أساس من الخلق الفني المعد لطبيعة تلقي أخرى، أي إن طبيعة التلقي القائمة على المشاركة الإنشادية، والتأثير المؤقت لطغيان العاطفة، هما اللذان يمنحان القصيدة قوتها.
ولعل من أبرز سمات هذه القصيدة اعتمادها الكبير في بنائها على الأداء السردي، وهو ما يترك فيها آثاراً مختلفة، فمن الآثار الإيجابية إن السرد قد ساهم في لم شتات القصيدة إذ وفر لها وحدة موضوعية جعلت الأفكار تتوالد من بعضها مع توالد وحدات الحدث الطبيعية في نموها التصاعدي، ولكن ضريبة هذا الإنجاز تتمثل في بعض الآثار السلبية التي يمكن أن يولدها الاعتماد على السرد ومنها مزاحمة البناء السردي لمتطلبات البناء الشعري مما يجعلها تقتصر على بعض التقنيات الجزيئية. إذ تغيب معظم العلاقات البلاغية ذات القيمة الإنجازية العالية، وينحسر مد بناء الصورة الفنية المعبرة حين تتضاءل فرص التعبير بها لتنحصر في زوايا ضيقة. بل تنتقل أحياناً مهمة بناء الصورة من الأدوات الشعرية،
التي يفترض أن تكون هي الأساس في البناء الشعري، إلى الأدوات السردية الطارئة، فتخضع الصورة لطبيعة عمل هذه التقنيات، وليس للعلاقات المجازية ذات الطبيعة الشعرية، وأهمية متابعة هذا الأمر تأتي من اتصاله بمدى عمق التجربة، ومدى إمكان التعبير عنها، إذ إنها ستغدو مع السرد: تجربة خارجية تبدو على درجة ما من الانفصال بين الشاعر وما يبينه، حين يتعامل مع تجربته بوصفها موضوعاً خارجياً، وهو ما يترك آثاره على طبيعة البناء المنجز في خصائصه التكوينية العامة، وهو كما سبق أن أظهر التحليل، بناء يقوم على أساس البناء الموضوعي للحدث، برغم البداية الذاتية للقصيدة، فالحدث وآثاره هو الذي شكل مرجعية البناء الأساس وليست العاطفة إلا تابعة لهذا البناء.
(1) هناك اختلاف في سنة مولده وقد أورد الشيخ علي الخاقاني عبارة: (ولد… قبل وفاة والده بسنة).
(2) وقد عارض الشيخ القصيدة الكوثرية المعروفة للسيد رضا الهندي بأخرى على وزنها ورويها أولها:
في فيك جرى ماء الكوثر فشكوت له العطش الأكبر
نشرت في العدد 12
المصادر:
1ـ شعراء الغري (النجفيات) علي الخاقاني المطبعة الحيدرية، النجف 1374هـ ـ 1955م.
2ـ الحالي والعاطل.